تظاهرة رفضاً لتوقيف رئيس بلدية اسطنبول في 2022
تواجه أحزاب المعارضة في تركيا امتحاناً صعباً في الانتخابات المحلّية لعام 2024، بعد انهيار التحالفات الهشّة التي سادت طوال السنوات الماضية، انطلاقاً من الاتّفاق على الإطاحة بالحزب الحاكم ورئيسه رجب طيب أردوغان.
ومع أنها نجحت جزئياً في الانتخابات المحلّية الأخيرة عام 2019 في انتزاع أهم البلديات الكبرى في البلاد، من تحالف السلطة، على رغم فشلها الكبير في الانتخابات البرلمانية والرئاسية الأخيرة في عام 2023، إلاّ أنّ هذا النجاح الجزئي بات هو الآخر على المحك، بسبب تفكّك العقد السياسي الذي جمع أحزاب المعارضة المتباينة في التوجّهات والإيديولوجيات، تحت سقف واحد.
بالأمس، أعلن حزب “الجيد” رفضه لمقترح حزب الشعب الجمهوري للتعاون في الانتخابات المحلية لعام 2024، في تأكيد لقراره الذي اتّخذه في 13 أيلول (سبتمبر) الماضي “خوض الانتخابات بمرشحيه في كل الدوائر الانتخابية”.
موقف حزب “الجيد” الرافض للتعاون، والذي جاء بعد أقل من أربعة أشهر على الانتخابات المحلية المقرّر اجراؤها في 31 آذار (مارس) المقبل، أفشل خطط أحزاب المعارضة للتعاون بالنسبة لبعض البلديات على الأقل، بخاصة في المدن الكبرى، بعيداً من استراتيجية التحالف التي انتهت مع السقطة المدوّية لـ”تحالف الأمة” في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية الأخيرة.
المجلس الأعلى صوّت خلافاً لرغبة القواعد
صوّت المجلس الإداري العام لحزب “الجيد”، وهو أعلى هيئة قيادية في الحزب، برفض المقترح المقدّم من قِبل أوزغور أوزيل، الذي فاز بسباق الرئاسة في مؤتمر حزب الشعب الجمهوري ضدّ كمال كيليتشدار أوغلو، للتعاون في الانتخابات المحلّية، بأغلبية 35 صوتاً مقابل 14 صوتاً مؤيّداً للتعاون، في اقتراع سرّي تمّ بعد 4 ساعات من المناقشات الحادّة، وفق المعلومات التي حصل عليها “النهار العربي” من مصادر مشاركة في الاجتماع الفصل.
ووفق المصدرين اللذين فضّلا عدم كشف اسميهما، كونهما “لا يملكان الحق بالإفصاح عن المعلومات للإعلام”، فإنّ “اجتماع المجلس سبقته لقاءات واجتماعات لرئيسة الحزب ميرال اكشينار مع كل من رؤساء فروع الحزب في مناطق أنقرة واسطنبول، وأعضاء المجلس الاستشاري الأعلى، الذي يضمّ شخصيات من ذوي الخبرة وبرلمانيي الحزب، حيث كان التوجّه السائد نحو ضرورة التعاون من أجل ضمان تحقيق نتائج ايجابية، لكن قرار الهيئة الإدارية جاء معاكساً رغبتهم”.
يبرّر المعارضون للتعاون الانتخابي مع حزب الشعب الجمهوري موقفهم بالقول إنّ “التحالفات السابقة لم تأتِ بأي فائدة لحزبنا، كما أنّ التحالفات تسمّم السياسة وتزيد الاستقطاب، والاستقطاب يفيد السلطة”، فيما يجادل المؤيّديون للتحالف بالقول إنّ “ثمة تغييراً في إدارة حزب الشعب الجمهوري، وأنّ أبواب الحوار يجب أن تظلّ مفتوحة”، مشيرين إلى أنّ “خوض المعارضة الانتخابات بمرشّحين منفصلين، بخاصة في أنقرة واسطنبول، ستكون له عواقب سلبية وسيزيد من مخاطر تسليم أكبر بلديّتين في البلاد للحكومة على طبق من ذهب”.
استراتيجية الخسارة لاستكمال المأسسة
من جهة أخرى، يستمر نزيف الأعضاء داخل حزب “الجيد” عبر استقالة الشخصيات المؤيّدة للتعاون مع حزب الشعب الجمهوري، والذي بدأ بعد الإعلان عن القرار الأولي لخوض الانتخابات بشكل مستقل في أيلول (سبتمبر) الماضي.
