كل ما تحتاجه المجزرة متوفر: مدنيون آمنون في بيوتهم ليس لديهم ما يدافعون به عن أنفسهم غير اطمئنان ضمائرهم أنهم لم يشاركوا يوما في القتل ولم يهللوا له، يظنون أن العدالة التي وعدوا بها قادرة على التفريق بين المجرم والبريء. فقراء يعيشون في بيوت بائسة وقرى بعيدة يربون بعض الحيوانات ويزرعون أراضي قليلة أخصبوها بعرق جبينهم الذي لطالما انحنى من الفقر وانتظار فرج من السماء. أناس وثقوا بضيوف قادمين إليهم فتحوا لهم قلوبهم قبل الأبواب واستقبلوهم بكرم المحب. ذريعة تتمثل في مجموعة من المجرمين المرتكبين لمجازر سابقة ويخشون لحظة العقاب ولا مانع لديهم من ارتكاب مجازر جديدة حتى لو كان ذلك وبالا وجحيما على مناطقهم وعائلاتهم. وكانوا العكاز الرئيس الذي تستند إليه المجزرة: الفلول الذي يظهرون عبر بث في العالم الافتراضي ملثمين، مثلهم مثل عناصر الجيش الجديد والأمن العام، بلا ملامح معروفة أو محددة يرددون تهديدات جوفاء ولا معنى لها ويختفون، ثم يظهرون مع كل مجزرة جديدة سترتكب. جحافل من القتلة تم تحضيرهم طويلا للحظة الانتقام، مسلحين أساسا بعقائد تبيح القتل وتفاخر به، فالضحية القادمة كافر أو مرتد وثمة فتاوى تاريخية تبيح قتل الكافر والمرتد. ونفير عام يطلق في الجوامع يسحب المهتاجين من أسرّتهم نحو واجب القتل الذي ينتظرونه منذ زمن طويل اعتقادا منهم أنهم ينتقمون لما أصابهم خلال أكثر من عقد مضى. تحتاج المجزرة إلى مظلومية لتكون كاملة، والمظلومية وفرها آل الأسد بسخاء يُحسب لهم.
قصر الشعب في دمشق (Getty)
منذ مجزرة حماة في ثمانينيات القرن الماضي وما تلاها من قمع وخوف حتى تحولت سورية في وعي العالم الجمعي إلى بلاد الرعب، وصولا إلى عام 2011 حين بدأت الجريمة الأكبر في العصر الحديث. ما الذي يمنع المجزرة إذًا من أن تحدث؟ آه، مهلا… تحتاج إلى جوقة تمهد لها عبر ترديد سردية الفلول والخونة والغدارين في وسائل الاعلام والسوشال ميديا، وتجرّم طائفة بأكملها عبر تحميلها وزر جرائم منظومة الأسد، وتعتبرها جميعها فلولا؛ جوقة تحيط بالحاكم ترد عنه تهمة المشاركة.
“هكذا حدثت المجزرة لأننا في زمن اللا دولة، أو الدولة المائعة التي تشكلت عبر فرض الأمر الواقع الذي جعل من قوات الهيئة تصل إلى قصر الشعب”
فهو لا يدري بما يحدث، من سيقومون في المجزرة هم فصائل لم يستطع فرض سلطته عليهم وخرجوا عن طاعته. جوقة تردد أن لا مصلحة له فيما يحدث ولا ذنب له. مهلا أيضا: تحتاج المجزرة إلى مثقفين تغلّب وجدان القبيلة الطائفية لديهم على الوجدان الوطني. كما لو أن لا شيء تغير في الزمن سوى أدواته وعناصره وتوقيته، أما أحداثه فتستعاد بالتفاصيل. وكيف لا يحدث هذا في بلاد تتناوب المجموعات التي تعيش فيها على تبادل مظلوميات تعززها أنظمة طائفية محاطة ببطانة دينية تبارك لها كل ما تفعل وتتيح لها الأرضية الشعبية لفرض استبدادها.
