في خضمّ العواصف الاقليمية المتراكمة، يجد لبنان نفسه مجدداً في قلب اشتباك ديبلوماسي يُخاض بالكلمات أحياناً وبالضربات الجوية أحياناً أخرى. لا صوت يعلو فوق صوت التفاوض، لكن خلف الكواليس، يدور صراع إرادات بين أطراف دولية، تُحاول أوروبا أن تلعب فيه دور الوسيط، بينما تحتفظ واشنطن بموقع المخرج والمحرّك في آن. أمام واقع معقّد تُثقل كاهله الحسابات التاريخية والحساسيات السياسية، تُطرح أسئلة قلقة: هل هي وساطة أم وصاية؟ وهل تسعى العواصم الغربية إلى تهدئة حقيقية أم إلى فرض إملاءات مغلّفة بالديبلوماسية؟
في ظل تصاعد التوتّرات على الحدود اللبنانية-الاسرائيلية، تبرز محاولات أوروبية لاحتواء الأزمة، لكنها تفضي في النهاية إلى دعم الطروح الأميركية، التي تدفع نحو توسيع نطاق المفاوضات بين بيروت وتل أبيب، على الرغم من التحفّظات اللبنانية والضغوط الاسرائيلية.
ماكرون والحدود الفاصلة بين الوساطة والفعالية
أشارت مصادر مطلعة على جو من الاليزيه إلى أن اتصالات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مع الادارة الأميركية، لخفض التصعيد الاسرائيلي ضد لبنان، واجهت جداراً منعدم الجدوى. فبعد اتصال سابق لماكرون برئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو، ردّ الأخير بقصف ضاحية بيروت الجنوبية بعد ساعات فقط، ما يعكس محدودية النفوذ الأوروبي في ظل هيمنة واشنطن على الملف. ولفتت المصادر نفسها إلى أن “المرحلة الحالية هي مرحلة الهيمنة الأميركية.. لا أحد يستطيع الضغط على ترامب، الذي يفضّل تشجيع نتنياهو على الاستمرار في مواجهة إيران عبر التصعيد الاقليمي”.
المقاربة الأميركية – الأوروبية
تحمل الطروح الأميركية، التي تنقلها نائبة المبعوث الرئاسي للشرق الأوسط مورغان أورتاغوس إلى بيروت، دعوة لتشكيل “لجان مدنية” تتفاوض مع إسرائيل حول ملفات شائكة، كالانسحاب من الأراضي المحتلة، وحل النزاع الحدودي، وإطلاق الأسرى، إلى جانب نزع سلاح “حزب الله”، وتعزيز انتشار الجيش اللبناني في الجنوب.
وعلى الرغم من أن هذه المقاربة تجد دعماً أوروبياً، باعتبارها سبيلاً لـ”تثبيت الاستقرار عبر احترام أمن إسرائيل وسيادة لبنان”، إلا أنها تصطدم برفض لبناني رسمي للمفاوضات المباشرة أو التطبيع، والتشبث باللجان العسكرية عبر “اليونيفيل”، والمطالبة بانسحاب إسرائيلي غير مشروط.
وتؤكد الديبلوماسية الأوروبية أن تحقيق الاستقرار على المدى المتوسط يتطلب “خطوات تدريجية”، عبر مفاوضات قد تبدأ تقنيةً ثم تتطور، مع تجنّب إرغام لبنان على التطبيع في ظلّ حكومةٍ يُعتبر عمرها “قصيراً” أمام استحقاقات 2026 الانتخابية. لكن هذا الطرح الأوروبي، وإن التقى مع الرؤية الأميركية حول توسيع نطاق المفاوضات، يختلف جذرياً عن الموقف الاسرائيلي، الذي يدفع الى “اتفاق سياسي سريع” عبر خروق متعمّدة لوقف إطلاق النار، وضربات عسكرية موسّعة، كتلك التي طالت ضواحي بيروت مؤخراً.
أوروبا بين الإقناع والضغط
في الوقت الذي ترفض فيه الدول الأوروبية ممارسة ضغوط ملموسة على إسرائيل، وتتبنى سياسة “الإقناع” بدلاً من المواجهة، تُبرر تل أبيب تحركاتها العسكرية بأنها تهدف الى “تحقيق الأمن على حدودها الشمالية”. وتنقل مصادر ديبلوماسية عن الأوروبيين قناعتهم بأن “الضغوط تتعارض مع مبادئ الديبلوماسية”، على الرغم من اعترافهم بتصاعد التحديات بعد توسيع إسرائيل نطاق ضرباتها.
هل تتكرّر تجربة 1983؟
ويُصرّ لبنان على رفض أي مسار قد يُعيده إلى مربع اتفاق “17 أيار” 1983، الذي أدّى إلى انقسامات داخلية وحرب أهليّة.
في المقابل، تبدي الأوساط الغربية تقديرها لخطوات الحكومة اللبنانية نحو تعزيز انتشار الجيش في الجنوب، وتحركاتها لتفكيك البنية العسكرية لـ”حزب الله”، لكنها تُشجّع على خوض غمار المفاوضات كخيار أفضل من الحرب.
بينما تُصرّ أوروبا على دعم الحلول التدرّجية، وتلتقي مع الطروح الأميركية في الدفع نحو مفاوضات موسّعة، يبقى المشهد معلّقاً بين مطرقة التصعيد الاسرائيلي، وسندان الرفض اللبناني للتطبيع. الواقع يشير إلى أن الدعم الأوروبي للخطط الأميركية، على الرغم من اختلاف التكتيكات، يعكس محدودية القدرة على كبح الهيمنة الأميركية-الاسرائيلية، في وقتٍ يُجبر فيه لبنان على السير في حقل ألغام سياسي، يحمل في طيّاته مخاطر الماضي وأعباء الحاضر.