أثارت آراء الشاعر السوري أدونيس في حوار الفنانة اللبنانية كارمن لبّس معه كثيرًا من الجدل في الأوساط الثقافية السورية والعربية، وجدلًا أكبر وأكثر حضورًا في مواقع التواصل الاجتماعي بما هي ساحة مفتوحة للتراشق الساخن والعابر غير المتأمل غالبًا.
أدونيس كان مع بدايات الثورة السورية قد نشر آراء عن الحراك الشعبي السوري ضد نظام بشار الأسد من خلال عنوان رئيس هو “حكم حزب البعث”، واقترنت تلك الآراء بعنوان أهم هو إعلانه أنه “يرفض المشاركة في مظاهرات تخرج من المساجد”، في تفسير واضح ذهب لاعتبار ما جرى في سورية حراكًا يقوده ويقوم به “الإسلام السياسي” السوري، ولا يتضمن أيًا من الأهداف الديمقراطية والاجتماعية وبالطبع الثقافية التي تستحق أن تكون عناوين وغايات أية ثورة شعبية، في بلاد عانى شعبها طويلًا من سحق الحريات الديمقراطية ومصادرة حكامها للسياسة والعمل العام، ناهيك عن مصادرتهم الاقتصاد. تلك الآراء التي قالها أدونيس في الأيام التي أعقبت الثامن عشر من آذار/ مارس 2011 كانت “القاعدة” الأساسية التي حكمت موقفه بعد ذلك، وهو موقف كانت سمته الأهم الصمت عن كل ما جرى بعد ذلك من أحداث كبرى تراوح توصيفها بين أن تكون “حربًا أهلية” أو نزاعًا محليًا مسلحًا، وإن تكن في الحالتين والوصفين حروبًا متناسلة استدرجت مشاركات عسكرية هائلة، وساهمت فيها دول ومنظمات أحالت سورية كلها إلى ركام يقترب كثيرًا من حالة التدمير الشامل بما تعنيه من تشريد ملايين المواطنين وقتل ما يقارب مليون مواطن سوري؛ ناهيك عن تشريد ملايين آخرين داخل وطنهم السوري، وخارجه عبر ركوب الزوارق المطاطية في رحلات بحرية سقط خلالها عشرات آلاف منهم في البحار غرقى وهم يحاولون النجاة بأرواحهم وعائلاتهم وأطفالهم. فيما واصل القمع العسكري في أوقات متلاحقة حصد أرواح من ظلوا في بلادهم بأنواع متصاعدة من أشكال القتل بالسلاح ومن ضمنه بالطبع “السلاح الكيماوي” كواحد من أبرز أدوات التدمير الشامل.
أدونيس خلال حواره المذكور يتأرجح بين رفض المشاركة بسبب الطابع الاسلامي لثورة آذار/ مارس 2011 السورية، وبين أن تلك الثورة “لم تقدم بيانًا واضحًا” يحدد أهدافها الديمقراطية. والغريب أن يطالب بذلك البيان من جماهير دفعها القمع الوحشي لسلطة الأسدين للنزول للشوارع ولم تدفعها مناقشات فكرية في هذا المقهى الثقافي أو ذاك: هل كان لأطفال درعا 2011 أن يعودوا إلى دراسة التجارب الثورية في العالم قبل أن يطلقوا هتاف الحرية الصامت، والذي “رسموه” بكلماتهم على جدار مدرستهم في درعا البلد؟ وهل كانوا يحتاجون للثورة لو أنهم كانوا يعيشون في ظلال نظام حكم يمنحهم ترف التلاقي والاجتماع والتحاور للوصول لبيان سياسي جامع كذلك البيان الذين يطلبه أدونيس؟
“يميل الشاعر المتأمل إلى البقاء “بعيدًا” في سماء الفلسفة وغموض الدلالات ومعاني الأشياء واللهو في أزقة أخرى للحرية؛ أزقة تبدو غائمة ولا صلة لها بالواقع”
الغريب أن أدونيس لم يطلب “بيانًا” من الثورة الايرانية من أجل تأييدها، بل هو على العكس سارع لا إلى تأييدها نثرًا وحسب، بل مدحها بقصيدة شعرية دفعته يومها إلى “التنصل” من “قصيدة النثر” والعودة مهرولًا إلى كلاسيكية الشعر العربي القديم، بدون أن ينسى بالطبع أن تلك الثورة كانت بلبوس إسلامي واضح لا لبس في شعاراته ولا عمائم القائمين على قيادته وتحديد سياساته واعتبار ما حدث ثورة كبرى.
يقدم أدونيس في اللقاء التلفزيوني رؤاه تلك لكنه حين تواجهه محاورته بسؤاله: لماذا كانت وقفته التضامنية مع ضحايا الاعتداءات الأخيرة على العلويين في الساحل السوري وهو الذي لم يشارك في أية وقفة تستنكر ما يحدث في وطنه؟ نراه يقدم تفسيرًا يقول “لأن ما حدث هو أول مرة في التاريخ يجري فيها قتل إنسان بسبب مذهبه وطائفته”، وهي إجابة تثير السخرية لكل من عاش العقود الأخيرة وشاهد وسمع المجازر الطائفية في لبنان زمن الحرب الأهلية ومن بعدها تبادل القتل على الهوية في السنوات التي أعقبت سقوط نظام صدام حسين في العراق.
أدونيس في حواره الأخير يبدو مرتبكًا ومتناقضًا وبعيدًا حتى عن روح تجربته الشعرية، وأقرب إلى “شاعر محافظ” يجتهد في محاولة تقديم آراء معقمة لا تثير ريبة الغرب الأوروبي وتلامس “شروط” جائزة نوبل التي ظل في انتظارها خلال سنوات العقدين الماضيين. حتى أنه لم يحرك ساكنا إزاء حروب التدمير الشاملة والمذابح الجماعية التي تعرّض لها الفلسطينيون، والتي لم تزل مستمرة في غزة ونزل بسببها ملايين الأوروبيين والأميركيين إلى الشوارع لاستنكارها باعتبارها “محرقة” كاملة الأوصاف وتستدعي أن يتحرك لوقفها كل صاحب ضمير في العالم.
هي محنة المثقف المكابر وتجليات الانفصال عن الواقع، فصاحب “أغاني مهيار الدمشقي” يطلق خلال الحوار آفاقًا بلا حدود لرؤى فكرية بلا ضفاف، لكنها تظل تحلق في العام وما يتصل بالمخيلة، وتنكص على أعقابها حين يلامس صاحبها الأرض أو يقترب. إذ يميل الشاعر المتأمل إلى البقاء “بعيدًا” في سماء الفلسفة وغموض الدلالات ومعاني الأشياء واللهو في أزقة أخرى للحرية؛ أزقة تبدو غائمة ولا صلة لها بالواقع الذي يؤشر لكل ذي بصر وبصيرة إلى محنة وطنه الكبرى الذي يعجز الوصف الموضوعي عن رؤيته اليوم كما هو مسرحًا ليس لمرايا ناصعة تطلق الأضواء والألوان، بل مرايا الدم الذي يغطي الشوارع ويغرق البيوت أو بقاياها ويغرق معها كل شيء، حتى أننا نكاد نؤمن أن ما يجري في قلب عاصمة الأمويين ليس نهر بردى الذي جف على أبواب العاصمة بل نهر الدم الذي تحدق فيه دمشق فترى أبناءها…
شارك هذا المقال