رجل الأعمال السوري أيمن الأصفري ليس اسمًا عابرًا في المشهد السوري، بل شخصية تجمع بين الخبرة الاقتصادية والحس الوطني، وقد أثبت ذلك مرة أخرى في مقابلته الأخيرة مع قناة “تلفزيون سوريا” في أبريل 2025، فكلماته لم تكن مجرد تعليق عابر، بل رؤية تحليلية عميقة للواقع السوري بعد 14 عامًا من الدمار، تحمل في طياتها طموحًا لسوريا جديدة، لكنها في الوقت ذاته تثير تساؤلات حول مدى قابلية هذه الرؤية للتطبيق. فهل يمثل الأصفري فعلاً صوت السوريا التي نحلم بها، أم أن حديثه يظل حلمًا بعيد المنال في ظل التحديات الحالية؟
الاقتصاد والسياسة.. رؤية متكاملة
بدأ الأصفري حديثه بتأكيد مبدأ أساسي: “السياسة لا تستطيع أن تتحرك عن الاقتصاد”، هذه العبارة تلخص فهمه العميق للعلاقة التكافلية بين المجالين، وهي فكرة تبدو بديهية لكنها غائبة عن الكثير من صناع القرار في سوريا اليوم، حيث يرى الأصفري أن أي سياسة تُطبق دون أساس اقتصادي متين ستؤدي إلى فشل ذريع، خاصة في بلد يعاني من انهيار اقتصادي تاريخي، إذ يتماشى هذا الطرح مع ما يتردد في الأوساط الاقتصادية السورية منذ سنوات، حيث أشار تقرير للأمم المتحدة في 2024 إلى أن أكثر من 90% من السوريين يعيشون تحت خط الفقر، وهو ما يجعل الاقتصاد ليس مجرد أولوية، بل شرطًا لأي تقدم سياسي.
الأصفري لا يكتفي بالتشخيص، بل يقدم رؤية عملية: السياسة يجب أن تستخدم الاقتصاد كأداة لتحقيق أهدافها، وليس كعائق، وهذا الموقف يعكس تجربته كرجل أعمال ناجح في الخارج، حيث شغل منصب المدير التنفيذي لشركة “بتروفاك” البريطانية، وهي واحدة من كبرى شركات خدمات النفط والغاز، لكن السؤال هنا: هل يمكن تطبيق هذه الرؤية في سوريا التي تفتقر إلى بنية تحتية اقتصادية مستقرة، وتعاني من عقوبات دولية خانقة؟
الفعل ورد الفعل.. دعوة للمسؤولية
“لا تحاسبني على ردة الفعل، حاسب نفسك على الفعل”، بهذه العبارة التي كررها الأصفري، يضع إصبع الاتهام على السياسات الإقصائية والتهميشية التي تهدد وحدة سوريا، وفي بلد مزقته الحرب والانقسامات الطائفية والمناطقية، يرى الأصفري أن
المسؤولية الأولى تقع على من يتخذون القرارات التي تثير ردود فعل سلبية، وليس فقط على من يتفاعلون معها، وهذا الطرح ليس مجرد فلسفة، بل دعوة عملية لتجنب الانزلاق نحو تقسيم البلاد، وهو خطر حذر منه بقوله: “بعض التصرفات ممكن تؤدي إلى تقسيم سوريا وهذا خطير جدًا”.
هذه الرؤية تتقاطع مع ما ينادي به الكثير من السوريين الذين يحلمون بدولة موحدة، لكنها تتطلب إرادة سياسية قوية وشجاعة لمواجهة الأخطاء بدلاً من الاكتفاء بإلقاء اللوم على الآخرين، والأصفري، بتأكيده على أهمية “الفعل الجيد” لمنع ردود الفعل السلبية، يضع أساسًا لدولة تقوم على العدالة والشمولية، لكن التحدي يكمن في كيفية ترجمة هذا المبدأ إلى واقع ملموس في ظل الفوضى الحالية.
استشهد الأصفري بتجربة ماليزيا كنموذج للتنمية، مشيرًا إلى أن النجاح يتطلب اتباع خطوات من سبقونا بدلاً من اختراع مسارات جديدة: “ما عندنا وقت للتجارب”.
فصل السلطات والديمقراطية.. حلم الدولة الحديثة
ومن أبرز النقاط التي طرحها الأصفري هي دعوته لفصل السلطات، معتبرًا أنها ركيزة أساسية لدعم الاقتصاد وتعزيز الدولة، وفي حديثه، أكد أن هذا الفصل يمنع التدخلات السياسية التعسفية، خاصة من السياسيين، ويخلق بيئة مواتية للنمو الاقتصادي، وهذه الفكرة ليست جديدة في الفكر السياسي، لكنها تأتي في سياق سوري يعاني من تركيز السلطة في يد قلة لعقود، مما أدى إلى استبداد وفساد دمرا البلاد.
