Skip to content

السفينة

alsafina.net

Primary Menu
  • الرئيسية
  • الأخبار
  • افتتاحية
  • حوارات
  • أدب وفن
  • مقالات رأي
  • منوعات
  • دراسات وبحوث
  • المجتمع المدني
  • الملف الكوردي
  • الأرشيف
  • Home
  • بين «الشتات» و«المجتمع المدني» تَشَكُّل المجتمع السوري المدني في ألمانيا ودوره العابر للحدود لينا عمران، إيريني توتسي. الجمهورية .نت
  • دراسات وبحوث

بين «الشتات» و«المجتمع المدني» تَشَكُّل المجتمع السوري المدني في ألمانيا ودوره العابر للحدود لينا عمران، إيريني توتسي. الجمهورية .نت

khalil المحرر أبريل 10, 2025

19.نود التوضيح بأن الأرقام المعروضة هي تقديرات مستخلصة من مزيج من المصادر الرسمية وغير الرسمية، بما في ذلك بيانات من مجموعات عبر الإنترنت. وعلى الرغم من حرصنا على ضمان دقة المعلومات المقدَّمة، فإننا نُقر بإمكانية أن تكون بعض الشبكات والمنظمات، الرسمية منها ولا سيما غير الرسمية، قد تم تجاوزها عن غير قصد. بالإضافة إلى ذلك، لم نتمكَّن من الحصول على بيانات تتعلَّق بتاريخ التسجيل أو التأسيس لعدد محدود جداً من المنظمات، وينطبق هذا بشكل خاص على المبادرات التي تعمل محلياً وتتمتع بقدر محدود من الظهور أو الوصول.

كُتب هذا التقرير قبل سقوط نظام الأسد، وأُجري البحث الخاص به بين كانون الأول (ديسمبر) 2023 وتشرين الثاني (أكتوبر) 2024. ولم تُذكر أسماء المبادرات والمنظمات المدنية لحماية خصوصية أعضائها.

*****

1. مقدمة
أدى انفجار الثورة السورية ومن بعدها الحرب الأهلية في 2011 إلى تهجير ملايين الأشخاص. وبينما لا يزال العديد من السوريين والسوريات نازحين داخلياً، أو لاجئين-ات في دول الجوار مثل تركيا ولبنان والأردن والعراق ومصر، إلا أن عدداً كبيراً منهم-ن هاجر إلى أوروبا، وبرزَت ألمانيا إثر ذلك بصفتها وجهة رئيسية. وحتى أواخر 2023، كان يقيم في ألمانيا نحو 973.000 سوري-ة، وحصل 712.000 على صفة لاجئ-ة، أو على حماية ثانوية. بلغ هذا التدفق ذروته في 2015، حين تقدّم أكثر من 320.000 سوري-ة بطلبات لجوء في ألمانيا، ما شكّل فترة مفصلية لكل من البلد المضيف والشتات السوري نفسه.

يتّسم الشتات السوري في ألمانيا بتنوع ملحوظ، إذ يضم أفراداً من خلفيات اجتماعية واقتصادية وإثنية وسياسية متعددة. وعلى الرغم من التحديات القانونية والاجتماعية التي يواجهها، فقد نجح الكثير من السوريين-ات في ترسيخ وجودهم-ن داخل المجتمع الألماني، والمساهمة في مختلف مجالات الحياة الاقتصادية والثقافية والسياسية. وبحلول 2023، بات السوريون-ات يشكلون أكبر مجموعة من المجنّسين الجُدد في ألمانيا، إذ حصل 75.500 شخص على الجنسية بعد معدل إقامة 6.8 سنوات 1. مع ذلك، لا تزال هناك عوائق كبيرة قائمة، من بينها محدودية الوصول إلى فرص العمل والتعليم، وانعدام الأمن طويل الأمد لمن يعيشون في أوضاع قانونية هشّة 2.

وبعيداً عن المساهمات الفردية، أظهر الشتات السوري في ألمانيا التزاماً قوياً بمعالجة التحديات الأوسع المرتبطة بالتهجير، سواء داخل الشتات نفسه أو في سوريا. إذ انتقلت العديد من المنظمات والشبكات التي نشأت في السنوات الأولى من الانتفاضة، سواء داخل سوريا أو في دول الجوار، إلى أوروبا في وقت لاحق، أو حصلت على تسجيل إضافي في دولة أوروبية. كما انخرطت مبادرات الشتات السوري بنشاط في مجالات المناصرة السياسية، وتقديم المساعدات الإنسانية، وتنظيم المجتمعات المحلية. ورغم أن العلاقات داخل الشتات السوري في ألمانيا ليست بمنأى عن التوترات والصراعات – التي تعكس في كثير من الأحيان الانقسامات الأوسع داخل المجتمع السوري – فإنها تؤدي أيضاً دوراً محورياً في تعزيز المصالحة، وتوفير الدعم المالي والمجتمعي، وتبادل المعارف، والتعامل في الوقت نفسه مع التوترات الداخلية وتحديات الانخراط السياسي.

الإطار المفاهيمي

اكتسب مصطلح «الشتات» حضوراً بارزاً في الخطاب الأكاديمي والسياسي والإعلامي، وأصبح يشمل طيفاً متنوعاً من الجهات الفاعلة اجتماعياً، بما في ذلك السكان المهاجرين، والمجتمعات المُهجّرة، والشبكات العابرة للحدود 3. وفي حين استُخدم المفهوم تاريخياً لوصف جماعات حافظت على روابطها مع الوطن الأم، فقد تطوّر معناه ليعكس تشكيلات معقدة وديناميكية تتأثر بالهجرة والعَولمة والأجندات السياسية 4. غالباً ما تستدعي الحركات القومية والحكومات مفهوم «الشتات» لأغراض بناء الأمة، فتسعى إلى تعبئة هذه المجتمعات لخدمة أهداف سياسية أو اقتصادية أو ثقافية 5. ونظراً لأن طبيعة المفهوم متعددةُ الأوجه ومُسَيّسة بعض الأحيان، فإنه من المهم تحليل كيفية تشكّل الهويات الشتاتية وجهود تعبئتها على مرّ الزمن بشكل نقدي 6. لكن، بدلاً من التخلي عن المصطلح، من الضروري أن نفحص كيفية تشكُّل مجتمعات الشتات، وأشكال تفاعلها مع البُنى السياسية والاجتماعية، وتأثير تعبئتها على كل من مجتمعاتها المضيفة وبلدانها الأصلية.7

تركِّز الدراسة التالية على عمليات تعبئة الشتات، والتي تشير إلى الجهود الجماعية التي يبذلها أفراد الشتات لمعالجة قضايا تتعلق بوطنهم-ن الأم أو بهويتهم-ن المشتركة. قد تتخذ هذه التعبئة أشكالاً متعددة، من بينها النشاط السياسي، والمساعدات الإنسانية، والمساهمات الاقتصادية، وتنظيم المجتمعات. غالباً ما تنبع مبادرات الشتات من التزام مشترك بالانخراط المجتمعي السياسي والاقتصادي، لكنها تتأثر أيضاً بالتنوع الداخلي واختلاف وجهات النظر8. وبينما يرى بعض الباحثين والباحثات أن انخراط الشتات قد يعزز المصالحة والتنمية9، يحذّر آخرون وأُخريات من أن النزاعات القائمة في الوطن قد تتكرر داخل مجتمعات الشتات، مما قد يؤدي إلى التشظّي ووقوع التوترات السياسية.10

محور الدراسة وأهدافها

الهدف الأساسي من هذه الدراسة هو فحص عملية تعبئة الشتات السوري في ألمانيا، وتحليل كيفية انخراط مختلف الجهات الفاعلة ضمن هذا المجتمع في المبادرات السياسية والاجتماعية والإنسانية. كما تسعى هذه الدراسة إلى استكشاف الكيفية التي تُسهم بها هذه المبادرات في كلٍّ من المجتمع المضيف وسوريا، مع الوقوف على التحديات التي تواجهها في تحقيق أهدافها وضمان استدامتها على المدى الطويل.

يتّسم الشتات السوري في ألمانيا بتنوّع كبير يعكس اختلافات في الانتماءات السياسية، والتجارب الجيلية، والطبقات الاجتماعية، والديناميات الجندرية. ساهمت موجات الهجرة المتعددة في تشكيل هذا التنوّع، بدءاً من المجموعات الطلابية والسياسية التي وصلت خلال الثمانينيات، وصولاً إلى الأعداد الكبيرة من المواطنين والمواطنات الذين هجّرتهم-ن الحرب بعد 2011. نتيجة لذلك، تشكَّل مشهد الشتات السوري من رؤى متباينة ومتنافسة لمستقبل سوريا، ومقاربات مختلفة للاندماج في ألمانيا، وتفاوت في القدرة على الانخراط في الحيز المدني11. تهدف هذه الدراسة إلى فهم أثر هذا التنوّع على تعبئة الشتات، وما إذا كانت الانقسامات الداخلية تعيق العمل الجماعي.

تركِّز الدراسة على الأسئلة البحثية المحورية التالية:

1- كيف تعبّئ شرائح الشتات السوري المختلفة في ألمانيا نفسها لمعالجة قضايا تتعلق بسوريا وبلد الإقامة؟

2- ما الدور الذي يؤديه الجندر في تشكيل الانخراط الشتاتي؟

3- كيف تؤثّر الفروقات الجيلية واختلاف موجات الهجرة على أنماط انخراط الشتات؟

4- كيف تؤثر الفروقات الطبقية داخل الشتات السوري في ألمانيا على الوصول إلى الموارد، وتولّي أدوار قيادية، والمشاركة في المجتمع المدني؟

5- كيف تُوظَّف منصات التواصل الاجتماعي في جهود التعبئة والنشاط المجتمعي وبناء الشبكات داخل الشتات؟

من خلال تناول هذه المحاور، تسعى هذه الدراسة إلى تقديم قراءة معمقة لدور الشتات السوري في ألمانيا، مُسلِّطة الضوء على الفرص والمعوّقات التي تُشكّل جهود تعبئته.

المنهجية

أُجري هذا البحث في ألمانيا بين ديسمبر 2023 وأكتوبر 2024، واعتمد على منهجية متعددة الأدوات لتحليل المجتمع المدني في الشتات السوري. جمعت الدراسة بين الأساليب الكمية والنوعية لاستكشاف تفاعلات هذا المجتمع، ومساهماته، والتحديات التي يواجهها ضمن السياق الألماني. وهدفت هذه المقاربة المنهجية المتنوعة إلى تقديم فهم شامل للديناميات المعقدة قيد الدراسة.

ولتحديد المبادرات والمنظمات المدنية السورية في ألمانيا، فقد أُجري استعراض خرائطي شمل تحليل الأدبيات والتقارير والبحوث الإلكترونية باللغات الإنجليزية والألمانية والعربية. وقد جرى تصنيف المنظمات بشكل منهجي استناداً إلى أنواع انخراطها، ومجالات تركيزها، وطبيعة شراكاتها. كما أُنشئ أرشيف رقمي لتوثيق هذه النتائج. اعتمدت الدراسة على أسلوب «العيّنة المتسلسلة» للوصول إلى المنظمات الأقل ظهوراً من خلال المقابلات. أسفر الاستعراض عن تحديد 227 مبادرة، تبيّن أن 39 منها قد توقفت عن العمل. ورغم أن 12 مبادرة فقط أُسست قبل 2011، إلا أن دراسات سابقة أشارت إلى أن العدد الفعلي قد يصل إلى نحو 30. يُعزى هذا التفاوت إلى احتمالية توقف بعض المبادرات عن النشاط، أو عدم تمكّن فريق البحث من الوصول إلى معلومات التسجيل الخاصة ببعض الكيانات.

لجمع معلومات أولية حول مختلف جوانب هذه المبادرات، أُجري استبيان شمل بنية المبادرة، وعام تأسيسها، ونوع المبادرة، وموقع التأسيس الأول، والنطاق، وأسلوب الإدارة، والفئة العمرية الغالبة بين أعضائها وعضواتها وكوادرها من الجنسين، بالإضافة إلى مجال عملها، بما يشمل نطاق الاستجابة والتركيبة الوظيفية. إلا أن محدودية حجم فريق البحث انعكست على معدل الاستجابة، إذ لم تتلق الدراسة ردوداً سوى من 42 مبادرة ومنظمة (رغم تكرار المتابعة ومحاولات التواصل عبر شبكات مهنية وشخصية).

كذلك أُجريت مقابلات معمقة مع مُخبرين ومُخبرات أساسيين-ات من 24 منظمة ومبادرة، وذلك لتعميق تناول أسئلة البحث وفهم وجهات النظر المختلفة للفاعلين-ات في ظروف مختلفة. بالإضافة إلى ذلك، أُجري رصد رقمي غير تفاعلي على منصّات التواصل الاجتماعي. وتم تحليل أنماط التفاعل العام من خلال تحليل المحتوى، مع تركيز خاص على منصّة فيسبوك نظراً لشيوع استخدامها بين مبادرات الشتات، ولأسباب تتعلّق بإمكانات فريق البحث. كما شمل الرصد، وإن بدرجة أقل، وجود هذه المبادرات على منصّات أخرى.

ولضمان الالتزام بالمعايير الأخلاقية، فقد طبّق فريق البحث مجموعة من الإجراءات، حيث أُرسل للمشاركين والمشاركات ورقة معلومات تفصيلية توضح أهداف الدراسة، والمنظمات المشاركة فيها، وآليات التعامل مع البيانات وتخزينها، وضمانات السرية. وقد جرى الحصول على موافقة مستنيرة من كل مشارك ومشاركة. أما بالنسبة للمقابلات المعمقة، فقد قُدِّمت توضيحات إضافية قبل المقابلات لضمان فهم المشاركين والمشاركات حق كل منهم-ن في الانسحاب في أي وقت، أو الامتناع عن الإجابة عن أي سؤال دون الحاجة إلى التبرير. كما طُلب من المشاركين والمشاركات الحصول على موافقة شفوية لتسجيل الجلسات.

