هل هي مصادفة أن يبدي “حزب الله” بعض المرونة المفاجئة حيال مصير السلاح عشية اجتماع مصيري في مسقط بين الولايات المتحدة وايران؟
لا مكان للمصادفات في حسابات الممانعة، يقول مصدر ديبلوماسي قريب مما يجري بين واشنطن وطهران، ولا مكان أيضاً للتقديمات الخيرية، مؤكداً أن الايرانيين يذهبون الى العاصمة العمانية بعدما تأكدوا من أن البقاء خارج الحوار مع الرئيس الأميركي دونالد ترامب قد يجرهم عنوة الى مواجهة غير متكافئة تضع مصير الأئمة والثورة الاسلامية بين خيارين: اما الانتحار واما الاستسلام.
ويضيف: ان دوي ما يجري في اليمن يُسمع في أروقة طهران، وان ما أصاب “حزب الله” في لبنان وما يصيب “حماس” في غزة، إضافة الى ما أصاب بشار الأسد في دمشق، جرّد الايرانيين من كل خطوطهم الدفاعية وحوّلهم الى حفاري قبور في منطقة تمتد من ايران الى البحر الأبيض المتوسط، والى جبهة وحيدة وأخيرة لا تملك الا خيار الذهاب الى حرب تدفع فيها هذه المرة أرواح جنودها لا أرواح الآخرين.
وليس في هذا العرض الكثير من المبالغة في وقت تعرف طهران أن التخلي عن أذرعها هو السبيل الى نجاتها من مصير قاتم، وليس التمسك بها، مطلقة في الكواليس أجراس انذار سمعت في غزة حيث تقترب “حماس” المنهكة والمحرجة من تسوية مع الأميركيين قد تخرجها سالمة من حكم القطاع، وفي اليمن حيث أدرك الحوثيون أنهم يخوضون هذه المرة حرباً جدية لن تنتهي الا بغالب ومغلوب، وفي العراق حيث يميل “الحشد الشعبي” وحتى الفصائل الى النأي بالنفس والاتعاظ من تجارب سواهم، وفي سوريا حيث تمكن الحكم الجديد من قطع الطريق على أي انقلاب أو ثورة مضادة قد تقودها طهران لاستعادة المعبر السوري، وفي لبنان حيث تلقى “حزب الله” انذاراً مباشراً من الأميركيين يخيّره بين تسليم السلاح سريعاً أو العودة الى حرب تدميرية حاسمة.
لكن السؤال الملح يبقى، هل تبدو ايران جدية في تنازلات لبنانية تأتي وسط ضغط أميركي هائل على الحكم في بيروت، وهل يبدو “حزب الله” صادقاً أو جدياً على الأقل في تلبية دعوة الرئيس جوزاف عون الى حوار ثنائي يضع السلاح تحت الطاولة وليس فوقها؟
يكاد يجمع معظم المراقبين المحليين والأجانب على أن ايران ليست في وارد التخلي عن “حزب الله” تحديداً من دون أثمان تحفظ أمنها أولاً وموقعها الاقتصادي ثانياً، وأن “حزب الله” نفسه ليس في وارد التخلي عن سلاحه قبل الحصول على ضمانات أمنية جدية دائمة من جهة، ومواقع سياسية وادارية راجحة تبقيه في السلطة ركناً لا يمكن تجاهله أو الحد من نفوذه وصلاحياته من جهة ثانية.
ويرى هؤلاء أن الرئيس جوزاف عون لا يملك الكثير من الخيارات في أي حوار يجريه مع الممانعة، فهو لا يريد مواجهتها في الميدان حتى لو كان قادراً على ذلك، ولا يستطيع منحها الضمانات والمواقع التي يريدها حتى لو تسنى له ذلك، ما دام الأميركيون يعتبرونها سرطاناً يجب استئصاله بالقوة وما دام الاسرائيليون يطاردونها من مكان الى آخر ويتسلحون باتفاق يعطيهم حق اختراقه أكثر مما يعطيهم واجب احترامه.
