تقدّم مدوّنة “ديوان” الصادرة عن مركز مالكوم كير– كارنيغي للشرق الأوسط وبرنامج الشرق الأوسط في مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي تحليلات معمّقة حول منطقة الشرق الأوسط، تسندها إلى تجارب كوكبةٍ من خبراء كارنيغي في بيروت وواشنطن. وسوف تنقل المدوّنة أيضاً ردود فعل الخبراء تجاه الأخبار العاجلة والأحداث الآنيّة، وتشكّل منبراً لبثّ مقابلات تُجرى مع شخصيّات عامّة وسياسية، كما ستسمح بمواكبة الأبحاث الصادرة عن كارنيغي.
المشروع
إضاءة على النزاعات في المناطق الحدودية
في آسيا والشرق الأوسط وأفريقيا، تستمر النزاعات ويسود اللااستقرار في المناطق الحدودية المتنازَع عليها حيث تتفاعل التوترات المحلية مع الديناميكيات الإقليمية والعالمية. وفي هذا الصدد، تعمل مؤسسة آسيا ومعهد الأخدود العظيم ومركز كارنيغي للشرق الأوسط معاً من أجل تحقيق فهم أفضل لأسباب النزاعات في هذه المناطق الحدودية وتأثيراتها وأبعادها الدولية، ودعم اعتماد أساليب أكثر فاعلية لصنع السياسات وبرمجة التنمية، وبناء قدرات الشركاء المحليين من أجل تفعيل البحوث الآيلة إلى الدفع نحو التغيير السلمي.
ياسمين زغلول باحثة غير مقيمة في مركز مالكوم كير-كارنيغي للشرق الأوسط، تركّز أبحاثها على بناء الدولة القُطرية، والحدود، وسياسات الفضاء في منطقة المغرب العربي. هي حائزة على ماجستير في دراسات الشرق الأوسط الحديث من جامعة أكسفورد، وماجستير في العلاقات الدولية من جامعة وارويك، ومرشّحة لنيل شهادة الدكتوراه من جامعة أكسفورد. أجرت “ديوان” مقابلة معها في منتصف شهر آذار/مارس لمناقشة موضوع مقالها الصادر حديثًا عن كارنيغي، بعنوان Migrants at the Gate: Europe Tries to Curb Undocumented Migration (المهاجرون على الأبواب: أوروبا تحاول كبح الهجرة غير الشرعية)، حول طبيعة الهجرة غير النظامية إلى أوروبا، والخطوات التي تتّخذها الدول الأوروبية لمواجهة هذه الظاهرة.
ريّان الشواف: ما الظروف التي دفعتك إلى الاهتمام بالإجراءات التي يتّخذها الاتحاد الأوروبي لحثّ دول حوض البحر المتوسط المجاورة له على كبح جماح الهجرة غير الشرعية إلى أوروبا؟
ياسمين زغلول: يُعزى اهتمامي بمسألة الهجرة، في جزءٍ منه، إلى مراقبة الديناميات المتغيّرة المُحيطة بهذه القضية في فرنسا، حيث لا تزال موروثات الاستعمار والهواجس الوطنية حول الهوية ترخي بظلالها على النقاشات السياسية. لكن استجابة الاتحاد الأوروبي لما بات يُعرف بـ”أزمة الهجرة” في العام 2015 وجّهت اهتمامي إلى البُعد الأمني لإدارة الحدود. فقد كشفت الدعوات إلى تحصين “قلعة أوروبا” وفرض تدابير أمنية أكثر صرامةً على الحدود – تجلّت تداعياتها من خلال صورة لاقت صدىً عالميًا واسعًا وتظهر الطفل السوري آلان كردي جثّةً هامدة على أحد الشواطئ التركية بعد أن قضى غرقًا – إلى أيّ مدى ترتكز سياسة الهجرة في الاتحاد الأوروبي على نهج الخوف والتباعد الأخلاقي. وبعد إجراء أبحاثٍ حول الحدود في سياقاتٍ أخرى، بتُّ مهتمّةً في فهم كيف تؤدّي الاستجابات الأمنية تجاه الهجرة إلى مستوياتٍ متعدّدة من التشرذم على الصعيد الجغرافي – بتعبير آخر، محليًا وخارجيًا – وأيضًا على صعيد المسؤوليات السياسية.