2. أنماط الانخراط الشتاتي
يتميّز الشتات السوري في ألمانيا عن غيره في أوروبا بخصائص فريدة تشكّلت بفعل مزيج من السياسات الداعمة والتحديات المتأصلة، ما أتاح له إمكانية المشاركة الفاعلة في مختلف القطاعات.

برزت ألمانيا كملاذ أساسي للسوريين-ات الفارّين-ات من النزاع، حتى أصبحت اليوم تحتضن أكبر شتات سوري في أوروبا. وعلى الرغم من تشديد ضوابط الحدود في السنوات الأخيرة، فقد ظلّ السوريون-ات في صدارة المجموعات الطالبة للجوء في 2024، بتقديم ما مجموعه 76,765 طلب لجوء أولي12. مع ذلك، فإن أفراد الشتات السوري في ألمانيا يشكّلون فئة غير متجانسة.

منذ 2015، أبدت ألمانيا دعماً كبيراً للاجئين-ات من سوريا، بدأ بتعليق العمل باتفاقية دبلن في أغسطس من ذلك العام. أتاح هذا التعليق إمكانية البقاء في ألمانيا بدلاً من إعادة اللاجئين-ات من سوريا إلى أول دولة أوروبية دخلوها. ورغم أن إجراءات دبلن أُعيد تفعيلها لجميع طلبة اللجوء، بمن فيهم السوريون-ات في 21 أكتوبر 2015، إلا أن ألمانيا واصلت، لسنوات لاحقة، تطبيق هذه الإجراءات بمرونة ملحوظة، ما مكّن العديد من طلبة اللجوء من البقاء في البلاد. لكن هذه المرونة قد تراجعت في السنوات الأخيرة.

علاوةً على هذه السياسات، قدّمت ألمانيا دعماً واسع النطاق للاجئين-ات من سوريا عبر برامج اللجوء والتعليم والتدرُّب على اللغة والتوظيف13. كما خصّصت وزارة التعاون الاقتصادي والتنمية الفيدرالية حوالي 10 مليارات يورو بين عامي 2012 و2023 لمعالجة تداعيات الأزمة السورية المستمرة.14

أشكال الانخراط والمشاركة

يتكوّن المجتمع السوري في ألمانيا من مهاجرين ومهاجرات قدامى، ومن عدد كبير من الوافدين والوافدات الجُدد منذ 2011. يتميّز هذا المجتمع بتنوّع كبير في الطموحات والرؤى والقدرات ومجالات الانخراط. وقد انخرط كثيرون منه في أنشطة المجتمع المدني، سواء بصورة رسمية أو غير رسمية.

بالنسبة للعديد من المنخرطين-ات في المجتمع المدني في الشتات، يُمثّل النشاط بعد الهجرة امتداداً للجهود التي بدأوها خلال الانتفاضة السورية من أجل التغيير الاجتماعي والسياسي. وفي البداية، قاموا بتأجيل طموحاتهم-ن الشخصية، معتبرين هذا التنازل مؤقتاً على أمل العودة لتحقيقها بعد سقوط النظام. غير أن هذه الآمال تبدّدت أمام واقع القمع المستمر؛ إذ أدّت وحشية النظام في الرد على الانتفاضة إلى تحطيم توقعاتهم-ن، وأجبرت العديد من الناشطين-ات على إعادة توجيه جهودهم-ن نحو العمل الإنساني داخل البلاد. ومع مرور الوقت، أُجبر من استمرّ في المقاومة السلمية على الفرار – إمّا إلى مناطق خارج سيطرة النظام داخل سوريا، أو إلى دول الجوار، أو حتى إلى أوروبا – هرباً من تصاعد المخاطر.

أما الناشطون والناشطات الذين انتقلوا إلى دول الجوار، فقد واصلوا أعمالهم-ن من خلال تأسيس منظمات غير حكومية أو الانضمام إليها لتقديم الدعم للسوريين-ات داخل البلاد وفي البلدان المضيفة. خلال السنوات الأولى من الانتفاضة، اختار الكثير منهم-ن البقاء قريبين-ات من سوريا، متمسكين-ات بأمل بدء حياة جديدة فيها15. لكن مع تشديد القيود في بلدان اللجوء، وتلاشي الأمل في حدوث تغيير وشيك في سوريا، اضطر البعض للانتقال إلى بلدان أبعد. وتمكّن آخرون وأُخريات من الوصول مباشرة إلى أوروبا، لتصبح ألمانيا – على وجه الخصوص – موطناً لأكبر تجمع للشتات السوري في أوروبا.

وفي ألمانيا، كما في أجزاء أخرى من أوروبا، تكرّر نمط مشابه، حيث استُثمر الهامش المتاح من الحرية والمساحة العامة لمواصلة النشاط. فاستأنفَ السوريون والسوريات القادمون حديثاً العمل الذي بدأوه في سوريا أو دول الجوار، أو أسّسوا منظمات جديدة أو مبادرات غير رسمية، أو انضمّوا إلى منظمات قائمة. وسعت جهودهم-ن إلى سدّ الفجوة بين سوريي-ات الشتات ووطنهم-ن، من خلال تعزيز التضامن والدعم المتبادل.

بالنسبة للبعض، أتاح المنفى آفاقاً جديدة للنشاط في مجالات لم يسبق لهم-ن العمل فيها. فتطوّرت المبادرات التطوعية التي بدأوها إلى فرص مهنية، مكّنتهم-ن من إعادة رسم ملامح مستقبلهم-ن بعد ما خلّفته الحرب والتهجير16. وقد وجد العديد من أفراد الشتات أدواراً في القطاع الإنساني والاجتماعي من خلال منظمات غير حكومية وطنية ودولية، مدفوعين-ات بندرة الفرص المهنية المتاحة للاجئين-ات، ورغبة كلٍّ منهم-ن في الحفاظ على صلة تربطهم بسوريا من خلال عملهم-ن. وبالرغم من أن هذه الجهود تعكس التزاماً عميقاً بدعم الوطن وأبناء وبنات المجتمع السوري، فإنها تُبرز أيضاً مشهداً معقّداً من الآمال المتضاربة والواقع القاسي الذي يواجهه الشتات.

أما المجموعة الأصغر من السوريين-ات الذين كانوا مقيمين-ات في ألمانيا قبل 2011، فقد أصبح بعضهم-ن ناشطين-ات بعد الانتفاضة، في حين أعاد آخرون وأُخريات إحياء منظمات أسّسوها فيما سبق. توسَّع العمل استجابةً للحاجات المتزايدة، ليس فقط في ألمانيا، بل أيضاً في سوريا ودول الجوار.

من الجدير بالذكر أن بعض المنظمات والشبكات التي تشكّلت بعد 2011 قد نشأت من خلال التعاون بين موجات الشتات السوري الأقدم والأحدث، وكذلك من خلال الشراكة مع منظمات وشخصيات ألمانية.

قبل 2011، كان نشاط الشتات السوري في ألمانيا محدوداً نسبياً؛ إذ كان عدد المنظمات النشطة في عموم البلاد أقل من ثلاثين17، وكانت العديد منها قد أُسّست من قِبل مجتمعات كردية. يُعزى ذلك إلى صغر حجم الجالية السورية في ألمانيا آنذاك، حيث أن الغالبية وصلت خلال الموجة الأولى من الهجرة في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي. ففي السبعينيات، شجّعت كل من جمهورية ألمانيا الاتحادية وجمهورية ألمانيا الديمقراطية الهجرة السورية لأغراض تعليمية، ولا سيما في مجالات الطب والهندسة، من خلال تقديم دورات لغوية ومنح دراسية، وقد أبرمت ألمانيا الشرقية اتفاقاً ثنائياً مع سوريا لهذا الغرض18. كما شهدت الثمانينيات وصول طالبي وطالبات لجوء سوريين وسوريات فرّوا من القمع العنيف الذي استهدف جماعات المعارضة، بما في ذلك أعضاء التيارات اليسارية وجماعة الإخوان المسلمين، في ظل حكم الرئيس حافظ الأسد. شكّلت الانتفاضة السورية في 2011 نقطة تحول مفصلية، أشعلت موجة غير مسبوقة من العمل الجماعي، وأدّت إلى زيادة كبيرة في عدد المبادرات التي يقودها سوريون-ات في الخارج، بما في ذلك ألمانيا.

ويُظهر بحثنا أن أقل من عشر منظمات أُسست في 2011، لكن هذا العدد تضاعف في 2012. وقد بلغ هذا النمو ذروته في 2016، حيث تم تسجيل نحو 30 منظمة وشبكة جديدة19، وهو اتجاه ارتبط ارتباطاً وثيقاً بسياسة الباب المفتوح والهجرة المرحِّبة التي انتهجتها ألمانيا في 2015، بالإضافة إلى التدفق الكبير للاجئين واللاجئات من سوريا. إلا أن السنوات الثلاث الماضية شهدت تراجعاً ملحوظاً في عدد التسجيلات، نتيجة للقيود المالية وتغيّر المزاج العام في ألمانيا تجاه الهجرة. كما تبيّن أن العديد من المبادرات والمنظمات كانت قصيرة العمر، وهو ما تعكسه حالة الجمود أو الغياب عن منصّات التواصل الاجتماعي.

(رسم بياني: التسجيل السنوي لمبادرات الشتات السوري في ألمانيا: خط زمني من عام 2011 حتى اليوم) [عدد المبادرات والمنظمات المسجّلة]
من اللافت أن بعض هذه المنظمات قد تأسّس في البداية خارج ألمانيا – في سوريا ولبنان وتركيا ودول أوروبية أخرى – قبل أن تُسجّل في ألمانيا لدعم أنشطتها في سوريا أو في المنطقة المحيطة. وفي عدد محدود من الحالات، ساهم التسجيل في ألمانيا في تسهيل انتقال الأعضاء إلى أوروبا. وعلى العكس، فقد سهّل انتقال الأعضاء إلى أوروبا في كثير من الأحيان عملية تسجيل المنظمة في ألمانيا؛ كما أن التسجيل في أكثر من دولة كان في كثير من الأحيان خطوة استراتيجية لتجاوز العقبات المالية والإدارية التي تواجهها الشبكات السورية، لا سيما في ظل العقوبات وقضايا الامتثال المفرط، والخوف من حملات القمع. على سبيل المثال، شكَّلت حملة القمع التي شنَّتها الحكومة التركية في 2017 على المنظمات الدولية غير الحكومية20إنذاراً مبكراً، تبعها فرض قيود أشد على المنظمات السورية، ما دفع العديد منها إما إلى مغادرة تركيا أو السعي لتسجيل نفسها في دول أقل تشدداً، واستكشاف سبل بديلة للعمل في المنطقة.
من جهة أخرى، لعبت المنظمات التي تأسّست في ألمانيا لدعم السوريين والسوريات داخل البلاد دوراً محورياً في سدّ الفجوات الخدمية التي تركتها المؤسسات الرسمية. فعلى الرغم من حجم المساعدة المقدَّمة من الحكومة، ظلّت هناك احتياجات غير ملبّاة، الأمر الذي دفع إلى ظهور عدد كبير من المبادرات التي يقودها أفراد من الشتات السوري في مختلف أنحاء ألمانيا. وقد أنشأت هذه المبادرات والمنظمات شبكة متعددة الأبعاد من الروابط الاجتماعية على مستويات «الدمج» و«الترابط» و«الوصل»، استفاد منها النساء والرجال، والعائلات، والمجتمع السوري الأوسع21. وتنوّعت أشكال الدعم التي قدّموها، لتشمل تنظيم فضاءات للقاءات المجتمعية، والمساعدة في إيجاد سكن، وتعلّم اللغة، وتوفير فرص العمل، وتيسير الوصول إلى المؤسسات الألمانية، وتجاوز حواجز اللغة، وتقديم المشورة القانونية، وغيرها من أشكال الدعم.

ومن الجدير بالذكر أن أكثر من 80% من المبادرات المسجَّلة تحمل صفة Vereine – مصطلح ألماني يُقصد به «الجمعيات» أو «الروابط» – وهي كيانات تُعتبر ركناً أساسياً في النظام الديمقراطي الألماني22. ناهيك عن ذكر الشبكات المجتمعية غير الرسمية التي تعمل عبر الإنترنت، وعدد صغير جداً من المبادرات التي تعمل بموجب أنواع تسجيل قانونية أخرى، مثل GmbH (شركة ذات مسؤولية محدودة) وgUG (شركة غير ربحية ذات مسؤولية محدودة) (راجع-ي الملحق أدناه).

تتركّز الغالبية العظمى من المبادرات والمنظمات السورية، لا سيما تلك التي أُنشئت بعد 2011، في برلين – حيث يبلغ عددها نحو 34 مبادرة ومنظمة. يمتد هذا الاتجاه أيضاً إلى الولايات الألمانية الغربية السابقة، حيث تتفوق الأعداد بشكل ملحوظ مقارنة بالولايات الشرقية السابقة. ومن بين ولايات غرب ألمانيا، تتصدّر ولاية شمال الراين-وستفاليا القائمة بـِ22 مبادرة، تليها ساكسونيا السفلى (18)، ثم بادن-فورتمبيرغ (17)، وهيسن (10)، وبافاريا (10).