هكذا حدثت المجزرة، وربما في الحقيقة هي حدثت منذ البداية، منذ رفض حكومة الأمر الواقع الطلب الشعبي بالبدء بخطوات العدالة الانتقالية، منذ حرق مقرات الأمن والسجون وإتلاف الملفات المتعلقة بالمعتقلين وبالمختفين. منذ امتنع قائد الهيئة عن استقبال أهالي المعتقلين والمفقودين، منذ منحه عفوا هلاميا يتبجح به شبيحة العهد الجديد، وكأننا في زمن القبيلة حيث يمنح الزعيم العفو لمن خالف شروط القبيلة قائلا لهم: (اذهبوا فأنتم الطلقاء) لا في زمن الدولة التي يجب أن تحكمها قوانين ناظمة تعطي لكل ذي حق حقه وتحاسب المجرمين وتفرق بينهم وبين الأبرياء حتى لو كانوا من أفراد عائلاتهم. هكذا حدثت المجزرة لأننا في زمن اللا دولة، أو الدولة المائعة التي تشكلت عبر فرض الأمر الواقع الذي جعل من قوات هيئة تحرير الشام تصل إلي قصر الشعب في دمشق بدون مقاومة تذكر منذ خروجها من إدلب، وجعل من الدولة السابقة بجيشها وأمنها ومؤسساتها بكاملها تختفي كما اختفى رئيسها، ما يؤكد أن تلك الدولة لم تكن سوى رئيسها، وأن التداخل بين الحاكم والسلطة والدولة لم يكن مجرد نظرية بل حقيقة قائمة قديمة فضحها فرار الحاكم المجرم.
حوّل النظام السوري منطقة الحجر الأسود في ريف دمشق إلى أنقاض (Getty)
هذه بلاد منذورة للمجازر، في تاريخها الحديث منذ الاستقلال عن فرنسا عام 1948 لم تعرف سورية الاستقرار سوى في عهد الأسد الأب الذي ابتدأ عهده بمجزرة ضخمة أعادت السوريين إلى هوية ما قبل الدولة، هوية طائفية ومذهبية ومناطقية وقبلية تشكلت في زمن الاحتلال العثماني (بات اليوم في أدبيات هذه المرحلة فتحا إسلاميا)، وكانت هناك فرصة لتشكيل هوية وطنية سورية بعد اتفاق سايكس بيكو الذي قسم بلاد الشام إلى مجموعة من الدول كانت سورية أكبرها وفي منتصفها تماما، لولا أن سورية ابتلت بسلسلة من الانقلابات العسكرية انتهت بعد الانفصال عن مصر بحركة الثامن من آذار التي قادتها مجموعة من الضباط المنتمين لحزب البعث، كانت الحركة تستمد سرديتها من حركة الضباط الأحرار في مصر التي قادها جمال عبد الناصر. ثم قام حافظ الأسد لاحقا بما عرف بالحركة التصحيحية فتك فيها أولا برفاقه في حركة الثامن من آذار قتلا واعتقالا، ثم بدأ بتثبيت دعائم حكمه الأبدي. ليصبح الديكتاتور الدموي الذي شكل حكما أوليغارشيا مستبدا محولا سورية إلى بلد الفساد والقمع والرعب الذي ترتفع فيه دعائم الطوائفية بكتمان كامل، ليظهر بنيانها في عام 2011 بشكل واضح في زمن الوريث الذي أراد قتل أبيه (علي طريقة فرويد) عبر التفوق عليه في الإجرام. وخلال هذا الزمن كانت المظلوميات تروى كما قصص الجدات، وتكبر وتمتد وتنتقل من جيل إلى آخر، ذلك أن التاريخ السوري القديم لم يكن رحيما، لا طبقيا ولا مناطقيا ولا طائفيا، ومثله كان التاريخ الحديث.