يشكّل التركيز على علاقة الاتحاد الأوروبي مع جواره الجنوبي، ولا سيما دول شمال أفريقيا، مدخلًا مهمًّا لاستطلاع هذه الأشكال المختلفة من التشرذم. ومن شأن ذلك أن يساعدنا أيضًا في فهم كيفية ممارسة السلطة. ولا ينطبق ذلك فحسب على الاتفاقيات الثنائية في إطار سياسة الجوار الأوروبية، بل أيضًا على الجهات التي تتولّى إدارة الهجرة والتحوّلات التي يشهدها هذا المجال، كما تبيّن مع بروز جهات فاعلة وآليات جديدة، مثل الشركات العسكرية الخاصة والأدوات التمويلية. تشمل اهتماماتي إذًا أدوار الحدود، والجهات المنخرطة في ترسيمها، وأنظمة السيطرة التي تُعيد تجسيدها.
الشواف: إلامَ يشير مفهوما أمنَنة الحدود والتفويض الخارجي؟
زغلول: يُقصَد بمصطلح الأمنَنة عملية تصنيف بعض القضايا – الهجرة وضبط الحدود في هذه الحالة – على أنها تهديداتٌ أمنية ملحّة يقتضي التصدّي لها اتّخاذ إجراءات استثنائية. وترتبط الأمنَنة في الكثير من الأحيان بنزع الطابع السياسي عن القضايا. فعلى سبيل المثال، حين تُصنّف الهجرة بأنها تهديدٌ وجودي، تصبح مسألة أمن وطني أو حتى إقليمي أكثر من كونها مسألة مطروحة للنقاش السياسي. هذا التصنيف يُخرِج القضية من الميدان السياسي ويضع عملية صنع القرار في أيدي الخبراء الأمنيين، ما يؤدّي إلى الإفلات من المساءلة، وإلى تطبيق حلول غير ملائمة تتجاهل في الكثير من الأحيان الأبعاد الإنسانية والسياسية لهذه القضية.
أما التفويض الخارجي فيشير إلى استراتيجية الاتحاد الأوروبي المتمثّلة في إسناد عملية ضبط الهجرة إلى دولٍ تقع خارج حدوده. فهو يُبرم اتفاقاتٍ مع دولٍ مجاورة مثل تونس وليبيا، لإدارة تدفّقات المهاجرين قبل بلوغهم السواحل الأوروبية. وقد شملت هذه الترتيبات حتى الآن تخصيص التمويل اللازم لتوفير تكنولوجيا مراقبة الحدود، وتنفيذ دوريّاتٍ بحرية، وإعادة مهاجرين إلى أوطانهم، وإنشاء مراكز احتجاز.
الشواف: من أين يتحدّر معظم المهاجرين، وما هي أبرز بلدان العبور؟
زغلول: تختلف التركيبة السكانية للمهاجرين باختلاف طرق الهجرة، ولا تشهد جميع الطرق أنماط الهجرة نفسها. يُعدّ طريق وسط البحر الأبيض المتوسط أساسيًا في العلاقة بين الاتحاد الأوروبي ودول شمال أفريقيا، إذ يعبره المهاجرون من غرب أفريقيا وشرقها والمغرب العربي، وأيضًا من جنوب آسيا على نحوٍ متزايد، في رحلاتٍ محفوفةٍ بالمخاطر. ومن تونس وليبيا، بلدَي العبور الأساسيَّين، تُبحر قوارب المهاجرين نحو سواحل جنوب أوروبا، ولا سيما إيطاليا. أما طريق غرب المتوسط فهو بدوره ممرٌّ مهمٌّ يربط شمال غرب أفريقيا بجنوب إسبانيا، وتسلكه غالبية المهاجرين الوافدين من غرب أفريقيا ومنطقة الساحل، وأيضًا من المغرب والجزائر. وكشفت بيانات الاتحاد الأوروبي للعام 2024 عن ارتفاع أعداد المهاجرين الوافدين إلى جزر الكناري التابعة لإسبانيا، ومعظمهم من موريتانيا ومالي والسنغال والمغرب.