(رسم بياني: توزيع مبادرات الشتات السوري في ألمانيا: نظرة عامة على مستوى الولايات)
يعكس هذا التوزيع الأنماط التي لوحظت في دراسات مماثلة، ويمكن عزوه إلى عدة عوامل. من الناحية الجغرافية، استضافت ولاية شمال الراين-وستفاليا أكبر عدد من المواطنين والمواطنات السوريين-ات المقيمين-ات في ألمانيا حتى ديسمبر 2018، حيث بلغ عددهم-ن 206.240 شخصاً، تلتها ساكسونيا السفلى (79.930)، وبادن-فورتمبيرغ (78.145)، وبافاريا (72.565)23. وقد أدّى «مفتاح كونيغشتاين» 24دوراً مهماً في تشكيل هذا التوزيع؛ إذ تُحدِّد هذه الآلية توزيع طالبي وطالبات اللجوء بين الولايات الفيدرالية بناءً على عائدات الضرائب وعدد السكان في كل ولاية. نتيجة لذلك، استقر عدد كبير من المواطنين والمواطنات السوريين-ات، الذين وصلوا إلى ألمانيا كطلبة لجوء بعد اندلاع الأزمة السورية، في مناطق خاضعة لهذا النظام.

علاوةً على ذلك، تُوفِّر برلين ومدن ألمانيا الغربية السابقة بيئة مواتية لنمو منظمات الشتات. وباعتبارها عاصمة البلاد، تتيح برلين بيئة كوزموبوليتية وفرص تمويل وشبكات مناصرة، جميعها ساهمت في تشجيع تأسيس وتطوّر المبادرات الشتاتية.

ورغم أن الدراسة لم تتمكن من جمع بيانات حول حجم قُرابة نصف المبادرات المُدرجة في الخارطة، إلا أنها نجحت في الحصول على معلومات عن النصف الآخر. ومن بين هذه، تبيّن أن حوالي 74% هي مبادرات صغيرة، تتكوّن من أقل من 20 عضواً-ة ومتطوعاً-ة. ونحو 20% منها تُصنَّف كمبادرات متوسطة، تضمّ ما بين 20 و50 موظفاً-ة ومتطوعاً-ة، في حين شكّلت المبادرات الكبيرة – التي تضم أكثر من 50 موظفاً-ة ومتطوعاً-ة – نسبة 16%.

مع ذلك، غالباً ما تتّسم المنظمات الأكبر حجماً بطابع عابر للحدود. إذ أن العديد منها أنشأ فِرَقه قبل التسجيل الرسمي في ألمانيا، ويعمل في عدة دول، لا سيما سوريا ومحيطها الإقليمي. وتُتيح طبيعتها العابرة للحدود، وبُنيتها التنظيمية القائمة مسبقاً، الوصول إلى نطاق وقدرة أكبر، كون فرق العمل والمتطوعين والمتطوعات موزّعين-ات بين ألمانيا ودول أخرى.

ويمكن عزو توزيع أحجام المنظمات إلى مجموعة من العوامل التي تم تحديدها من خلال الاستبيانات والمقابلات. وتشمل التحديات الأساسية نقص التمويل، والتعقيدات الإدارية والقانونية، والحساسيات المرتبطة بالسياقين السوري والألماني، والأعباء الشخصية التي يواجهها أفراد الشتات. وغالباً ما تشمل هذه الأعباء محاولة التوفيق بين متطلبات الحياة في ألمانيا، ودعم أفراد الأسرة في سوريا، والانخراط مع المجتمع الأوسع. وتُقيّد هذه العوامل مجتمعةً حجم العديد من المبادرات والمنظمات وقدرتها على الاستمرار.

مع ذلك، تجدر الإشارة إلى أن الغالبية العظمى من الأعضاء والعاملين-ات في المنظمات والمبادرات التي تناولتها الدراسة يحملون على الأقل شهادة البكالوريوس، في حين أن نسبة صغيرة فقط منهم-ن حاصلون-ات على شهادة الثانوية العامة دون تعليم جامعي. وينسجم هذا الاتجاه مع أنماط أوسع لوحظت في أوساط مجتمعات الشتات عموماً. إذ تُظهر الأبحاث حول ريادة الأعمال في الشتات أن الأفراد ضمن هذه المجتمعات غالباً ما يمتلكون مؤهلات تعليمية مرتفعة، تتيح لهم-ن إدارة المهام التنظيمية المعقدة وحشد الموارد بفعالية25. علاوةً على ذلك، يُنظَر عادةً إلى الأفراد ذوي التحصيل العلمي العالي على أنهم قياديون-ات أكثر شرعية، ويتمتعون بمصداقية وثقة أكبر سواء داخل مجتمعاتهم-ن أو من قِبل الجهات الخارجية، مثل الحكومات، والمنظمات غير الحكومية، والجهات المانحة26. تُعد هذه الخلفيّة التعليمية شكلاً من رأس المال الاجتماعي القيّم، تعزّز قدرتهم-ن على كسب الاعتراف والدعم الخارجي لمبادراتهم-ن. وتبدو هذه المؤهلات واضحة بجلاء لدى من يتولّون ويتولّين أدواراً قيادية، أو يشاركون ويشاركن بفاعلية في منظمات ومبادرات الشتات السوري.

3. الجندر، التقاطعية، والشمول
يتميّز الشتات السوري في ألمانيا بمشهد جندري ديناميكي يؤثّر على مساهمات هذا المجتمع ويُشكِّلها في كلٍّ من وطنه الأم والبلد المضيف. إذ تنشط العديد من مبادرات المجتمع المدني في تعزيز التمثيل والمشاركة المتساوية والشاملة، ومعالجة التمييز البنيوي وأوجُه اللامساواة الجندرية من منظور تقاطعي، بما في ذلك دعم الفئات الجندرية المُهمَّشة.

يبرز الجندر كعامل محوري في هذه المبادرات، بوصفه استجابةً لعدم المساواة الهيكلية، والتهميش التاريخي، والاضطرابات الاجتماعية والسياسية. تدافع مبادرات الشتات السوري في ألمانيا عن المساواة الجندرية، وتركِّز على إبراز أصوات النساء التي طالما كُمِّمت بفعل العنف السياسي والمعايير المجتمعية. وتتحدى هذه المبادرات الأدوار الجندرية التقليدية عبر منصّات متعددة، من بينها البث الإذاعي، ونشر الكتيّبات، والمشاركة الفاعلة في الخطاب العام في ألمانيا. كما توفّر العديد من هذه المبادرات برامج تدريبية للاجئات السوريات، لتعزيز الاعتماد على الذات والاستقلالية من خلال تطوير المهارات ودعم التمويل الصغير. وتُعدّ هذه الجهود بالغة الأهمية في مواجهة العنف القائم على الجندر وتهميش النساء، وهي قضايا تفاقمت بفعل النزاع السوري.

يُعبِّر بعض الناشطين والناشطات عن منظور أكثر تمايزاً يتجاوز مسألة الجندر وحدها، ويشدّد على أهمية العدالة السردية. فعلى سبيل المثال، تقول نسرين، مؤسسة إحدى المبادرات النسوية في برلين:

«بالنسبة لي، المسألة ليست جندرية، بل تتعلّق أكثر بكيفية السعي لتحقيق المساواة من حيث القدرة على سرد الرواية – وأنا منخرطة جداً في مسألة الرواية السورية، وبالأخص جانب الثورة».

تُبرز وجهة نظر نسرين أهمية ضمان ألا يُطغى على تاريخ الثورة السورية أو يُشوَّه أو يُختَزل من قِبل جهات فاعلة خارجية أو خطابات سياسية سائدة. بالنسبة لها، لا يتمحور النضال فقط حول المساواة الجندرية، بل يشمل كذلك ضمان تمثيل دقيق وعادل لسرديات الثورة – من حيث دوافعها، والجهات الفاعلة فيها، ومدى تأثيرها. وقد أتاح لها هذا المنظور أن تكون فاعلة أساسية في منصّات تعمل على تضخيم أصوات النساء وتوثيق سردياتهن من منظور ذاتي، لا من خلال عدسات خارجية، وبالأخص الغربية منها.

تتناول المبادرات في الشتات السوري بألمانيا بشكل متزايد قضايا التفاوت الجندري، والتقاطعية، والمشاركة السياسية. ويشير الناشطون والناشطات إلى الفجوة المستمرة في التمثيل السياسي والإعلامي، لافتين إلى أن مساهمات النساء في الحركات السياسية غالباً ما يُطغى عليها بفعل سرديات يهيمن عليها الرجال. كما تُوجَّه انتقادات لما يُعرف بـ«الإدماج الرمزي» للنساء في مواقع القيادة من دون مشاركة فعالة أو حقيقية. لذلك تسعى العديد من المبادرات في ألمانيا، انطلاقاً من منظور غير غربي وغير أبيض، إلى تشجيع النساء على سرد تجاربهن وتمثيل أنفسهن، من خلال دعم كتابة النساء عن ذواتهن وأماكنهن الأصلية على سبيل المثال.

تعتمد العديد من المبادرات منهجاً تقاطعياً يتجاوز المجتمع السوري ليشمل لاجئات من خلفيات متنوّعة، وتسعى إلى معالجة التحديات المعقّدة الناجمة عن تداخل الهويات، بما في ذلك العنصرية، ووضعية اللجوء، والاختلافات الدينية والإثنية. وتستهدف الأنشطة المختلفة تعزيز الحوار عبر الفواصل، وجمع نساء من انتماءات ثقافية وسياسية متعددة.

وتُشير أبحاث سابقة إلى أن مشاركة النساء السوريات في المجتمع المدني تتأثّر بعوامل متداخلة مثل الطبقة الاجتماعية، ووضعية الهجرة أو اللجوء، والانتماء الإثني27. وقد تحدّت مبادرات المجتمع المدني في الشتات العديد من الأعراف الاجتماعية من خلال تشجيع النساء على الحديث علناً عن تجاربهن وأجسادهن ورحلاتهن في الشتات، والتعبير الصريح عن طموحاتهن السياسية.

يمكن للتقاطعية أيضاً أن تؤثر على تجارب الاندماج بطرق مختلفة؛ فعلى سبيل المثال، كثيراً ما تتأقلم الشابات بشكل أسرع من النساء الأكبر سناً اللواتي لديهن مسؤوليات أُسرية. ويعكس ذلك استمرار التحديات البنيوية، كما يظهر في أنماط الهجرة التي يهيمن عليها الذكور، وفي ضعف تمثيل النساء داخل منظمات الشتات.28

يزيد التنوع داخل الشتات السوري من تعقيد الديناميات الجندرية، إذ إن النساء القادمات من مناطق وطوائف مختلفة جلبن معهن رؤى وتحديات متباينة. وقد كشفت بعض مبادرات الشتات عن توترات حول موضوعات مثل الحجاب، والشريعة الإسلامية، وحقوق النساء. كما تقول نسرين:

«كان هناك أيضاً صراع طائفي – النساء اللواتي يعارضن الحجاب يعتقدن أن المرأة التي تتحجّب تخرج من دائرة التنمية والتمكين وما إلى ذلك. لذا كنت أواجه أحياناً هذا النوع من الصدامات داخل الغرفة، وخصوصاً عندما كنا نتحدث عن حقوق المرأة في ظل الإسلام والشريعة الإسلامية […] هذا التنوع، من جهة معينة، ساعد النساء على التعرّف أكثر إلى سوريا».

تعكس تأملات نسرين تعقيدات الديناميات الجندرية داخل الشتات السوري، لا سيما في ما يتعلّق بالخلافات الطائفية والإيديولوجية. وهي تُظهر أن الخطاب المرتبط بالنوع الاجتماعي يشهد اختلافات وتوترات داخلية تعبّر بدورها عن تباينات أوسع داخل الشتات السوري، كما تُبرز الدور الذي يلعبه التنوع في صياغة الفهم الجماعي.

على المستويين الفردي والجماعي، تؤدي التقاطعية دوراً مفصلياً في تشكيل الهوية الشتاتية، التي تتّسم بطابع مرن يتأثّر بتفاعل الجندر، والانتماء الإثني والقومي، والسياق السياسي. تتحدث عزيزة، وهي امرأة كردية أسّست مبادرة للشتات في ألمانيا، عن مرونة الهوية الشتاتية:

«أنا مرتبطة جداً بهويتي كامرأة، بهويتي الجندرية – بمعنى أنني امرأة أولاً وقبل كل شيء، وهذا أمر يهمني، ولهذا السبب فإن العمل من أجل النساء هو حياتي وشغفي. الأمر الثاني هو هويتي ككُردية، لا أنسى أنني كردية، ولكن في بعض اللحظات أتحول فجأة إلى ألمانية ولا أتذكر أنني كردية! هويتي تعتمد على الموقف. في لحظات أخرى، أكون أيضاً سورية. في بداية الثورة السورية، لم نفكر في أي شيء سوى أننا رجال ونساء سوريون، وأن هناك ثورة في بلدنا، وكل ما فكّرنا فيه هو كيف يمكننا دعمها وإنجاحها. ففي النهاية، نحن وُلدنا ونشأنا وعشنا هناك».

تتنقّل عزيزة بين أشكال متعددة من الانتماء والتهميش – أولاً كامرأة تناضل من أجل العدالة الجندرية، وثانياً ككُردية تنتمي إلى مجموعة إثنية تعرّضت تاريخياً للاضطهاد، وثالثاً كمشاركة في نضال سوري أوسع من أجل التغيير. تُبرز مبادرتها أهمية الحساسية الثقافية، والاعتراف بأن تقاطع الجندر، والهوية الإثنية، والسياق السياسي التاريخي، جميعها عوامل تُشكّل تجارب النساء في الشتات.