“كل عناصر المجازر كانت موجودة: العدو الداخلي المفترض، كتائب الشبيحة المحملة بمظلوميات قديمة، وخوف قاتل من الآخر”
حيث شكلت مجزرة حماة سردية كبرى من سرديات المظلوميات السورية ترافقت بسردية أنتجت مظلومية مقابلة نتيجة مجازر حركة الطليعة المقاتلة وهي الجناح العسكري لحركة الإخوان المسلمين. عاش السوريون مع المظلوميتين سرا حتى انفجار الربيع العربي في سورية عام 2011 بكل ما حمله معه من انقسامات وكوارث مجتمعية وإجرام وتغيرات مهولة وجذرية في بنية المجتمع السوري. تشكلت خلالها المظلومية السورية الأكبر والأعنف والتي كانت تغذى يوميا عبر الاستفزازات والسلوكات الطائفية من قبل عناصر الجيش والأمن والشبيحة، استفزازات ترافقت مع مجازر متنقلة واعتقالات يومية لمئات آلاف السوريين مات معظمهم تحت التعذيب أو أعدموا في السجون ودفنوا في مقابر جماعية ما زالت تكتشف حتى اللحظة. كل عناصر المجازر كانت موجودة وقتها، العدو الداخلي المفترض، كتائب الشبيحة المحملة بمظلوميات قديمة وخوف قاتل من الآخر، جوقات من المؤيدين للقتل والمرحبين به والشامتين بمصائب وكوارث وطنهم، إنكار كبير لما يحدث واعتباره مؤامرة والتعامل معه بوصفه هجومًا كونيًا علي سورية وبوصف الثائرين خونة، خطاب تحريضي داخلي يتبناه إعلام مسيس ومحللون وصحافيون سفلة، مثقفون تغلّب وجدان القبيلة الطائفي لديهم على الوجدان الوطني والمجتمعي، يلهثون لإيجاد مبررات للقتل، ويتحدثون عن الجيش الوطني العظيم الذي يحمي سورية وأهلها، حين كان هذا الجيش العظيم يفتك بسورية وبأهلها.
الزمن يمشي ولا يتوقف لكن أحداثه تتطابق أحيانا كثيرة، كما لو أنه يحاول استرجاع ذاته. والمجزرة الجديدة التي حدثت تبدو كما لو أنها استعارت كل تفاصيل حدوثها من مجازر ما بعد الثورة. لكن الفرق الوحيد أن شبيحة ذلك الزمن لم يطلقوا على أنفسهم دعاة حرية، ولا كانوا معنيين بالديمقراطية والعدالة، ولم يتحدثوا يوما عن المساواة والمواطنة ولا عن الدولة المدنية. بالنسبة لهم كانت شخصية (قائد الأمة) هي ما تحقق كل ذلك.
أما شبيحة اليوم فيفترض أنهم أبناء ثورة الحرية والكرامة، أبناء ثورة العدالة والدولة المدنية والمساواة، لكنهم تفوقوا بالسوء على شبيحة الماضي فهم جاهزون الآن لتخوين كل من يتعاطف مع الضحايا ووصفهم بأكثر الأوصاف سوءا، واستخدام أكثر الشتائم سوقية وتحقيرا في حقهم، أما نحن، أهل الضحايا، من تحدث المجازر في مناطقنا ومن تتم الانتهاكات الجسدية واللفظية فيها فنُتهم بالطائفية لأننا ندافع عن أهلنا ونطالب بوقف المقتلة. والعار أن بعض المثقفين أظهروا انحطاطا أخلاقيا يتفوق على انحطاط الشبيحة. هؤلاء لديهم القدرة على مواربة الكلام والمواقف عبر نسب المجزرة لما سبق، وعبر مقارنتها بما حدث سابقا، وكأن الموقف من القتل ليس موقفا أخلاقيا يؤخذ بماهيته بل هو موقف يؤخذ حسب طائفة القاتل والقتيل، وكأنهم باستدعائهم مظلومية يفترض أنها مظلومية وطنية جامعة يحتكرون الحق الذي ينبغي أن يكون ملكا للجميع مثله مثل العدالة. هل كان هؤلاء مع الحق فعلا في السابق، أم هم يلبسون الحق عباءة باطل تصلح لكل زمان؟.