الأصفري يربط هذا المبدأ بتفعيل المجتمع المدني كرقيب ومحاسب، وهو ما يعكس إيمانه بدور الشعب في بناء الدولة، وهذه الرؤية تتماشى مع ما طرحته مبادرته “مدنية” التي أطلقها في 2023 في العاصمة الفرنسية باريس، والتي تهدف إلى تعزيز دور المجتمع المدني في صنع القرار السياسي، لكن، كما أشار في مقابلته، “لا يمكن بناء دولة حديثة بتوجه ديني”، وهو موقف جريء يعكس رفضه لأي نموذج يقوم على الطائفية أو التشدد، ويدعو إلى دولة مدنية ديمقراطية تفصل الدين عن الدولة، وهذا الحلم قد يبدو مثاليًا، لكنه يصطدم بواقع سوريا الحالي الذي يشهد صعود تيارات دينية متشددة في بعض المناطق، كما أشار تقرير لصحيفة “النهار” في يناير 2025.
تجربة ماليزيا والعقوبات.. بين الطموح والواقع
واستشهد الأصفري بتجربة ماليزيا كنموذج للتنمية، مشيرًا إلى أن النجاح يتطلب اتباع خطوات من سبقونا بدلاً من اختراع مسارات جديدة: “ما عندنا وقت للتجارب”، يقولها بإلحاح يعكس حالة الطوارئ التي تعيشها سوريا بعد عقود من التدمير، وهذا الطرح
يتماشى مع دعوته للاستفادة من خبرات رجال الأعمال السوريين الناجحين في الخارج، وهو مورد غير مستغل يمكن أن يشكل قوة دفع لإعادة الإعمار.
لكن العقوبات الدولية، وخاصة الأمريكية، تظل العقبة الكبرى. الأصفري لم يكتفِ بالإشارة إلى تأثيرها، بل دعا إلى مراعاة “الهواجس الأمريكية” لرفعها، مؤكدًا أنها “تقريبًا قريبة من عقوبات الأمم المتحدة” لالتزام الدول بها، وبالتالي فإن هذا الموقف البراغماتي يعكس فهمه للسياق الدولي، حيث أشار تقرير لـ”نيويورك تايمز” في نيسان/أبريل 2025 إلى أن العقوبات تعيق أي استثمار أجنبي في سوريا، مما يجعل رفعها ضرورة ملحة لإنعاش الاقتصاد، لكن هل يمكن لسوريا الجديدة تلبية شروط الإدارة الأمريكية في ظل الوضع الحالي “غير المطمئن” كما وصفه الأصفري؟
قد لا يكون الأصفري هو من سيبني سوريا الجديدة بيديه، لكنه بلا شك يقدم خارطة طريق تستحق التأمل.
سوريا التي نريد.. رؤية وطنية أم صوت منفصل؟
ما يميز حديث الأصفري هو جرأته في انتقاد الواقع، سواء في حديثه عن “شرعية منقوصة” للإدارة الحالية، أو في دعوته لإعادة الضباط المنشقين وتفعيل حقول الغاز خارج سيطرة قوات سوريا الديمقراطية “قسد” لإنتاج الكهرباء، كما انتقد الإعلان الدستوري لتغييبه الديمقراطية، داعيًا إلى تعديله، لكنه لم يضع شروطًا لدعمه للقيادة الجديدة، مما يعكس حرصه على التعاون من أجل الوطن، فتصريحاته، كما وردت في مقابلته، تحمل وضوحًا ومسؤولية، بعيدًا عن التحريض، وهو ما أشاد به متابعون على منصة “إكس”، حيث وصفوه بـ”رجل وطني بامتياز”.
الأصفري، الذي وقف مع الثورة السورية منذ 2011 ودعم الجهود الإنسانية عبر مؤسسته، يجسد صوتًا يحلم بسوريا موحدة، مزدهرة، وديمقراطية، لكنه يواجه انتقادات من آخرين، كما ظهر في منشورات على “إكس”، يرون أن رؤيته “لا تمت للواقع بصلة”، وأنه “يعيش برفاهية الخارج” بعيدًا عن معاناة الداخل، وهذا التناقض يعكس التحدي الأكبر: كيف يمكن لشخصية مثل الأصفري، بكل خبراتها وعلاقاتها الدولية، أن تجسر الفجوة بين الطموح والواقع؟
صوت الوطن أم حلم المثقف؟ أيمن الأصفري، كما ظهر في المقابلة، يشبه إلى حد كبير السوريا التي يحلم بها الكثيرون: دولة تقوم على المواطنة، تفصل السلطات، وتعتمد على اقتصاد قوي بعيدًا عن التوجهات الدينية المتشددة، إذ تجمع رؤيته بين الواقعية والطموح، مستندة إلى تجربته كرجل أعمال عالمي وداعم للثورة السورية، لكنه ليس بمعزل عن التحديات: العقوبات، الفوضى، والانقسامات الداخلية تظل عقبات قد تعيق تحقيق هذا الحلم.
وفي النهاية، قد لا يكون الأصفري هو من سيبني سوريا الجديدة بيديه، لكنه بلا شك يقدم خريطة طريق تستحق التأمل، والسؤال يبقى: هل ستجد هذه الرؤية من يحملها إلى أرض الواقع؟