وبما يتماشى مع أبحاث سابقة، فإن العديد من مبادرات الشتات السوري المشمولة في هذه الدراسة يسَّرت مشاركة النساء السوريات في العمليات السياسية، بما في ذلك المبادرات التي تدافع عن تطبيق قرار مجلس الأمن رقم 1325 بشأن المرأة والسلام والأمن.29

تُعد المشاركة السياسية مجال تركيز رئيسياً، وقد صُمّمت برامج لتشجيع النساء والفئات المُهمَّشة الأُخرى على الانخراط في العمليات السياسية. تهدف مبادرات القيادة إلى تعزيز التمثيل داخل الأحزاب السياسية والدفاع عن السياسات العادلة، في حين تُسهم الشراكات مع مجموعات سياسية ألمانية في تضخيم سرديات اللاجئات وتجاربهن. تُشدّد نسرين على أهمية المشاركة الفاعلة في الحيّز السياسي فتقول:

«أريد أن أدفع بأكبر عدد ممكن من الشباب والشابّات للانضمام إلى الأحزاب السياسية، ومن المهم جداً أن نمثّل أنفسنا. لا يمكننا الاستمرار في المطالبة إذا لم نكن حاضرين وحاضرات، لذلك فإن أحد الأهداف الأساسية من برنامج القيادة هو أن يكون هناك المزيد والمزيد من المشاركين والمشاركات في الحياة السياسية. من المهم جداً أن نفعل ذلك حتى لو لم نكن في مواقع قيادية. في سوريا، لم نكن نمتلك حياة سياسية حقيقية. أغلب الناس أعضاء في حزب البعث، وهذا لا يُعد تجربة سياسية فعلية».

أما الجهود الرامية إلى تناول قضايا مجتمع الميم ضمن مبادرات الشتات السوري في ألمانيا، فلا تزال محدودة لكنها آخذة في التطور. وبالرغم من انفتاح بعض المنظمات على شمول أفراد مجتمع الميم، فإن الحضور العلني للمشاركين والمشاركات المنتمين-ات إليه في مواقع القيادة أو على المنصّات العامة ما يزال محدوداً بشكل ملحوظ، خصوصاً داخل المبادرات التي لا تُركّز أساساً على قضايا الجندر. مع ذلك، ثمة إدراك متزايد بأن الانتماء إلى فئة مُهمَّشة – كأن يكون المرء غير ثنائي الجندر – يمنح فهماً أعمق لأشكال القمع القائمة على النوع الاجتماعي، كما يوضح مروان:

«ربما كان ما أوصلَني إلى موقعي القيادي في مجال البرمجة هو أنني مثلي. لَم أُعلن عن هويتي للمبادرة التي أعمل فيها في البداية، لكن كوني مثلياً جعلني أفهم كل الانتهاكات التي تتعرض لها النساء».

تُسلّط هذه الشهادة الضوء على النقاشات المستمرة التي تربط بين حقوق مجتمع الميم والنضالات الأوسع من أجل المساواة الجندرية والعدالة الاجتماعية على الصعيد العالمي، وكذلك ضمن الشتات السوري في ألمانيا. وتُسهم المبادرات التي يقودها أفراد مجتمع الميم في توسيع هذا الحوار المتنامي، عبر إنشاء منصّات تتقاطع فيها قضايا الهوية الجندرية والميول الجنسية والنشاط الحقوقي. على سبيل المثال، تُعد البودكاستات التي يصنعها مثليون ومثليات من سوريا في برلين منابر متقدّمة لمناقشة حقوق مجتمع الميم داخل الشتات.

إن تقاطع الهويات الجندرية واللامعيارية يوجّه الكثير من هذا النشاط. يؤكّد مروان، على سبيل المثال، على أهمية النهج المجتمعي الذي يحترم الحساسية الثقافية، ويشدّد على أهمية الالتزام بالأطر القاعدية التي تُعلي من حرية التعبير والتمكين المحلي:

«نحاول دائماً أن نُبقي في بالنا أننا منظمة قاعدية، لكن في الوقت نفسه لدينا إطار نسوي. لا نريد أن نفرض النسوية منذ البداية – لا النسوية البيضاء، ولا حتى الأجندة النسوية السورية – على النساء في الميدان. لا نعتمد نهجاً من الأعلى إلى الأسفل، بل نحاول أن نتحاور معهن حول احتياجاتهن الأساسية، ومن تلك الاحتياجات ننطلق في النقاش».

يُشكّل الاستخدام الاستراتيجي للمنصّات الدولية، وطرح أجندة نسوية محلية، ورفض النسوية البيضاء، الأساس الذي تنطلق منه مقاربة مروان في الدفاع عن قضايا الجندر:

«هنا عليهم أن يقبلونا: لا خيار لديهم لرفضنا. هذا هو فهمنا للنسوية. إنها ليست نسوية بيضاء. لا يمكنهم تسميتها كذلك، لأن سياقنا مختلف».

يُبرز تأكيد مروان على توطين الخطاب النسوي أهمية ربط النضالات الجندرية بالسياقات الثقافية والتاريخية والسياسية الخاصة. وتُشكّل مقاربته تحدّياً مباشراً للسرديات الغربية المهيمنة في الفضاءات النسوية الدولية، عبر طرح أجندة نسوية تنبثق من تجارب معيشة محلية، لا من أطر عابرة مفروضة من الخارج.

تعمل مبادرات الشتات السوري عبر مناطق متعددة، من شمال شرق سوريا إلى لبنان وتركيا وألمانيا، حيث تُكيَّف مقارباتها لتتلاءم مع السياقات السياسية والاجتماعية والثقافية الخاصة بكل موقع. ويُشدّد الناشطون والناشطات على أن التنسيق بين هذه السياقات المتباينة يتطلّب فهماً عميقاً للنضالات المختلفة التي تواجهها النساء، إلى جانب التعامل مع القيود السياسية، والحساسيات الثقافية، والواقع اليومي المتفاوت للنساء والفئات المُهمَّشة في كل بلد.

رغم هذه التحديات، أدّت أشكال التعاون العابرة للحدود والأقاليم إلى ظهور مشاريع مؤثرة، شجّعت على الحوار بين نساء من خلفيات متنوّعة. وقد كيَّفت هذه المبادرات لغتها وأساليب مناصرتها وفقاً للسياقات المحلية بشكل استراتيجي، مع التزامها الدائم بقضايا العدالة الجندرية وحقوق مجتمع الميم. وهي تُجسّد مقاربة مرنة من دون التفريط بالمبادئ، ما يضمن استمرار النقاش حول الجندر والجنسانية حتى ضمن البيئات المقيدة.

«في لبنان، كان الأمر مقبولاً … أما في سوريا، فكان بالغ الحساسية، لأننا إذا تحدثنا عن الجندر، ثم شاركت النساء ما تعلَّمنه من مبادرتنا بطريقة غير رسمية، فقد يُعرِّض ذلك جميع مراكزنا للخطر. لذلك نحاول تغيير المصطلحات مع الحفاظ على المفاهيم. والآن، بدلاً من استخدام كلمات مثل ’الجندر‘ أو ’الجنسانية‘ أو ’اللامعيارية‘، نترجم المصطلحات إلى العربية كَـ’النوع الاجتماعي: رجل وامرأة‘».

يُجسّد هذا المثال كيف تتعامل مبادرات الشتات السوري بمهارة مع القيود المحلية، فتجد سبُلاً لطرح نقاشات جوهرية حول الجندر وحقوق مجتمع الميم من دون إثارة ردود فعل عنيفة أو تعريض النشطاء والنشاطات للخطر. وبدلاً من التخلّي عن هذه الموضوعات بالكامل، تُعيد هذه المبادرات صياغة خطابها وتكييفه، بما يضمن بقاء مفاهيم الشمول والعدالة في صميم العمل.

من السمات المميّزة لهذه المبادرات تقاطعيّتها ومقاربتها العابرة للحدود، التي تتيح الربط بين نضالات مختلفة عبر الجغرافيا، مع البقاء منغرسة في الواقع المحلي. فبدلاً من استنساخ نماذج المناصرة النسوية أو الكويرية الغربية، تقوم هذه المبادرات بتكييف نطاق عملها مع كل سياق، وتطوير أُطر ثقافية معبّرة تعزّز حقوق النساء ومجتمع الميم ضمن الحركات النسوية الأوسع.

مع ذلك، ورغم هذه النماذج الناجحة، ما يزال الشتات السوري في ألمانيا يواجه تحديات كبيرة في طرح قضايا مجتمع الميم بشكل علني، بسبب الحواجز الثقافية العميقة والقيود السياسية. فبينما تلتزم مبادرات الشتات بالعدالة الجندرية والشمول، فإنها تعمل في بيئات شديدة الحساسية لا تتيح دوماً الدفاع عن حقوق مجتمع الميم من دون تعريض الأفراد أو المنظمات للخطر.

4. الفجوة الجيلية
شكّلت الانتفاضة السورية في 2011 لحظة فارقة اندلعت منها شرارة المشاركة السياسية واسعة النطاق لدى الشتات السوري في ألمانيا، فأصبحت حافزاً للنشاط الفعّال والملموس. لكن تصاعد الصراع عمَّق الانقسامات الثقافية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية داخل الشتات، وعكس معه الانقسامات الأوسع التي أحدثها الصراع داخل سوريا نفسها.30

غالباً ما تتشكَّل جماعات الشتات القادمة من بلد واحد من موجات وأنماط هجرة مختلفة، تتراوح بين التهجير القسري والهجرة من أجل العمل والتعليم ولَمِّ الشمل العائلي31. ويُجسّد الشتات السوري في ألمانيا هذا التنوّع، حيث يتنقل أفراده بين سياقات اجتماعية واقتصادية وسياسية متباينة، تُؤثر بدورها في هوياتهم-ن، وآرائهم-ن السياسية، وقدراتهم-ن على المشاركة.32

القديم والجديد: توتر وتعاون

قبل 2011، كانت الجالية السورية في ألمانيا صغيرة نسبياً، تُقدَّر بنحو 30 ألف شخص33. تكوَّنت الموجة الأبكر من المهاجرين والمهاجرات بشكل أساسي من سوريين-ات جاءوا لأغراض تعليمية، خصوصاً في مجالات مثل الطب والهندسة. كما لجأ بعض السوريين-ات إلى ألمانيا في ثمانينيات القرن الماضي بعد قمع الحكومة السورية لانتفاضة حماة. ومع مرور الوقت، حقق كثير منهم-ن الاستقرار المالي، وترسَّخ وجودهم-ن في المجتمع الألماني، وبنوا-ين شبكات قوية من العلاقات. ثم بحلول عام 2011، ولا سيما بعد 2015، أدّى التصاعد الحاد للصراع في سوريا إلى موجة تهجير كبرى جديدة غيّرت بصورة جذرية مشهد الحراك داخل الشتات، وأعادت تشكيل بنيته وأولوياته والجهات الأساسية المشاركة فيه.

لقد لعبت الأجيال السورية الأحدث، والتي شارك كثير من أفرادها مباشرة في الانتفاضة، دوراً محورياً في تحويل الفعل الجماعي للشتات، وجعله أكثر تنوّعاً وانخراطاً سياسياً. في الوقت نفسه، واجه أفرادها تحدّيات الاندماج وإعادة بناء حياتهم-ن في بلد جديد، مع الحفاظ على الروابط مع الوطن الذي تركوه خلفهم-ن، والاستمرار في دعم الأُسر من بعيد. قالت بسمة، وهي ناشطة سورية شابة تعمل مع منظمات ألمانية وسورية، واصفةً الفروقات بين موجتَي الهجرة السورية:

«الجيل الأقدم، الذي غالباً ما يكون مستقراً مالياً وراسخاً مهنياً، يميل إلى التحفُّظ واحترام الترتيب الهرمي. أما القادمون والقادمات الجُدد، وكثير منهم-ن مشاركون ومشاركات مباشرة في الانتفاضة السورية، فأكثر تنوّعاً وانخراطاً سياسياً، ويركّزون على التغيير الجذري في البُنى».

ساهمت التطورات في ألمانيا، إلى جانب السياسات، في تعميق التشظّي والانقسام داخل الشتات السوري. تفاقمت هذه الديناميات بفعل استمرار خطوط الانقسام التي نشأت داخل سوريا نفسها. وشهد الخطاب الإعلامي والسياسي الألماني تحولاً من ثنائية كانت تقدّم اللاجئين واللاجئات ضمن سرديّتَين متناقضتَين – الأولى تُبرز هشاشتهم-ن وحاجتهم-ن إلى الحماية، والثانية تصوّرهم-ن كخطر على الاستقرار المجتمعي والانسجام الثقافي – إلى تركيز شبه حصري على اللاجئين واللاجئات كمصدر خطر. وقد ازدادت قوة هذا الخطاب، لا سيما بعد حوادث مختلفة وقعت في عدد من المدن الألمانية في السنوات الأخيرة. كما أسهم صعود اليمين المتطرف في ألمانيا، إلى جانب الحرب في غزة، في تغذية هذا الخطاب، إذ أصبحت الهجرة مسألة مركزية تستغلها الأحزاب السياسية لحصد الأصوات. ولَم يؤدِّ هذا التحوّل إلى تشكيل تصورات أوسع عن الشتات السوري فحسب، بل عمّق أيضاً الانقسامات الداخلية، ورسَّخ التراتبيات الجيلية والاجتماعية بين فئات الشتات السوري المختلفة.

في هذا السياق، شعر كثير من أفراد الجيل الأقدم من السوريين والسوريات في ألمانيا بالتهديد من قبل الناشطين والناشطات الجُدد الذين وصلوا بعد 2011. إذ أن المهاجرين والمهاجرات الذين تشكَّل وعيهم-ن خلال تجارب لجوء سابقة وجدوا أنفسهم-ن ضمن تصنيفات أوسع للاجئين-ات والمهاجرين-ات في ألمانيا34، جعلت بعضهم-ن يشعر-ن بالوصم أو فقدان المكانة، وحثَّت بعضهم-ن على تمييز منظّماتهم-ن عن الموجة الجديدة من الوافدين والوافدات، أو الخوض في صراعات حول التمثيل. ما تزال هذه الانقسامات مستمرة في السنوات الأخيرة. تُضيف بسمة، متأملةً في التحديات التي واجهتها مع الأعضاء الأكبر سناً في المنظمة التي تعمل فيها:

«هناك صراع بين الشتات الجديد والشتات القديم. هذه هي المشكلة الجوهرية في منظمتنا بألمانيا. على مدى السنوات الثلاث الماضية، حاولتُ ضمَّ أعضاء من الشتات الجديد إلى مجلس الإدارة، لأنه يجب أن يكون ديناميكياً. يجب أن يكون قادراً على التفكير بطريقة مختلفة وتقديم تحليل واضح للقضايا. وضعُنا واحتياجاتنا الآن لم تعد كما كانت من قبل، سواء من حيث التخطيط أو النشاط».

