كان هاينز هنري كيسنجر في الرابعة عشرة من عمره حينما شهد انطلاق مذابح الهولوكوست في “ليلة الكريستال” من بلدته المجاورة لنورنبرغ، المعقل الأيديولوجي للنازية في ألمانيا. بعدها، رتبت أمه تصريحاً لهجرة العائلة إلى أميركا حيث عمل في معمل لفرش الحلاقة في الصباح، وثابر على الدراسة في المساء. لكن، وبحسب ما توضحه سيرته، لم يفوّت كيسنجر الاستمتاع بالعلاقات الاجتماعية المتحررة في المجتمع الأميركي المفتوح. كان زير نساء بحق.
يعتبر المؤرخون أن هذا القلق الدفين في شخصيته، دفعه إلى دراسة التاريخ. وبعدما نصحه صديق بقراءة ديكارت، تبلور ولعه بفلسفة التاريخ، والعلاقات الدولية، ليصبح في الثلاثينات من عمره أستاذاً محاضراً في هارفرد. وكما سيتبين لاحقاً، رغم المآسي والاضطهاد في ألمانيا، استمد كيسنجر جذور فكره من الإرث الثقافي والفلسفي الألماني المؤسس لفلسفة التاريخ.
في هذه المرحلة يصفه المؤرخون بـ”المثالي المتشدد”. فعند التخطيط الاستراتيجي، تصبح الدول هي الوحدات المكونة للصراع، ويصبح الأفراد مجرد أدوات لها. لذلك بنى مخططاته على الضغط اللامتناهي لمنع انتشار الشيوعية والأنظمة الشمولية، كخطر جوهري على الليبرالية الغربية.
أصدر عام 1957 كتاباً بعنوان “الأسلحة النووية والسياسة الخارجية”، يحلل التهديد السوفياتي الذي يلوح في الأفق، ويطور مفهوماً عملياً جديداً للاستخدام المحدود للأسلحة النووية الأميركية. وبعدما أثار الكتاب جدلاً كبيراً، أصبح كيسنجر مستشاراً بمستويات مختلفة، لكل الرؤساء الأميركيين من أيزنهاور إلى ترامب وبايدن.
كان تعيين كيسنجر مستشاراً للأمن القومي في البيت الأبيض ومن ثم وزيراً للخارجية مفارقة دالة. فلقد تمكن ذلك المهاجر، والعالم السياسي الدخيل، من أن يصبح محط أسرار نيكسون، أحد أكثر رؤساء أميركا انعزالاً وجلافة.
لذلك كان مع تصعيد الاحتجاجات ضد الليندي في تشيلي ودعم انقلاب بينوشية الدموي. فالتسامح مع الشيوعية في كوبا أفضى إلى أزمة الصواريخ الكوبية 1962. كان يتصرف كإله للحرب، يرى الأفراد أدوات للتاريخ. فتجاوز مذابح سوهارتو في إندونيسيا. بل، بعدما رُفضت مقترحات الفيتكونغ في الحرب الفيتنامية، عمّق التورط الأميركي ودعم غزو كمبوديا. وبالنتيجة كلفت هذه الحرب 25 ألفاً من الأميركيين ومئات الألوف من الفيتناميين.
وبعد، فقد ساقته أبحاثة وتجربته العملية إلى التعمق في تلك الحقبة المدهشة من السلام الأوروبي، لمدة 99 عاماً، المبني على توازن أقطاب القارة الأوروبية، ما بين 1815 بعد هزيمة نابوليون حتى 1914 واندلاع الحرب العالمية الثانية. في تلك الفترة وفي سياق إدارة المخاطر توالى على إدارة الدبلوماسية الألمانية، كل من مترنيخ وبسمارك، وأدارا، كل بأسلوبه وبعده التاريخي، توازنات العلاقات الدول الكبرى في أوروبا على حساب الدول الصغرى، بحيث أمكن تجنب العودة إلى الحروب الأوروبية.
واتضح هذا التحول اتضاحاً صارخاً في موقفه من الصين.
لم تقف براغماتية كيسنجر عند الصين والشرق الأوسط، بل أطلق مقاربة استراتيجية لتفكيك الخطر السوفياتي. إذ لا يكفي الركون إلى التفوق الاقتصادي للنموذج الرأسمالي الدولي، بل لا بد من تصفية الشيوعية بهدوء وضمان هبوط، بل ضمان سقوط آمن للشيوعية من دون حرب. عمل كسينجر على سحب مفهوم العدو في العلاقات الأميركية – السوفياتية، عبر مفهوم التعايش السلمي، ووقف تصدير الثورة الشيوعية، ودمج الاتحاد السوفياتي في المنظومة الاقتصادية العالمية، معتقداً أن ذلك سيسحب مبرر وجود النظام الشيوعي، من حيث الأساس، ويكون كفيلاً بإسقاطه من دون حرب.
لطالما اعتمد قادة الولايات المتحدة على نصيحة الحكماء، وبخاصة الرجال ذوي الخبرة. لكن مفتاح عبقرية كيسنجر التي صنعت الكثير من مصائر السياسة الأميركية، أنه لم يبق أسيراً للماضي ولمعتقداته، وأنه يتعلم كيف يربط فلسفة التاريخ بالممارسة العملية الـ Praxis، وأن ينتقل إلى الفعل الاستباقي، فليس أفدح من الإحجام عن الفعل في اللحظات التاريخية.
ما بين اعتباره مجرم حرب، واعتباره عبقري السلام في القرن العشرين الذي أسقط الشيوعية سلمياً دونما حروب، يستحيل تقييم كيسنجر أخلاقياً. لكن، من منظور فلسفة التاريخ، يمكن تقييمه كعبقري اجترح وأدار عمليات استراتيجية شكلت العالم في النصف الثاني للقرن العشرين.