“هناك من يتصور مثل الرئيس الأميركي السابق وربما اللاحق دونالد ترمب أنه يستطيع بالكاريزما والعلاقات الشخصية حل الأزمات المعقدة”

 

في المنطقة هوس كبير بـ”الميدان” وأكبر بـ”الطاولة”. وهذه كانت لعبة الدكتور هنري كيسنجر ر الذي رحل، أخيراً، عن 100 سنة في أكثر من نصفها تلاعب بالعالم خدمة لأميركا وإسرائيل، كمستشار الأمن القومي للرئيس نيكسون ثم وزير الخارجية في إدارته وإدارة خلفه الرئيس جيرالد فورد، وبعد خروجه من السلطة وبقائه في دور مكيافيللي للحكام والشركات. وكان دائماً يفضل التفاوض حول الطاولة في ظل استخدام القوة في الميدان. هكذا فعل في التفاوض مع الوفد الفيتنامي لإنهاء حرب فيتنام، وسط القصف الأميركي لكمبوديا ولاوس وهانوي. وهكذا رعى لعبة التوازن في الأرباح والخسائر بين إسرائيل وكل من مصر وسوريا للنجاح في مفاوضات فك الارتباط على جبهتي سيناء والجولان بعد حرب أكتوبر 1973.
والأساس عنده هو “توازن القوى” الذي تعلمه من التاريخ وتجربة المستشار النمسوي مترنيخ مهندس ما سمي “الكونسرت”: سلام وتوازن في أوروبا بعد حروب نابليون، وكان محور أطروحته للدكتوراه وكتبه المتعددة. من “سنوات الاضطراب” إلى “دبلوماسية” و”نظام عالمي”. ومن “القيادة: ست دراسات في الاستراتيجية العالمية” لستة قادة، إلى مشاركة الخبيرين أريك شميت ودانيال هوتنلوتشر في كتاب “عصر الذكاء الاصطناعي ومستقبل جنسنا البشري”. فالقيادة في رأيه تتمثل بخطين: “البراغماتية البعيدة المدى، والرؤية التنبؤية الجريئة”. وما يرافق “توازن القوى” هو “توازن السلوك”، أي فرض “قيود على ممارسة القدرة والقوة في ما يتعلق بالمطلوب للتوازن العام”. فهو حذر صناع السياسية الامريكية  بالقول: “نحن على حافة حرب مع روسيا والصين في شأن قضايا أسهمنا في افتعالها من دون معرفة الكيفية التي ستنتهي إليها الأمور أو ما الذي يفترض أن تفضي إليها”. وفي كتاب عنه تحت عنوان “هنري كيسنجر: سيد اللعبة” لمارتن إنديك الذي عمل مثله ومعه في لعبة الحروب والمفاوضات في الشرق الأوسط، نقل المؤلف قوله له: “كان همي في عملية السلام في الشرق الأوسط هو العملية لا السلام. وأردت إعطاء إسرائيل الوقت الكافي لتقنع العرب بقوتها أن عليهم التكيف مع وجودها”.

 

وبهذا المعنى، فإن هوس القوى في الشرق الأوسط، وبينها قوى غير دولتية بالميدان والتفاوض، محكوم بالواقعية السياسية، لا بالمسلمات الأيديولوجية. فالرهان على الميدان في حرب غير متكافئة يقود إلى هزائم. والذهاب إلى المفاوضات حول الطاولة من دون أوراق قوة يؤدي إلى خسائر كارثية. ففي الحرب يركز كلازفيتنر على “تفاعل العقل والحظ والشغف وأهمية الهدف السياسي، وتحديد مركز الثقل لدى العدو كأفضل نقطة للهجوم”. ويقول فريدريك الكبير إن “دبلوماسية بلا قوة مثل الموسيقى بلا آلات”. وفي التفاوض يرى وزير الخارجية الأميركي جيمس بيكر الذي هندس “مؤتمر مدريد” وعملية السلام بعد حرب “عاصفة الصحراء”، الحاجة إلى وضع نفسك مكان الطرف الآخر لفهم التعامل معه، لكن هناك من يتصور مثل الرئيس الأميركي السابق وربما اللاحق دونالد ترمب أنه يستطيع بالكاريزما والعلاقات الشخصية حل الأزمات المعقدة خلال جلسة واحدة من التفاوض بين رئيسين. وهذه “فانتازيا” فاشلة في العلاقات بين الدول. وهذا ما حدث بعد “الغزل” مع كيم جونغ أون زعيم كوريا الشمالية. وهناك طبعاً في المنطقة من يراهن على المنطق السياسي في التفاوض لإقناع خصمه بالتسليم له بما يريده منه، فيخرج من المفاوضات خاسراً وخائب الأمل. ومقابل المفاوض الذي يعلن سلفاً التخلي عن ممارسة القوة يقف المقاتل الذي يؤمن بأن القوة تعطيه كل ما يريد، ولو من خصم أقوى منه، بالاعتماد على الزمن و”الصبر الاستراتيجي” وتعب الخصم. وهما يذهبان بعيون مفتوحة إلى فخ الخصم والخسائر.
و”التاريخ هو الحكم الأخير” كما قال هيغل.