تعرّضت هيمنة الجيل الأقدم، مع ذلك، إلى تحدّيات متكرّرة من قبل ناشطين وناشطات نُفوا حديثاً، ورأوا في الثورة السورية تحولاً ليس سياسياً فحسب، بل جيلياً كذلك. فخلافاً للمهاجرين والمهاجرات الأوائل الذين غالباً ما تأقلموا مع المنفى ضمن أطر سياسية قائمة، دعا الكثير من هؤلاء إلى تحوّل اجتماعي أعمق، يسعى إلى تفكيك البُنى الأبوية المتجذّرة التي ما تزال حاضرة في المجتمع السوري، سواء داخل البلاد أو في الشتات.35

عبّر مراد، وهو محامٍ مخضرم في أواخر خمسيناته، وصل إلى ألمانيا في التسعينيات، عن عدم رضاه عن موجة المهاجرين والمهاجرات الجُدد – لا سيما مع بدء ظهور التوترات إثر انضمام أعضاء وعضوات جُدد إلى منظمته. بسبب تلك الخلافات، اختار في النهاية أن ينأى بنفسه، مُفضِّلاً ديناميات العلاقات القديمة التي يعرفها ويألفها. متأملاً في هذه التجربة، قال مراد:

«واصلنا العمل مع اثنين أو ثلاثة أو أربعة أعضاء حتى شكّلنا المجلس الجديد. وعندما غادروا، لم يبقَ سوى القُدامى – أنا وابنتي وصديقي القديم. هؤلاء وحدهم من يمكن الاعتماد عليهم فعلاً، وهم من يساعدونني في كل شيء … ما الفرق إذن بين الأعضاء الجُدد والقدامى؟ الفرق ثقافي، تعليمي – سَمِّهِ ما شئت».

من جهة أخرى، تحدّث مهند، وهو شاب سوري في أواخر العشرينات، يعمل في ريادة الأعمال ومنخرط بعمق في المشهد السياسي في كلّ من ألمانيا وسوريا، عن الفجوة الجيلية، مسلِّطاً الضوء على تباين وجهات النظر بين موجتَي الهجرة القديمة والجديدة. شرح كيف يؤدي تباين هذه الرؤى إلى توترات متكررة:

«نقطة مهمة أخرى هي الفجوة الكبيرة بين الشتات السوري القديم والجديد في ألمانيا. لا أريد التعميم – فبعض الأفراد من الجالية السورية القديمة يدعمون الجُدد ويقدمون المساعدة من أجل التأقلم. لكن جزءاً كبيراً من المجتمع القديم، بمن فيهم اقتصاديون واقتصاديات ومستثمرون ومستثمرات وأكاديميون وأكاديميات، حاولوا أن ينأوا بأنفسهم-ن تماماً عن المجتمع السوري الجديد في ألمانيا».

تتميّز موجة الهجرة الجديدة إلى ألمانيا ليس فقط بحداثة وصولها، بل أيضاً بالتركيبة الديمغرافية لأفرادها. فهذه المجموعة أصغر سناً عموماً، ووفقاً لنتائجنا، تتراوح أعمار معظم الناشطين-ات في المنظمات والمبادرات بين 20 و40 عاماً. ساهم الحجم الكبير لهذه الموجة في بروز فاعلين-ات جدد في «خطاب الشتات”، يقدّمون أنفسهم-ن كجهات تمثيلية مشروعة تمثِّل فئات معينة. ويلعب هؤلاء دوراً محورياً في رفع الوعي، وتسييس القضايا، وتحفيز الفعل الجماعي، مكوّنين بذلك عماداً أساسياً لممارسات التعبئة داخل الشتات.36

تُبرز هذه التطورات التوترات التي تنشأ في كثير من الأحيان، لا سيما في خضم صراعات حول التمثيل. فعلى الرغم من وجود فروقات جيلية داخل الشتات السوري، إلا أن هذه الفروقات قد ترافقت مع فرص للتعاون. وقد شكّل التعاون بين الجيلين عنصراً مهماً في تطوّر بنية الشتات، حتى وإن تباينت وجهات النظر والأولويات في بعض الأحيان. ففي نهاية المطاف، يتميّز فاعلو وفاعلات الشتات، والبُنى التي يعملون خلالها، بقدرة متأصلة على التكيّف، إذ يستجيبون دوماً للاحتياجات والسياقات المتغيّرة37. وقد لعب العديد من أفراد الجيل الأقدم دوراً في دعم الوافدين والوافدات الجدد، عبر مساعدتهم-ن على تأسيس منظمات، وتيسير سُبل الحياة في ألمانيا. وقد أفضت أشكال التعاون هذه، في بعض الحالات، إلى تأسيس منظمات جامعة مثل رابطة جمعيات الإغاثة السورية الألمانية التي تسعى إلى ردم الفجوة الجيلية وتقديم دعم قيّم لتجاوز تعقيدات النظام البيروقراطي في ألمانيا.

وجهات نظر جديدة ومشهد مثقل بالتحديات

بعيداً عن الديناميات المتغيّرة بين موجتَي الهجرة القديمة والجديدة، هناك جانبان بارزان في تجارب الجيل الجديد يستحقّان اهتماماً أعمق.

أولهما يتمثل في الطرق المبتكرة التي وسّع من خلالها هذا الجيل انخراطه في مجالات لم تحظَ سابقاً باهتمام يُذكَر من قِبل جماعات الشتات الأقدم. وبفضل العدد الكبير من أفراد هذا الجيل، والمنظورات الجديدة التي يقدّمها، والظروف المتباينة التي يواجهها، فضلًا عن حرصه على الحفاظ على روابط قوية مع سوريا، فقد دفع هذا الجيل بحدود العمل الشتاتي إلى آفاق جديدة، مُطلقاً سلسلة من المبادرات السياسية والاجتماعية والثقافية. ومن بين مساهماته العديدة، يَبرز سعيه للحفاظ على التراث الثقافي، وإطلاق مبادرات ثقافية مبتكرة، وتقديم مقاربات غير مسبوقة في مجال التعليم. فعلى سبيل المثال، يقوم معلّمون ومعلّمات من داخل سوريا اليوم بتقديم دروس لأطفال سوريين-ات وُلدوا في المنفى، فيتكفّل الأهالي بدفع أجور هذه الدروس كوسيلة لدعم سُبل عيش المعلّمين والمعلّمات. إضافة إلى ذلك، أحرز الجيل الجديد تقدماً ملحوظاً في مجال المناصرة، من خلال تسليط الضوء على انتهاكات حقوق الإنسان، وحالات الإخفاء القسري، وغيرها من القضايا الملحّة التي تطال الشعب السوري. ومن أبرز جوانب هذه الجهود انخراط الشباب بشكل فعّال، كما يتجلّى في تجربة أشخاص مثل مهند، الذي يلتزم بتشجيع الشباب السوري على المشاركة في الحياة السياسية، ويؤكد على أهمية المزج بين المقاربات المبتكرة والأساليب التقليدية لتحقيق تغيير فعّال:

«العام المقبل لدينا انتخابات ألمانية، وفي الشهر القادم انتخابات البرلمان الأوروبي. نحن اليوم نتحدّث عن عدد كبير من السوريين والسوريات الذين أصبحوا مواطنين ومواطنات من ألمانيا. لهؤلاء الحق في التصويت، والمشاركة السياسية، والتأثير في المستقبل السياسي لكلٍّ من ألمانيا والاتحاد الأوروبي».

رغم التقدّم الواعد، يواجه الجيل الجديد تحدّيات كبيرة، أبرزها الصراع من أجل تأمين التمويل اللازم للمبادرات. ففي حين تمكّنت بعض مجموعات الشتات الأقدم من الاستمرار في عملها بفضل شبكات مستقرة، أو بدعم المجتمع، أو بفضل مساهمات من مؤسّسين ومؤسّسات بارزين، أو، في بعض الحالات، من خلال دعم مالي محلّي من حكومات الولايات الألمانية، فإن المبادرات الأحدث غالباً ما تجد صعوبة في الوصول إلى مصادر تمويل مماثلة.

ورغم الاعتراف المتزايد بمساهمات الجيل الجديد تجاه سوريا وألمانيا على حد سواء، ما يزال الوصول إلى التمويل يشكّل تحدّياً مستمراً. فقد أدّى غياب الموارد المالية بالفعل إلى إغلاق عدد من المبادرات، الأمر الذي هدَّد استمرارية الجهود القائمة. أما أولئك الذين بنوا مسيرتهم المهنية في ألمانيا من خلال العمل المؤسّسي – وكثير منهم-ن انتقل إلى هذا المسار بعد الانتفاضة أو بعد مغادرة سوريا – فقد واجهوا صعوبة كبيرة في العثور على مصادر دخل بديلة. هناك من يوازن بين الالتزامات المهنية ودعم عائلاتهم-ن، في ظل ضغوط متزايدة لتأمين الموارد المالية اللازمة. قد يُشكِّل السعي وراء مصادر التمويل عبئاً هائلاً، تزداد وطأته بفعل متطلبات الحياة اليومية، والحاجة الملحّة لضمان استدامة منظماتهم-ن.

5. الطبقة، الحركة الاجتماعية، وإمكانية الوصول إلى المجتمع المدني
يعكس الشتات السوري في ألمانيا انقسامات اجتماعية واقتصادية عميقة، تلعب الطبقة فيها دوراً حاسماً في تحديد قدرة الأفراد على الوصول إلى الفرص في مجتمع الشتات، كما تؤثر على إمكانية المشاركة في أدوار القيادة وشبكات المناصرة ومسارات الاندماج. غالباً ما تؤدّي الحواجز البنيوية، مثل محدودية الوصول إلى اللغة والتعليم والتدريب المهني، إلى الحدّ من انخراط السوريين-ات من الطبقات الدنيا بشكل كامل في مبادرات الشتات.

أوضح عدد من المشاركين والمشاركات في هذا البحث أن المبادرات الشتاتية يقودها في الغالب أفراد من الطبقتَين الوسطى والعليا، ممن يوظّفون المؤهلات التعليمية، والخبرات المهنية، والكفاءات اللغوية في تأسيس المنظمات وقيادتها. عادة ما تنجح هذه الفئة في تأمين التمويل، وتبنّي شراكات مع المؤسسات الألمانية، والإسهام، بالتالي، في رسم صورة الشتات السوري في المجال العام. ويُتيح وصولها إلى الموارد المؤسسية قيادة المبادرات الأساسية، بما يعزّز دورها القيادي ضمن مجتمع الشتات المدني.

وبعيداً عن الوصول إلى التمويل والشبكات، كثيراً ما يكون السوريون-ات من الطبقتين الوسطى والعليا أكثر قدرة على التعامل مع الأنظمة البيروقراطية، وتقديم طلبات التمويل، وتنسيق جهود المناصرة العابرة للحدود. إن جاهزيتهم-ن للتعامل مع الإجراءات المؤسسية والإدارية والأطر السياسية تمكّنهم-ن من الربط بين جهود الشتات والجهات الفاعلة الحكومية وغير الحكومية، ما يعزّز تأثيرهم-ن داخل الفضاءَين الألماني والدولي على حد سواء. كما تسهم قدرتهم-ن على الانخراط في العمل المناصِر العابر للحدود، وفي التعاونات الدولية، في تعزيز دورهم-ن في تشكيل الخطاب حول القضايا السورية، سواء داخل ألمانيا أو على المستوى العالمي.

قال سامي، أحد المشاركين الذين موّلوا مبادرة إغاثية:

«كنا محظوظين بتعلّم الإنجليزية الجيدة في سوريا، وعلينا أن نفعل شيئاً حيال ذلك».

تعكس ملاحظته كيف تُعدّ المهارات اللغوية والتعليم السابق بوابات إلى أدوار القيادة. فالأشخاص الذين يمتلكون هذه الامتيازات قادرون-ات على تأسيس المنظمات، وتأمين التمويل، وإبرام الشراكات مع المؤسسات، وهي فرص تبقى في الغالب بعيدة المنال عن السوريين-ات من الطبقات الدنيا.

ومن خلال توظيف امتيازاتهم-ن في تمكين الآخرين، يضطلع السوريون-ات من الطبقة الوسطى بدور حاسم في توسيع فرص مجتمعات المهاجرين والمهاجرات. كما يقول سامي:

«نحن نؤمن بالمساواة بين المهاجرين والمهاجرات في ألمانيا، ونؤمن بأنهم-ن لا يتلّقون حق التقدير، ولا تُستثمر طاقاتهم-ن كما ينبغي. لذلك نحرص جداً على جلب هذه المساواة إلى المجتمع، ولذلك أسّسنا هذه الشركة».

يشمل الوصول المميّز إلى الموارد القدرة على إقامة الشراكات مع مؤسسات راسخة، والانخراط في جهود مناصرة عابرة للحدود – وهي فرص تبقى في الغالب بعيدة المنال عن السوريين-ات من الطبقات الدنيا، ممن يواجهون، على النقيض، حواجز هائلة تحول دون المشاركة الفاعلة في المجتمع المدني، لا سيما في مواقع اتخاذ القرار. تؤدي هشاشة الوضع الاقتصادي، وضعف الكفاءة اللغوية، وغياب الشبكات المهنية إلى حصر مساهمات السوريين-ات في أدوار منخفضة المستوى، مثل التطوّع أو الدعم اللوجستي. ورغم أن هذه المساهمات أساسية، فإنها نادراً ما تفتح الطريق نحو أدوار قيادية أو قدرة على الحركة الاجتماعية والاقتصادية. يبقى الكثير من السوريين-ات من ذوي الدخل المحدود مشغولين-ات أيضاً بقضايا بقاءٍ آنية، تُعيق قدرتهم-ن على الانخراط في جهود بناء المجتمعات طويلة الأمد.