لا شك في أن الفريقين يريدان ايجاد حل للمأزق المعقد، فالرئيس عون لم يعد يملك المزيد من ترف الوقت، ولم يعد قادراً على تهدئة الأميركيين وتجنب الاسرائيليين، ولا قادراً على لجم الخيبة الداخلية التي بدأت تتخذ منحى قاسياً لا بل ساخراً أحياناً، و”حزب الله” لم يعد قادراً من جهته على الاحتفاظ بسلاح لا يجد له ميداناً ولا مبرراً، ولا قادراً على تحمل الضربات الاسرائيلية التي تطاول قادته وعناصره وترساناته، ولا تحمل شعور الهزيمة الذي يحوّله الى مكسور في مكان ومكابر في آخر، ومغامر أرعن في كل مكان.
والواقع أيضاً، واستناداً الى الكثير من الوقائع والشواهد، لا تبدو الحركة في موضوع نزع السلاح الا نتيجة مباشرة للانذارات التي وضعتها الموفدة الأميركية مورغان أورتاغوس في بيروت، ونتيجة أخرى للضغوط والتهديدات التي أطلقها الرئيس ترامب في اتجاه طهران، وكل ما عدا ذلك ليس الا مناورات ولعب على الكلام، اذ كيف يمكن لرئيس الجمهورية أن يحمل اسرائيل على سحب قواتها من الجنوب في مقابل سحب السلاح من قبضة “حزب الله”، وكيف يمكن للأميركيين أن يفعلوا ذلك قبل التأكد من أن أحداً في لبنان لم يعد يشكل أي خطر على أمن اسرائيل ومصالح الولايات المتحدة في لبنان والمنطقة؟
وانطلاقاً من هذا المشهد، يصر الكثير من المراقبين على أن الرئيس عون يعيش في وهم الوصول الى تفاهم سلمي مع الحزب، سواء عبر حوار مباشر أو عبر الرئيس نبيه بري الذي يعرف في قرارته أن نزع السلاح من ترسانات الحزب سيعني القضاء على الهيبة الشيعية وسيضعها مستقبلاً اما خلف القضبان واما في المقاعد الخلفية، مرجحين أن يصل مع محاوريه الشيعة والايرانيين الى ورقة تفاهم تشبه “تفاهم بعبدا” الذي أبرمه الرئيس ميشال سليمان قبل أن يدعوه قادة الحزب الى “نقعه وشرب مائه”.
ويقول مصدر قريب من الضاحية الجنوبية، إن جل ما يريده الحزب هو ما أراده بعد “حرب تموز”، أي هدنة طويلة وثابتة وعودة تدريجية الى ما قبل الثامن من أكتوبر، وإن أوهام الرئيس اللبناني شيء ونيات ايران شيء آخر، مؤكداً أن الحزب يظن أنه قادر على خديعة عون كما خدع سليمان.
ويضيف: عبثاً يحاول عون والرئيس نواف سلام الرهان على النيات، مشيراً الى أن إحراق “لافتات السيادة والعهد الجديد” على طريق المطار، والتباينات في مواقف السياسيين الشيعة، لا تبشران بحصاد مثمر، ما دام السلاح يشكل رئة الشيعة وأمنهم ومصدر رزقهم، وما دام التخلي عنه بالتراضي يشبه سير “الأحمق” مطمئناً في حقول من الألغام أو بين قطيع من الذئاب.
ويختم: يخطئ عون إذا اعتقد أن بوس اللحى هو المدخل الى ترسانات الحزب، مؤكداً أن لا حل في الأفق اللبناني لا يكون تطبيق القرار ١٧٠١ من دون تشاطر، وأي حل اقليمي لا يكون اقفال المنشآت النووية الايرانية من دون تباطؤ، وفتح الممرات البحرية من دون كمائن، لن يكون الا ضربات في الهواء تأخذ من عون بعض الوقت الثمين وتأخذ من لبنان آخر الفرص الثمينة.