ولا بدّ من التذكير بأن الكثير من الأشخاص ينتقلون ضمن منطقة المغرب العربي والقارة الأفريقية ككل. والهجرة غير النظامية إلى دول الاتحاد الأوروبي ليست سوى جانبٍ واحد من حركةٍ أوسع نطاقًا للمهاجرين. لكن سياستَي الأمنَنة والتفويض الخارجي حوّلتا الدول المجاورة إلى حرّاس حدود.
الشواف: كيف ترَين مستقبل الهجرة إلى أوروبا؟
زغلول: من غير المرجّح أن يتوقف تدفّق الهجرة إلى أوروبا، ويُعزى ذلك بشكلٍ كبير إلى العوامل الهيكلية الدافعة إلى الهجرة، مثل انعدام المساواة الاقتصادية، والقمع السياسي، والصراعات، وما إلى ذلك. لكن الطرق التي يسلكها المهاجرون، والآليات المُستخدمة، والجهات المعنية بحدّ ذاتها هي التي تتبدّل وستستمرّ في التغيّر. وفيما تتبنّى أحزاب يمين الوسط واليمين المتطرّف في مختلف أنحاء أوروبا باطّرادٍ خطابًا مناهضًا للهجرة، من المرجّح أن يلجأ الاتحاد الأوروبي إلى تشديد القيود المفروضة على وصول المهاجرين إلى دوله، ما سيدفع هؤلاء إلى البحث عن بدائل أشدّ خطورةً وأكثر تكلفة.
أعلنت المفوضية الأوروبية منذ فترة وجيزة أنها ستعيد النظر في شراكتها مع تونس، التي وُضعت تحت المجهر بعد أن أعطت الأولوية إلى ضبط الهجرة على حساب حقوق الإنسان، وارتكبت انتهاكاتٍ فادحة في هذا السياق. لكن هذه الخطوة لا تسطّر نهاية اعتماد الاتحاد الأوروبي على نهج تفويض إدارة الهجرة إلى دول خارجية. بل على العكس، يَشي الحديث عن “إعادة تنشيط” العلاقة بمحاولةٍ لترسيخ هذه الترتيبات، ما يمهّد الطريق أمام استمرار العلاقة الثنائية المشحونة والمرهونة بالمصالح الأمنية والاقتصادية لأوروبا، وبدرجة أقل، لدول شمال أفريقيا.
في غضون ذلك، يضع المشهد السياسي والاجتماعي داخل أوروبا دولها أمام موقفٍ فيه شيءٌ من التناقض. ففي ظلّ احتمال تشديد الرقابة على الحدود بشكلٍ أكبر، قد تؤدّي الضغوط الديموغرافية الناجمة عن انخفاض معدّل الخصوبة إلى ما دون معدّل إحلال السكان، إلى اعتماد مقاربةٍ أكثر انتقائيةً في التعامل مع هجرة اليد العاملة. لذا، ستبقى النقاشات حول الاندماج والتماسك الاجتماعيَّين والانتماء الوطني مستمرّة، وقد تزداد زخمًا على الأرجح.
تم إصدار هذه الدراسة بدعمٍ من برنامج X-Border Local Research Network (شبكة البحث المحلية حول القضايا العابرة للحدود الوطنية) الذي يحظى بتمويل من مشروع UK International Development التابع للحكومة البريطانية. إن الآراء الواردة في هذه الدراسة لا تعبّر بالضرورة عن السياسات الرسمية للحكومة البريطانية.
أوروبا الغربية
المغرب العربي
لا تتّخذ مؤسسة كارنيغي مواقف مؤسّسية بشأن قضايا السياسة العامة؛ تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الدراسة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر المؤسسة، أو فريق عملها، أو مجلس الأمناء فيها.