يتيح الانخراط في مبادرات الشتات للسوريين والسوريات من الطبقات الدنيا فرصاً قيّمة لاكتساب المهارات، وبناء الشبكات، والاندماج المجتمعي. ويشكّل العمل التطوعي، على وجه الخصوص، مساحة تدريبية عملية وجسراً اجتماعياً، يُمكّن المشاركين والمشاركات من تطوير مهاراتهم-ن اللغوية، واكتساب خبرات مهنية، والتعرّف على الثقافة المحيطة.

يوضح سامي كيف يمكن للانضمام إلى مبادرة أن يمثِّل طريقاً نحو الاندماج، وإن بقيت فرص القيادة محدودة أمام المشاركين والمشاركات من الطبقات الدنيا:

«الناس يريدون الاندماج في المجتمع، وعندما يقدّمون المساعدة، يحصلون على بطاقة دخول مجانية إلى المجتمع، بطاقة تقول: ’أنا شخص مساعد‘. وسيرحِّب بهم الجميع، وهذه وسيلة ممتازة للاندماج – الاندماج من خلال العمل التطوعي. لقد رأينا نتائج ذلك لدى أشخاص يعيشون في ألمانيا منذ أربع أو خمس سنوات، ولم يكونوا يتحدثون كلمة بالألمانية. لكن بعد انخراطهم-ن في هذه الأنشطة وتفاعلهم-ن مع الألمان، باتوا يتحدثون اللغة».

يُبرز هذا كيف يمكن للانخراط الفاعل في المشاريع المجتمعية أن يقدِّم مسارات للحركة الاجتماعية، لا سيما لِمَن لَم يحصلوا على تعليم رسمي أو خبرات مهنية. فمن خلال المشاركة في مبادرات منظّمة، لا يساهم السوريون والسوريات من الطبقات الدنيا في مجتمعاتهم-ن فحسب، بل يكتسبون مهارات عملية تعزّز فرص التوظيف والاندماج في المجتمع الألماني.

ومع أن العمل التطوعي يعزّز تعلّم اللغة والاندماج الاجتماعي، إلا أنه لا يؤول دائماً إلى فرص قيادية طويلة الأمد أو تطوّر مهني فعلي للسوريين-ات من ذوي الدخل المحدود. لذا، من أجل جعل مبادرات الشتات أكثر عدلاً وتحويلاً، ينبغي الربط بين العمل التطوعي والتدريب المهني، وبرامج الإرشاد، وتطوير القيادة، بما يضمن مشاركة السوريين-ات – على اختلاف طبقاتهم-ن – بشكل كامل ومثمر في منظمات الشتات وفي المجتمع على نطاق أوسع.

بالنسبة لكثير من السوريين-ات في الشتات، فإن المشاركة في المبادرات والمساهمة في جهود بناء المجتمع ليست مسألةَ نِيّة أو استعداد فقط، بل يُقيّدها إلى حد بعيد الصراع المستمر من أجل البقاء. إذ لا يزال العديد من اللاجئين واللاجئات عالقين-ات في حالة من «الحياة العارية»، حيث ينصبّ تركيزهم-ن على تأمين الاحتياجات الأساسية مثل السكن، والوضع القانوني، والعمل، والاستقرار المالي. هذه الحالة، الناتجة عن ظروف قانونية واقتصادية هشّة، كثيراً ما تحول دون الانخراط طويل الأمد في أدوار قيادية أو جهود مناصرة أو مبادرات إبداعية، إذ تتقدّم ضرورات البقاء على أولويات التخطيط البعيد المدى.

في مقابلته معنا، أكّد جاد على دوره في بناء شبكات تواصل ثقافي:

«أردنا أن نبني جسوراً بين المهاجرين والمهاجرات والفُرص المتاحة، لأننا نعرف تماماً كيف يكون الشعور حين يُقصى المرء».

كريم، أحد المشاركين الذين موّلوا مبادرة ثقافية في برلين، قال:

«مضت علينا بضع سنوات في ألمانيا، صح؟ كثير منّا ما يزال يصارع من أجل الوجود على المستوى الفردي البحت. ليس هناك وقت كافٍ لنخلق شيئاً يمكن أن يكون متنوّعاً أو يغطّي مجالات كثيرة. ليست هناك مساحة نفكّر فيها بهذه الأشياء – لأننا، على ما أظن، لَم نتجاوز لحظة أو صدمة الصراع حتى نبدأ بالتفكير بما بعده، وبما يمكننا فعله، وكيف نحقق الشمول اللازم. نحن إلى حد ما منساقون وراء الواقع – وأحياناً، هذا الواقع لا يمنحنا حتى فرصة لنفكّر».

لا يمكن لأفراد الشتات أن ينتقلوا بسهولة إلى أدوار قيادية أو إلى العمل المجتمعي طويل الأمد إذا كانوا ما يزالون يتنقلون وسط تحديات وجودية. فرغم أن العمل التطوعي والانخراط المجتمعي يوفّران فرصاً للاندماج، فإنه لا يؤول دائماً إلى مسارات مهنية مستقرّة أو مواقع قيادية، أو يُسفر عن حراك اجتماعي. ما يزال كثير من السوريين والسوريات مرتبطين-ات نفسياً وعاطفياً بصدمات النزوح والصراع، ما يمنعهم-ن من التركيز على ما بعد الصراع، أو على الانخراط المجتمعي طويل الأمد، أو تأسيس مبادرات متنوعة وشاملة.

حتى عندما تظهر مبادرات جديدة، فإنها غالباً ما تبقى متشظّية وانفعالية، تركّز على الاحتياجات العاجلة مثل تعلّم اللغة، أو دعم اللاجئين-ات، أو تعليم الأطفال، بدلاً من العمل على تحقيق تغيُّر اجتماعي أوسع وأكثر جذرية.

تحول هذه الحواجز دون أن تترجم مساهمات الأفراد إلى أدوار قيادية أو إلى حراك بعيد المدى. فحالة «الحياة العارية» 38في سياق اللجوء غالباً ما تحُول دون المشاركة الكاملة، إذ عندما تهيمن معركة الحياة اليومية من أجل الطعام والمأوى والأمان والاستقرار، تضيق فسحة مراجعة الذات أو التأمل في الأهداف والطموحات والهوية الاجتماعية على المدى البعيد. وفي مثل هذه الظروف، يصبح التفكير المستقبلي – كالتخطيط للنمو الشخصي، أو التطوّر المهني، أو المشاركة الاجتماعية المجدية – أمراً شديد الصعوبة. ونتيجة لذلك، غالباً ما تؤجَّل أو تُكبَت الأهداف التي تتجاوز حدود البقاء، مثل الطموحات التعليمية أو المهنية أو العاطفية.

تنعكس الفروقات الطبقية أيضاً على أنماط التنقّل والانخراط العابر للحدود. فالسوريون-ات من الطبقات العليا يستفيدون من الاستقرار الاقتصادي، ما يسهّل عليهم-ن السفر، والمناصرة الدولية، والمشاركة في الشبكات العابرة للحدود؛ لذلك فإنهم-ن أكثر قدرة على الانخراط في مشاريع تدعم جهود إعادة الإعمار في سوريا، أو المساهمة في حملات المناصرة العالمية. أما السوريون-ات من الطبقة الوسطى فأكثر حضوراً في مواقع اتخاذ القرار ضمن مبادرات الشتات. في المقابل، يبقى الكثيرون من أبناء وبنات الطبقات الدنيا، أغلب الأحيان، بمعزل عن هذه الفرص، ما يحدّ من قدرتهم-ن على التأثير في سرديات الشتات الأوسع.

يؤكّد هذا البحث أيضاً أن المشاركة في المجتمع المدني مشروطة جندرياً. فرغم انخراط بعض النساء السوريات في النقاش السياسي، تبقى مشاركتهن محدودة بسبب التراتبية الهرمية الجندرية، وعدم اهتمامهن بالقضايا السياسية39. لطالما اعتبرت النساء السياسة ميداناً يهيمن عليه الذكور، ويصعب الدخول إليه لمن هنّ خارج النخب السياسية – لكن النزوح قلب هذه الأنماط الجندرية التقليدية، وفتح أمام النساء أبواباً جديدة للانخراط في أدوار اجتماعية وسياسية؛ وقد عبَّرت بعضهن عن طموحات متزايدة بالمشاركة في المجال السياسي.

6. استخدام منصات التواصل الاجتماعي
كما هو الحال مع سائر حركات الربيع العربي الأخرى، كان لمنصات التواصل الاجتماعي أثرٌ بالغ في تشكيل الثورة السورية، بل إن الصراع الذي تلاها غالباً ما يُوصف بأنه الأكثر توسُّطاً عبر هذه المنصات في التاريخ40. استخدم الناشطون والناشطات هذه المنصات لحشد الدعم، ومقاومة قمع النظام السوري، والتنقُّل في ساحة المعركة الرقمية المتغيّرة. ومع مرور الوقت، أدركوا أن السيطرة على السردية وسط فوضى الحرب قد تمثل مكسباً استراتيجياً بالغة الأهمية. ومع انضمام العديد من الناشطين-ات والمعارضين-ات إلى الشتات السوري، ازداد اعتمادهم-ن على منصات التواصل الاجتماعي كأداة أساسية، لا فقط للحفاظ على استمرارية نضالهم-ن والتواصل مع المجتمعات السورية المشرّدة حول العالم، بل أيضاً كوسيلة إنقاذ للأفراد داخل سوريا، حيث يخضع الإعلام التقليدي لرقابة صارمة وسيطرة تامة من قبل النظام. ومن خلال هذه المنصات الرقمية، دافع الناشطون والناشطات عن حقوقهم-ن، ورفعوا أصواتهم-ن، وساهموا معاً في تشكيل الخطاب المتعلّق بمستقبل سوريا.

اعتمد الشتات السوري، خصوصاً في ألمانيا، بشكل كبير على منصات التواصل الاجتماعي للحفاظ على الروابط مع الأهل والأصدقاء داخل سوريا وخارجها. وباتت منصات مثل فيسبوك وواتسآب وإنستغرام ضرورية في بناء مجتمعات رقمية تمنح شعوراً بالانتماء والتضامن. وإلى جانب الروابط الشخصية، برزت منصات التواصل الاجتماعي كأدوات مؤثرة في المناصرة والانخراط السياسي. واستخدم أفراد الشتات السوري هذه المنصات لرفع الوعي حول الصراع، وتوثيق انتهاكات حقوق الإنسان، وحشد الدعم الدولي. وما يزال هذا النشاط الرقمي يؤدّي دوراً حاسماً في تشكيل التصورات العالمية حول الأزمة السورية، حتى مع تطور الأوضاع على الأرض.

كما شكَّلت منصّات التواصل الاجتماعي مصدراً رئيسياً للمعلومات الفورية بالنسبة للشتات، لا سيما لمن لا يزال لديهم-ن أقارب وأحبّة في سوريا. وقد استُخدمت منصّات مثل فيسبوك وإنستغرام لنقل المستجدات حول تطوّرات الصراع، والاحتياجات الإنسانية، والأنشطة المحلية. كذلك يسَّرت إطلاق مبادرات إنسانية يقودها أفراد من الشتات السوري، بحيث جمعت حملات التمويل الجماعي آلاف الدولارات لدعم المساعدات الطبية، والتعليم، وجهود الإغاثة داخل سوريا، ما يدلّ على قدرة الشتات على توظيف الأدوات الرقمية لإحداث أثر ملموس، حتى عن بُعد.

علاوة على ذلك، أصبحت منصّات التواصل الاجتماعي مساحة يحتفي فيها الشتات السوري بتراثه الثقافي ويسعى إلى الحفاظ عليه. فقد استُخدمت هذه المنصّات لمشاركة الموسيقى التقليدية، والوصفات، والقصص، ما عزّز الشعور بالاستمرارية والفخر بالهوية السورية. يكتسب ذلك أهمية خاصة لدى الأجيال الشابة التي لم تُعايش سوريا بشكل مباشر إلا في الآونة الأخيرة. ومن خلال التفاعل مع هذه الفضاءات الرقمية، لا يحافظ الشتات على صلته بجذوره فحسب، بل يضمن أيضاً استمرار ازدهار الثقافة السورية في مواجهة التهجير والتشظّي.

كلّ ذلك جرى بينما كان الشتات السوري في ألمانيا يواجه تحديات الاندماج في بلد جديد. وقد ساعدت منصّات التواصل الاجتماعي ليس فقط في الحفاظ على صلة أبناء وبنات الشتات بوطنهم-ن، بل وفّرت لهم-ن أيضاً مساحة لبناء شبكات جديدة، والدفاع عن مجتمعهم-ن، والحفاظ على هويتهم-ن في أرض غريبة.

في سياق الشتات السوري في ألمانيا، كثيراً ما عكست منصّات التواصل الاجتماعي ديناميكيات النشاط الميداني. تُظهر نتائج بحثنا أن العديد من هذه المنصات إما قد اختفى، أو أصبح غير نشط، أو توقّف عن العمل بعد تواريخ معيّنة. وقد كشفت المعطيات أن غالبية المبادرات التي توقّفت عن العمل أُسِّست بعد 2011، وأن عدداً كبيراً منها أنهى أنشطته بين عامي 2014 و2023. واللافت أن نحو نصف هذه المبادرات توقّف عن العمل في عام 2023 وحده، ما يسلّط الضوء ليس فقط على التحديات المالية التي تواجهها، بل أيضاً على حالة الإرهاق التي أصابت بعض أفراد الشتات. وبينما يواصلون التعامل مع تعقيدات الاندماج، وعملية إعادة بناء حياتهم-ن، تراجعت قدرتهم-ن أحياناً على مواصلة النشاط العام.