فقد قدّم عضو المجلس الإداري العام بهادير إردم، ومحافظ البنك المركزي السابق دورموش يلماز، أحد مؤسسي الحزب، استقالتيهما في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، معلنين رفضهما لقرار فسخ التعاون مع الحزب المعارض الأم في البلاد.
وقد سبقت هذين الاسمين ولحقت بهما أسماء أخرى “قريبة من تيار اليمين الوسط” في الحزب، ما قلّل من احتمالات إمكان التعاون في الانتخابات المحلية، في ظلّ استمرار الموقف الاتّهامي والغضب تجاه كوادر حزب الشعب الجمهوري، وتحميلهم مسؤولية الخسارة في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية الأخيرة.
في المقابل، أدّى رفض كل من رئيس بلدية إسطنبول أكرم إمام أوغلو ورئيس بلدية أنقرة منصور يافاش، طلب أكشينار منهما الترشّح للانتخابات الرئاسية بدلاً من رئيس الحزب السابق كمال كيليتشدار أوغلو، إلى تصاعد غضب أعيان حزب “الجيد” منهما.
إضافة إلى ذلك، يصرّ “تيار الصقور” على أنّ نظام التحالف قطع الفرصة أمام حزب “الجيد” لإثبات هويّته الحزبية واستعراض قوّته من خلال استطلاع عدد أصواته، ما يعني أنّ حزب “الجيد” على الرغم من تيقّنه باستحالة تحقيق فوز في الانتخابات المحلية بمفرده إلاّ أنّه ينتهج استراتيجية الخسارة مقابل استكمال مأسسته وخلق حيّز مستقل له في الساحة السياسية التركية.
مخاوف من تكرار سيناريو 1994
في ظلّ المشهد الحالي، تحذّر قطاعات واسعة من المعارضة من احتمال تكرار سيناريو الانتخابات المحلية عام 1994، حين أدّى خوض الأحزاب للانتخابات بمرشّحين مستقلين إلى فوز الرئيس التركي الحالي رجب طيب أردوغان برئاسة بلدية إسطنبول، ومليح كوكجك برئاسة بلدية أنقرة، وبقاء البلديّتين في يد “العدالة والتنمية” لمدة ربع قرن.
ويستبعد العديد من المحلّلين والصحافيين الداعمين للمعارضة تكرار هذا السيناريو، مستندين إلى نجاح كل من رئيس بلدية اسطنبول وأنقرة التابعين لحزب الشعب الجمهوري في منصبيهما خلال الأعوام الأربعة السابقة، ما سيؤدي إلى حصولهما على أصوات ليس الكتلة الداعمة للأحزاب المعارضة الأخرى فحسب، بل حتّى من الموالين للحكومة.
ويدعم هؤلاء رأيهم بالإشارة إلى طبيعة الانتخابات المحلّية المختلفة عن البرلمانية والرئاسية، حيث يميل الناخبون إلى منح أصواتهم للأشخاص لا الأحزاب، وهو ما يرفع حظوظ الرئيسين المحبوبين من قبل فئات أوسع من القاعدة الشعبية لحزبهما.
ويشير ارديم إلى أنّ قرار حزب “الجيد” سيصعّب من مهمّة حزب الشعب الجمهوري في بعض الولايات، بخاصة تلك التي يحظى التيار القومي بشعبية فيها، كما هو الحال بالنسبة لأنطاليا وأضنة ومرسين وهاتاي (لواء اسكندرون).
ويضيف أنّ “الوضع الصعب بالنسبة لأنقرة واسطنبول أيضاً، لكن باعتقادي أنّ درجة المخاطرة فيهما ستكون أقل، وذلك لأنّ مرشّح حزب الشعب لرئاسة أنقرة منصور يافاش له شعبية كبيرة في صفوف التيار القومي، ما يقلّل من احتمال انزياح أصوات القوميين هناك. وبالنسبة لاسطنبول، فإنّ حزب الشعب الجمهوري حصل على 40% من الأصوات في انتخابات 2014 التي خاضها بمفرده، وموقف حزب مساواة وديموقراطية الشعوب أكثر تأثيراً في مصير اسطنبول من قرار حزب الجيد”.
ويستطرد قائلاً: “لكن إذا حصل مرشّح حزب الجيد على 100 ألف صوت مثلاً، فذلك سيهدّد نجاح مرشّح حزب الشعب الجمهوري، بخاصة أنّ انتخابات اسطنبول الأخيرة عام 2019 انتهت في الجولة الأولى بفارق 13 ألف صوت فقط”.