المنصّات الأكثر استخداماً

تستخدم مبادرات ومنظمات الشتات مجموعة متنوّعة من منصّات التواصل الاجتماعي، بما يشمل فيسبوك، إنستغرام، إكس (تويتر سابقاً)، يوتيوب، لينكدإن، تيك توك، تيليغرام، واتساب، وساوندكلاود. تتيح هذه المنصّات الوصول إلى شرائح عمرية وأنماط استخدام مختلفة. وبينما تؤدّي أدواراً متباينة من حيث الرسائل المُرسلة، واللغات المُستخدمة، والاستراتيجيات المُتّبعة، يبقى فيسبوك المنصّة الأكثر استخداماً من بينها. فقد شكّل في كثير من الأحيان المنصّة الأساسية للعديد من المجموعات، إما بوصفه وسيلتها الوحيدة أو بالاشتراك مع غيره من المنصّات. وتستخدم تقريباً جميع المجموعات ذات الحضور الرقمي منصّة فيسبوك، ما لم تكن تفتقر إلى حضور إلكتروني بالكامل. وفي بعض الحالات، قد يعكس عدم تمكُّننا من رصد نشاط بعض المجموعات غياب الموقع الإلكتروني أو المنصّات النشطة، وإن كان من المحتمل أيضاً أن يكون بحثنا قد عجز عن تتبّع حضورها نتيجة محدودية البيانات المتاحة أو لعوامل أخرى.

(رسم بياني: استخدام منصات التواصل الاجتماعي بين مبادرات الشتات)
يمكن عزو انتشار فيسبوك على نطاق واسع إلى سهولة الوصول إليه، إضافة إلى تكلفته المنخفضة، ومرونته في التكيّف مع صيغ واستراتيجيات مختلفة، وقدرته الفريدة على تعزيز التفاعل المجتمعي وبناء رأس مال اجتماعي41. كما أن خصائص فيسبوك الخاصة بنشر المعلومات، وتنظيم الفعاليات، وتيسير التواصل المباشر والفوري، جعلته أداة أساسية لمبادرات الشتات.

كما يُعزى الاستخدام الواسع لفيسبوك بين السوريين والسوريات إلى دوره المحوري خلال الانتفاضة السورية، حيث شكَّل المنصّة الرئيسية للتواصل، والحشد، وتبادل المعلومات42. وما تزال هذه الألفة مستمرّة حتى اليوم، ما جعل فيسبوك أداة مركزية لدى منظمات الشتات السوري من أجل الحفاظ على الروابط العابرة للحدود، والمناداة بالقضايا السياسية، وصون الهوية الثقافية43. كذلك تُعزّز إمكاناته في بناء شبكات اجتماعية قائمة على التقارب والتواصل العابر للفئات44، إلى جانب قابليته للتكيّف مع سياقات لغوية وثقافية متعدّدة، مكانته بوصفه المنصّة الأكثر استخداماً بين منظمات الشتات.

من الجدير بالذكر أن بعض المبادرات والمنظمات الرقمية تعتمد بشكل أساسي على فيسبوك كمنصّة وحيدة لها، متخلّية في كثير من الأحيان عن إنشاء موقع إلكتروني خاص بها. يبرز هذا الاتجاه بشكل خاص لدى المجموعات التي تعمل كمجتمعات افتراضية وتركّز بشكل رئيسي على أنشطة رقمية، مثل مجموعة «قلبي قلبك». ينطبق الأمر نفسه على بعض المبادرات المسجَّلة رسمياً كجمعيات، بما في ذلك صفحات الأندية الثقافية والجاليات.

كما تُستخدم منصّات إنستغرام ويوتيوب وإكس (تويتر سابقاً) على نطاق واسع، وغالباً بالتوازي مع فيسبوك، لكن استخدامها عادةً ما يستهدف جماهير مختلفة، ويهدف إلى توسيع نطاق وصول المبادرات محلياً وعالمياً. فعلى سبيل المثال، تُفضِّل العديد من مجموعات الشتات السوري، ولا سيما الأجيال الشابة، منصّة إنستغرام، لما تتيحه من محتوى بصري ديناميكي يشمل الصور، والمقاطع القصيرة، والريلز، والقصص، ما يجعلها جذابة على وجه الخصوص لجمهور أصغر عمراً وأكثر اهتماماً بالصور. كما يُلاحظ الاعتماد على الصور والملصقات للترويج للفعاليات أو تسليط الضوء على أحداث أو قضايا معينة.

أما يوتيوب، فيُستخدم بشكل رئيسي للمحتوى المرئي الطويل، الذي يتراوح من مقاطع قصيرة إلى فيديوهات قد تصل مدّتها إلى ساعة ونصف. وعلى الرغم من أن كثيراً من المبادرات ما تزال تركّز على الفيديوهات القصيرة، إلا أن يوتيوب يُعتبر ذا قيمة خاصة للمحتوى المتعمّق. فعلى سبيل المثال، تستخدم إحدى المبادرات التعليمية التي تعمل عبر الحدود بين ألمانيا وسوريا يوتيوب لتقديم محاضرات مطوّلة حول تنمية المهارات الأكاديمية، بالإضافة إلى نشر تسجيلات الاجتماعات والفعاليات. بينما تنشر مبادرة أخرى، تُركّز على حقوق الملكية، مقاطع فيديو لشرح قضايا قانونية تتعلّق بملكية العقارات والانتهاكات المرتبطة بها في السياق السوري.

تشارك العديد من المبادرات محتواها عبر منصّات متعددة. فعلى سبيل المثال، غالباً ما يُعاد نشر المنشورات التي نُشرت في الأصل على إنستغرام ويوتيوب على فيسبوك، لا سيّما عندما تدير المنظمات حسابات متعددة على منصّات التواصل الاجتماعي. ويُعد من غير الشائع أن تقدّم الصفحات على كل منصّة محتوى مختلفاً كلياً. لا تُوسّع هذه الاستراتيجية من نطاق وصول الرسائل فحسب، بل تُعزّزها وتُكرّسها عبر قنوات متعددة لضمان أعلى قدر من الظهور. وفي سياق الشتات السوري في ألمانيا، تُسهم هذه الاستراتيجية في تقوية أثر الرسائل، وتعزيز مستويات التفاعل، وتشجيع المشاركة من جمهور محلي وعالمي على حد سواء. ومن خلال الاستفادة من منصّات متنوعة، تتمكّن هذه المبادرات من توسيع حضورها، وبناء شعور أقوى بالمجتمع، وتيسير دعم أوسع لقضاياها.

أخيراً، تُستخدم منصّة إكس (تويتر سابقاً) بشكل أساسي من قبل المنظمات الكبرى، إذ تَدمجه قرابة ثلثَي هذه المنظمات ضمن استراتيجياتها الرقمية. تكمن جاذبية إكس في قدرتها على استهداف المهنيين-ات، والصحفيين-ات، والناشطين-ات، والباحثين-ات عن التحديثات السريعة. وتُعدّ صيغة النشر المعتمدة على النصوص، مع حد أقصى يبلغ 280 حرفاً ودعم للوسائط المتعددة وسلاسل التغريدات، مثاليةً لمشاركة الأخبار والتحديثات والآراء بشكل مختصر. ويعكس معدل الاستخدام المرتفع بين المنظمات الكبرى مستوى أعلى من الاحترافية، وتوافر الموارد، والقدرة على التفاعل الفعّال مع جمهور دولي ومهني. مع ذلك، تجدر الإشارة إلى أن وتيرة النشر على منصة إكس لدى بعض المنظمات أبطأ بكثير مقارنة بنشاطها على فيسبوك وإنستغرام.

في بحثنا هذا، اخترنا التركيز على منصّة فيسبوك نظراً لانتشارها الواسع بين مبادرات الشتات. وقد استكشفنا تنوّع اللغات المستخدمة عبر مختلف المنصات. لقد استخدمت المبادرات والمنظمات التي شملها البحث لغات عدّة أبرزها العربية والإنجليزية والألمانية والكردية. وكانت العربية اللغة الأكثر استخداماً، إذ اعتمدتها 116 منظمة، من بينها 35 منظمة استخدمتها بشكل حصري، فيما جمعت بقية المنظمات بينها وبين لغات أخرى كالإنجليزية والألمانية والكردية وحتى الفارسية في حالة واحدة. يعكس ذلك على الأرجح عمق الروابط الثقافية واللغوية مع المجتمع السوري الأوسع، حيث ما تزال العربية اللغة الأساسية. كما يُمكّن هذا الاستخدام المنظمات من الوصول إلى جمهور أوسع في الشتات، بدءاً من الوافدين-ات الجدد إلى ألمانيا، ومروراً بالسوريين-ات داخل البلاد، ووصولًا إلى مجتمعات عربية أخرى. فعلى سبيل المثال، غالباً ما تتخطّى المبادرات ذات الطابع الإسلامي الجمهورَ السوري لتشمل مجتمعات عربية ومسلمة أخرى، وتدعوها للمشاركة في فعاليات متنوعة مثل موائد رمضان.

أما الألمانية، فكانت ثاني أكثر اللغات استخداماً، حيث اعتمدتها 81 منظمة في تواصلها. وبينما استخدمت بعض المنظمات الألمانية فقط، فإن الغالبية دمجتها مع العربية أو الإنجليزية أو الكردية. ويُعَدّ ذلك منطقياً بالنظر إلى أهمية اللغة الألمانية في التواصل مع السكان المحليين، كما يعكس رغبة العديد من المبادرات في الاندماج في المجتمع الألماني الأوسع – خصوصاً تلك التي تضم متحدّثين-ات بالألمانية ضمن هيئاتها الإدارية.

استُخدمت اللغة الإنجليزية من قِبل 34 مبادرة، لكن أربعاً فقط اعتمدتها حصرياً. يمكن عزو الاستخدام الواسع للإنجليزية، غالباً إلى جانب لغات أخرى، إلى دورها في الوصول إلى جمهور دولي يشمل الجهات الداعمة والشريكة والمجتمع العالمي بشكل عام. وتُفضّل المنظمات الكبرى على وجه الخصوص استخدام اللغة الإنجليزية، نظراً لسعيها إلى الحصول على تمويل دولي، والترويج لأعمالها على نطاق عالمي، ورفع الوعي بقضايا مرتبطة بالأزمة السورية، مثل توثيق انتهاكات حقوق الإنسان.

علاوة على ذلك، فإن المبادرات التي يقودها أعضاء من المكوّن الكردي ضمن الشتات السوري استخدمت في الغالب اللغة الكردية، وغالباً ما قرنَتها بالعربية، وأحياناً بالإنجليزية أو الألمانية. ويبدو أن هذا التعدد اللغوي مقصود، إذ تُستخدم العربية لضمان الوصول إلى شريحة واسعة من مجتمعات الشتات، إلى جانب تعزيز التفاعل بين المجموعات الإثنية المختلفة ضمن السياق السوري الأوسع.

7. خاتمة
برز الشتات السوري في ألمانيا كقوة حرجة في الاستجابة للأزمة المستمرة الناجمة عن الصراع السوري. وعلى مدار العقد الماضي، غيّر تدفّق اللاجئين-ات والمهاجرين-ات السوريين النسيج الاجتماعي والسياسي للشتات، مما أسفر عن نشوء مجتمع مدني ديناميكي ومنخرط. ومن خلال المبادرات المتنوعة، أدّت المنظمات السورية في ألمانيا دوراً محورياً في تقديم المساعدات الإنسانية، والدعوة إلى التغيير السياسي، ودعم الاندماج، وتعزيز الروابط العابرة للحدود. وقد تجاوزت هذه الجهود الإغاثة الفورية، لتُسهم في مبادرات تنموية طويلة الأمد في كلّ من سوريا وألمانيا. وعلى الرغم من التحديات الكثيرة، فقد كانت مرونة الشتات وقدرته على التكيّف عنصرين حاسمين في استمرارية هذه المساهمات.

النتائج والمساهمات الأساسية

كشف هذا البحث عن رؤى مهمّة تتعلّق بالمبادرات التي يقودها الشتات السوري في ألمانيا، مع التركيز على الفجوات الجيلية، والتفاوت الطبقي، والانخراط الرقمي، والديناميكيات الجندرية. فقد شكّلت انتفاضة 2011 لحظة فاصلة، دفعت إلى مشاركة سياسية أوسع وأعادت تشكيل النشاط الشتاتي. وقد جلب القادمون والقادمات الجدد، الذين شاركوا مباشرة في الانتفاضة، رؤى جديدة، إلا أنهم-ن غالباً ما اصطدموا بالشتات الأقدم والأكثر رسوخاً حول أدوار القيادة والتمثيل. لكن رغم التوتّرات، نشأت أشكال من التعاون، تمثّلت في تأسيس منظمات جامعة مثل رابطة جمعيات الإغاثة السورية الألمانية، التي تسهم في ردم الفجوة الجيلية وتيسير الاندماج في المجتمع الألماني.

حدّد البحث الطبقة الاجتماعية كعامل مؤثّر في المشاركة في المجتمع المدني. إذ يهيمن السوريون-ات من الطبقتَين الوسطى والعليا، ممن يمتلكون مزايا تعليمية ومهنية، على أدوار القيادة، في حين يواجه القادمون-ات من الطبقات الدنيا حواجز تحدّ من مشاركتهم-ن وتقلّل من تأثيرهم-ن داخل منظمات الشتات.

برزت وسائل التواصل الاجتماعي، ولا سيّما فيسبوك، كأدوات محورية في المناصرة والوصول إلى جماهير واسع، إذ تمكّنت المنظمات من خلالها من المحافظة على الروابط العابرة للحدود. مع ذلك، فقد أدّى الإرهاق الرقمي والضغوط المالية إلى تراجع النشاط الرقمي لبعض المبادرات.

أبرز البحث أيضاً تطوّر دور النساء في مبادرات الشتات، إذ سُجّل انخراط متزايد في أدوار القيادة والمناصرة، رغم استمرار العوائق الجندرية. كما تُشير النقاشات حول شمول أفراد مجتمع الميم، وإن كانت محدودة حتى الآن، إلى تحول تدريجي باتجاه المزيد من الشمول ضمن الشتات.

بوجه عام، يقدّم البحث منظوراً شاملاً حول ديناميكيات المجتمع المدني الذي يقوده الشتات السوري، ويسلِّط الضوء على التداخل بين العوامل الجيلية والطبقية والجندرية، ويحدِّد في الوقت نفسه إمكانيات صنع مبادرات أكثر شمولاً وتعاونية.

التحديات والعوائق

رغم هذه الإنجازات، تواجه مبادرات الشتات السوري في ألمانيا تحديات كبيرة تهدّد استدامتها وأثرها. ما تزال القيود المالية تمثّل إحدى أبرز المشكلات، إذ تكافح العديد من المنظمات لتأمين تمويل طويل الأمد. كما أن الاعتماد على مصادر تمويل خارجية – غالباً ما تكون مشروطة سياسياً – يحدّ من استقلالها التشغيلي، ويُجبرها على مواءمة أولوياتها مع أجندات الجهات المانحة بدلًا من الاستجابة الفورية لاحتياجات مجتمعاتها.

تُشكّل الانقسامات الداخلية داخل الشتات عائقاً إضافياً أمام العمل الجماعي. فقد أدّت التوترات السياسية والجيلية والطبقية إلى تشظّي الرؤى واختلاف التصوّرات حول مستقبل سوريا ودور الشتات فيها. ويجد العديد من أفراد الجيل الأقدم، ممن وصلوا إلى ألمانيا قبل 2011، صعوبة أحياناً في الانسجام مع الطابع الناشط والمُسيَّس الذي تتّسم به موجة المنفيين-ات بعد 2011. وتؤثّر الفوارق الاجتماعية والاقتصادية بدورها على فرص الوصول إلى مواقع القيادة في المجتمع المدني، حيث يهيمن السوريون-ات من الطبقتين الوسطى والعليا على المواقع الأساسية، بينما تقلّ فرص الانخراط أمام اللاجئين-ات من ذوي الدخل المحدود.

تزيد الديناميكيات الجندرية والتقاطعية من تعقيد جهود التعبئة داخل الشتات. فرغم أن العديد من النساء السوريات والمجموعات المهمّشة وجدن مساحات جديدة للنشاط ضمن منظمات الشتات، إلا أن تحديات مثل ضعف التمثيل، والمشاركة الرمزية، والمقاومة المستمرة لمناصرة قضايا النسوية ومجتمع الميم ما تزال قائمة. يُعدّ تعزيز جهود تحقيق المساواة الجندرية وتوسيع المشاركة المتنوّعة أمراً أساسياً لضمان أن تُسمَع جميع الأصوات داخل الشتات، وأن تحظى بالتقدير والاعتراف.

انعكاسات على السياسات وآفاق الانخراط المستقبلي

تُبرز نتائج هذا التقرير الحاجة الماسّة إلى سياسات موجَّهة تدعم الاندماج طويل الأمد وتُمكِّن الشتات السوري في ألمانيا. ينبغي على حكومات الدول المضيفة والمنظمات الدولية أن تمنح الأولوية لوضع آليات تمويل مستدامة، تتيح لمنظمات الشتات العمل باستقلالية وفعالية. قد يشمل ذلك إنشاء برامج لبناء القدرات، أو تطبيق إصلاحات تُيسِّر الوصول إلى المنح، أو إشراك المبادرات التي يقودها الشتات ضمن الأطر الرسمية لصنع السياسات.

إن تعزيز التعاون بين مبادرات ومنظمات الشتات السوري من جهة، والمؤسسات الألمانية المحلّية من جهة أخرى، من شأنه أن يُحسّن من نتائج الاندماج. فإتاحة المزيد من الفرص للتبادل الثقافي، وبرامج الإرشاد، ومسارات التوظيف، ستمكّن السوريين والسوريات من الإسهام بشكل فعّال في المجتمع الألماني، مع الحفاظ في الوقت نفسه على روابطهم-ن مع وطنهم-ن الأصلي.

تُبرز الطبيعة العابرة للحدود للنشاط الشتاتي السوري أهمية دعم الشبكات الإقليمية والدولية التي تُيسِّر الحصول على المساعدات الإنسانية، وتحفِّز تبادل المعارف، وتُشرك مختلف الأطراف في جهود إعادة الإعمار خلال مرحلة ما بعد الصراع. ينبغي على الحكومات والجهات الفاعلة الدولية أن تعترف بدور مجموعات الشتات وأن تنخرط معها بصفتها أطرافاً أساسية في عملية إعادة بناء سوريا، بما يضمن عدم إعاقة جهودها بسياسات تقييدية أو حواجز بيروقراطية.

ما الذي يخبِّئه المستقبل؟

يواصل الشتات السوري في ألمانيا التكيّف مع المشهد المتغيّر، ولكنه يجد نفسه في مفترق طرق حاسم. إذ يُعيد التحوّل الجيلي تشكيل النشاط الشتاتي، ويدفع المزيد من السوريين-ات من الشباب إلى تجاوز العمل الإغاثي التقليدي نحو إحداث تحوّلات اجتماعية وسياسية طويلة الأمد. يساهم الحضور المتزايد للشباب السوري في الإعلام والمجتمع المدني والسياسة في خلق فرصة للتأثير على السياسات التي تمسّ اندماجهم-ن في ألمانيا، وكذلك على انخراطهم-ن في رسم ملامح سوريا المستقبل. فلا يقتصر نشاط نشطاء وناشطات الشتات السوري على الدفاع عن حقوق اللاجئين واللاجئات، بل يشمل أيضاً العمل على تأسيس مسارات مستدامة تمكّن السوريين-ات من الإسهام الفاعل في كل من بلد اللجوء والوطن الأصلي.

لكن التغيّرات السياسية في ألمانيا تفرض تحديات جديدة. فمع تزايد تسييس قضايا الهجرة، وتصاعد المشاعر المناهضة للمهاجرين، يتعرّض التقدّم الذي أحرزه الشتات لخطر التراجع. وقد تؤدّي التعديلات السياسية التي تطال طالبي-ات اللجوء واللاجئين-ات إلى تقليص الفرص المتاحة أمام المبادرات المجتمعية، مما يعرِّض قدرتها على الاستمرار للخطر. في الوقت نفسه، أفرزت التحوّلات الجارية في سوريا فرصاً جديدة للانخراط. فمع تزايد الحديث عن إعادة الإعمار، يسعى كثير من السوريين-ات في ألمانيا إلى إيجاد سُبل آمنة وفاعلة لإعادة وصلهم-ن مع وطنهم-ن. وبدلاً من استخدام خطاب العودة كشعار سياسي أو أداة تهديد، تملك الحكومة الألمانية فرصة لدعم هذا المسار بطريقة جوهرية تعترف بالقيمة التي يمكن أن يقدّمها الشتات السوري في جهود إعادة إعمار سوريا، وفي مستقبل ألمانيا على حد سواء.

في الختام، أظهر الشتات السوري في ألمانيا قدرة استثنائية على الصمود والمبادرة رغم الشدائد. وقد ساهم انخراطه في الإغاثة، والمناصرة، والاندماج الاجتماعي، ليس فقط في دعم اللاجئين واللاجئات السوريين، بل أيضاً في إثراء المجتمع الألماني. للبناء على هذه الإنجازات، لا بدّ من تعاون فعّال بين صانعي-ات السياسات، والجهات الدولية، وأفراد الشتات أنفسهم-ن. سيكون ضمان استقرار الموارد، وتعزيز المشاركة الشاملة، والاعتراف بالدور المزدوج للسوريين والسوريات بوصفهم-ن فاعلين-ات في بلدَي الإقامة والمنشأ، مفتاحاً لرسم مستقبل مستدام وفعّال.

الملحق
1- gUG أو gemeinnützige Unternehmergesellschaft: شركة ذات مسؤولية محدودة غير ربحية تُعنى بالأغراض الخيرية. تتطلّب حداً أدنى من رأس المال (يورو واحد فقط)، وتتمتع بمزايا ضريبية مقابل تقديمها خدمات للصالح العام.

2- ‏GmbH أو Gesellschaft mit beschränkter Haftung: شركة ذات مسؤولية محدودة تُستخدم بشكل أساسي للأغراض التجارية. تتطلّب حداً أدنى من رأس المال يبلغ 25,000 يورو، وتفصل بين الذمم المالية الشخصية وذمم الشركة.

3- Verein: جمعية تتكوّن من أفراد يجمعهم-ن هدف مشترك، وغالباً ما تكون غير ربحية. عند تسجيلها رسمياً (e.V.)، تكتسب صفة اعتبارية قانونية من دون أي متطلبات لرأس المال.

توضح الفروقات الرئيسية بين هذه الكيانات الثلاثة في الجدول التالي:

 

مقالات مشابهة

Continue Reading

Previous: في سرديات الأحلام وارد بدر السالم…المصدر :ضفة ثالثة
Next: في سعينا إلى العدالة (2/2) مقترح لإعادة التفكير الجماعي في دور الثقافة والفنون رنا يازجي…المصدر : الجمهورية .نت

قصص ذات الصلة

  • دراسات وبحوث

معضلة الطاقة في إيران :القيود والتداعيات والخيارات السياسية… عمود شكري .المدوّنة صدى.المصدر :مركز مالكوم كير– كارنيغي للشرق الأوسط.

khalil المحرر يونيو 26, 2025
  • دراسات وبحوث

كيف تستفيد تركيا من انشغال إيران بالصراع ضد إسرائيل….المصدر: العرب

khalil المحرر يونيو 16, 2025
  • دراسات وبحوث

“المطلوبون أصبحوا السلطة في سوريا”وقوانين الأسد ما تزال تحكم السوريين….المصدر: تلفزيون سوريا ـ وفاء عبيدو

khalil المحرر يونيو 6, 2025

Recent Posts

  • اكرم حسين عن هشاشة القوى الوطنية السورية..؟…المصدر : صفحة الكاتب
  • هل يُحرم الكرد “المكتومون” و”الأجانب” من مجلس الشعب السوري؟ شفان ابراهيم. المصدر : موقع درج
  • دلشاد شهاب: نيجيرفان بارزاني يعمل منذ عام 2022 على الجولة الحالية من عملية السلام في تركيا..المصدر :رووداو ديجيتال
  • هل ينجح ترمب في إنهاء حرب غزة؟ كون كوخلين……..المصدر :المجلة
  • “الوحدة 8200″… قلب الآلة العسكرية الإسرائيلية مايكل هوروفيتز……المصدر :المجلة

Recent Comments

لا توجد تعليقات للعرض.

Archives

  • يوليو 2025
  • يونيو 2025
  • مايو 2025
  • أبريل 2025
  • مارس 2025
  • فبراير 2025
  • يناير 2025
  • ديسمبر 2024
  • نوفمبر 2024
  • أكتوبر 2024
  • سبتمبر 2024
  • أغسطس 2024
  • يوليو 2024
  • يونيو 2024
  • مايو 2024
  • أبريل 2024
  • مارس 2024
  • فبراير 2024
  • يناير 2024
  • ديسمبر 2023
  • نوفمبر 2023
  • أكتوبر 2023

Categories

  • أدب وفن
  • افتتاحية
  • الأخبار
  • المجتمع المدني
  • الملف الكوردي
  • حوارات
  • دراسات وبحوث
  • مقالات رأي
  • منوعات

أحدث المقالات

  • اكرم حسين عن هشاشة القوى الوطنية السورية..؟…المصدر : صفحة الكاتب
  • هل يُحرم الكرد “المكتومون” و”الأجانب” من مجلس الشعب السوري؟ شفان ابراهيم. المصدر : موقع درج
  • دلشاد شهاب: نيجيرفان بارزاني يعمل منذ عام 2022 على الجولة الحالية من عملية السلام في تركيا..المصدر :رووداو ديجيتال
  • هل ينجح ترمب في إنهاء حرب غزة؟ كون كوخلين……..المصدر :المجلة
  • “الوحدة 8200″… قلب الآلة العسكرية الإسرائيلية مايكل هوروفيتز……المصدر :المجلة

تصنيفات

أدب وفن افتتاحية الأخبار المجتمع المدني الملف الكوردي حوارات دراسات وبحوث مقالات رأي منوعات

منشورات سابقة

  • مقالات رأي

اكرم حسين عن هشاشة القوى الوطنية السورية..؟…المصدر : صفحة الكاتب

khalil المحرر يوليو 4, 2025
  • مقالات رأي

هل يُحرم الكرد “المكتومون” و”الأجانب” من مجلس الشعب السوري؟ شفان ابراهيم. المصدر : موقع درج

khalil المحرر يوليو 4, 2025
  • الأخبار

دلشاد شهاب: نيجيرفان بارزاني يعمل منذ عام 2022 على الجولة الحالية من عملية السلام في تركيا..المصدر :رووداو ديجيتال

khalil المحرر يوليو 4, 2025
  • مقالات رأي

هل ينجح ترمب في إنهاء حرب غزة؟ كون كوخلين……..المصدر :المجلة

khalil المحرر يوليو 4, 2025

اتصل بنا

  • Facebook
  • Instagram
  • Twitter
  • Youtube
  • Pinterest
  • Linkedin
  • الأرشيف
Copyright © All rights reserved. | MoreNews by AF themes.