امتحان صعب لحزب الشعب الجمهوري
ويرى الصحافي التركي علي كمال ارديم، المتخصص بالسياسة الداخلية، في حديث لـ”النهار العربي” أنّ “الانتخابات المقبلة ستكون امتحاناً صعباً لحزب الشعب الجمهوري، الذي بات مجبراً على الاعتماد على قوّته وقدراته”، في ظلّ انسداد أفق التحالفات أو التفاهمات الانتخابية.
ووفق ارديم “إذا صحّت الدعاية القائلة بنجاح رؤساء بلديات أنقرة واسطنبول في مهامهم فإنّ الناخب سيدلي بصوته لهم بغض النظر عن توجّهاته الحزبية”.
ويشرح ارديم أنّه “في حال نجاح أكرم إمام أوغلو فإنّ حزب الشعب الجمهوري سيكمل طريقه حتى الانتخابات الرئاسية والبرلمانية عام 2028 بسلاسة، أما في حال سقوطه في انتخابات رئاسة بلدية اسطنبول، فإنّه سيخطّط للانتقال إلى رئاسة حزب الشعب الجمهوري، ما سيولّد صراعاً بينه وبين أوزغور أوزيل المنتخب حديثاً بدعم من إمام أوغلو”.
العيون على الحزب الموالي للأكراد
قرار حزب “الجيد” الرافض للتعاون، دفع بحزب الشعب الجمهوري وجمهور المعارضة في تركيا إلى توجيه أنظاره نحو حزب “مساواة وديموقراطية الشعوب”، وهو الإسم الجديد لحزب الشعوب الديموقراطي الموالي للأكراد، الذي خاض الانتخابات الأخيرة تحت اسم “حزب اليسار الأخضر” خوفاً من حرمانه من المشاركة في الانتخابات بقرار قضائي سياسي.
وأعلن الحزب سابقاً على لسان متحدّثته الرسمية عائشة غول دوغان، عزمه على خوض الانتخابات المحلّية بمرشّحين مستقلين، لكن تصريحات لاحقة من قياديين في الحزب أبقت الباب مفتوحاً أمام “التفاهمات الانتخابية، سواء مع الحزب الحاكم أو المعارضة الأم على حدّ سواء”.
ووفق المعلومات التي حصل عليها “النهار العربي”، فإنّ الحزب يعتزم طلب موعد للقيام بزيارة بروتوكولية لأوزغور أوزيل خلال الأيام المقبلة، لتهنئته بفوزه برئاسة حزب الشعب الجمهوري. وعلى رغم كون الزيارة بروتوكولية، إلاّ أنّه من المتوقع أن يتمّ التطرّق خلالها لقضية التفاهم في الانتخابات، وخصوصاً في المدن الكبرى مثل أنقرة واسطنبول.
في المقابل، ذكرت معلومات صحافية عن خطة لحزب “العدالة والتنمية” للحدّ من ممارسات الوصاية وإطلاق سراح بعض السجناء السياسيين من الحزب الموالي للأكراد، مقابل قيام الحزب بتسمية مرشحين أقوياء في البلديات المتأرجحة لصالح حزب الشعب الجمهوري، وقد ردّ حزب “مساواة وديموقراطية الشعوب” على هذه الادّعاءات بالتأكيد على أنّه “لن يعقد صفقات سرّية، وفي حال التوصّل إلى اتّفاق مع أي طرف كان فسيتمّ الإعلان عنه بكل شفافية”.
في الأيام الماضية تمّت إعادة رئيس بلدية باتنوس إمراه كيليش، من حزب “مساواة وديموقراطية الشعوب” والرئيس المشارك مشرف جيجر، اللذين تمّ إطلاق سراحهما بعد احتجازهما لفترة في نطاق التحقيق بتهمة التزوير في مناقصة في منطقة باتنوس التابعة لولاية آغري، إلى مهامهما.
ويعتقد ارديم أنّ على حزب الشعب الجمهوري التركيز على موقف حزب “مساواة وديموقراطية الشعوب”، لأنّه “سيكون مؤثّراً في انتخابات اسطنبول، حيث يمتلك الحزب الموالي للكرد نسبة لا تقلّ عن 5% من الأصوات، وقد فاز حزب الشعب الجمهوري ببعض البلديات الصغرى فيها، كما حال اسينلير مثلاً، بفضل هذه الأصوات، إضافة إلى بلديات أخرى كمرسين مثلاً”.