حرص الراحل على حماية إرثه السياسي فقدم تبرعات لمراكز تتسمى باسمه إلا أن هناك من حذره من أن تفعل هذه المؤسسات العكس

كيسنجر مبتسماً بعد إعلانه البيان الختامي بشأن تنفيذ اتفاقات السلام الفيتنامية عام 1973 (أ.ف.ب)

رحل كيسنجر  لكن رؤاه السياسية ما زالت منقوشة في الحمض النووي للسياسة الخارجية الأميركية ومواقفها تجاه قضايا العالم من موسكو إلى بكين وحتى المنطقة العربية ، لم ينضب قلم كيسنجر حتى بعد خمسة عقود من تقاعده العمل السياسي، بل ظل عقله مشتعلاً بالأفكار والآراء حول الأوضاع الراهنة. وعلى رغم اعوجاج ظهره وصعوبة حديثه، كان كيسنجر أشبه بمؤسسة قائمة لوحدها، ولم ينقص تقدمه بالسن شيئاً من شراسته، بل واصل الإدلاء بآرائه الجدلية، وتوضيح مواقفه السياسية التي أسهمت بتشكيل تاريخ العالم.

ولذلك تزامنت مع وفاته في الأيام القليلة الماضية كتابات كثيرة حول دوره المحوري في إدارتي الرئيسين نيكسون  وجيرالد فورد، لكن القليل كتب عن حياته ما بعد العمل السياسي الرسمي ونشاطه المثير للاهتمام الذي عكس رغبته كغيره من السياسيين في أن يصدق الناس روايته للأحداث، لكن كيسنجر كان نشطاً بطريقة فريدة لتحقيق هذا الهدف، ولم يتوقف عن تأليف الكتب أو التبرع لمؤسسات الأبحاث ودعم مبادرات باسمه.

حراسة التاريخ

أبقى كيسنجر باب مكتبه مفتوحاً للباحثين، ليس المشهورين فقط، بل حتى المغمورين منهم، وفي مرات كان كيسنجر يبادر بنفسه للقائهم. من هؤلاء الباحثين أستاذ التاريخ بجامعة تشابمان لوك نيكتر  الذي التقى كيسنجر للمرة الأولى في يونيو (حزيران) 2008 بمكتبه في نيويورك، بعدما طلب منه مساعدو الدبلوماسي الراحل الحضور للقائه.

وروى نيكتر لـ”اندبندنت عربية” قصة اللقاء وقال إنه فوجئ بالتواصل وترتيب المقابلة على رغم أنه لم يطلبها أو يفكر فيها، وإنه إلى اليوم يجهل كيف عرف كيسنجر عنه، فهو لم يكن حينها إلا طالب دراسات عليا في مستهل الثلاثينيات، ولم يكتسب شهرة عامة أو ينشر أبحاثاً مثيرة للاهتمام، إلا أن الصلة الوحيدة بكيسنجر هو أنه كان ينبش باجتهاد في إرث إدارة نيكسون.

واسترجع نيكتر بأن محادثته الأولى لم تبدأ ودية، إذ سأله كيسنجر عما إذا كان يعرف سبب دعوته، وبدا للضيف أن الدعوة مدفوعة برغبة المضيف في معرفة هوية ونوايا الشخص الذي ينقب في أشرطة نيكسون التي توثق محادثات كثيرة أجراها مع الرئيس، ببساطة أراد كيسنجر معرفة ما إذا كان الشاب الجالس أمامه صديقاً أم عدواً.

وانتهى الاجتماع بتوصل كيسنجر إلى فهم دوافعه ضيفه وأنه لم يكن صديقاً ولا عدواً بل باحثاً محايداً يريد تناول حقباً وأحداثاً سياسية لم تلق نصيباً كافياً من التركيز، الأمر الذي كان مطمئناً للوزير الراحل فوعده بتقديم كتابه المقبل.

بعد نظر

تبدو دعوة كيسنجر في محلها، فبعد سنوات ألف ذلك الطالب سلسلة من الكتب عن أشرطة نيكسون، وفرغها إلى مئات الصفحات أكثر من أي شخص غيره. لكن نيكتر ما زال يجهل إلى يومنا هذا الطريقة التي عرف من خلالها كيسنجر عن أبحاثه، مرجحاً وجود شبكة تواصل من الإدارات المنصرفة حول المقالات والأبحاث المؤثرة التي تتناول سياساتها.

وتابع كيسنجر معظم ما ينشر حوله من نيكتر حتى أنه أبدى الاستياء في بعض الأحيان من عمله، مما يدل على أنه لم يرد أن يكون شاهداً صامتاً أو متفرجاً على الآخرين بينما يكتبون تاريخه السياسي من جديد أو يبنون إرثه على روايات “خاطئة”، خصوصاً أنه كان الساعد الأيمن للرئيس الذي سجل آلاف الساعات من محادثات حساسة. ولم تكن مهمة كيسنجر في حراسة تاريخه سهلة، فإدارة الأرشيف الوطني في الولايات المتحدة تفرج كل عام أو عامين عن مزيد من أشرطة نيكسون، أي ملايين من الصفحات التي توثق محادثات كان كيسنجر طرفاً فيها.

 

“سترحل وتُنسى”

يختلف الباحثون حول نجاح مساعي كيسنجر في أن تتفوق روايته على غيرها من الروايات، فمن يقول إنه لم ينجح بالكامل ومنهم نيكتر يستشهدون بالتغطية الخبرية والتحليلية السلبية والانتقادات اللاذعة التي تعرض لها بعد وفاته حتى من مسؤولين في إدارات سابقة.

ويعرف والمتابع لنشاط كيسنجر صرفه مبالغ طائلة لدعم المعاهد ومراكز البحث الأكاديمية التي سميت باسمه، واللافت أن مايكل بلومبرغ الديمقراطي الذي شغل منصب عمدة نيويورك قدم أيضاً دعماً مالياً لبعض هذه المراكز.

وشكك نيكتر بجدوى تلك التبرعات واستذكر بأنه حذر كيسنجر في عام 2017 من التبرع لهذه المراكز المسماة باسمه وقال له إن “أصدقائك سيأخذون أموالك اليوم، ولكنهم سينسونك بعد رحيلك”، فرد عليه برسالة، “وجهة نظرك كانت مثيرة للاهتمام وأود مواصلة هذه المحادثة في وقت ما”.  وأضاف المؤرخ، “لا أعرف ما قصد بذلك، ولكنه ظل حتى آخر حياته يقدم تبرعات مالية كبيرة لمراكز التعليم العالي. وإذا نظرنا للانتقادات بعد وفاته، نجد أن كثراً كانوا يخشون تحديه عندما كان على قيد الحياة، فعلى رغم من كبر سنه، إلا أنه كان شرساً”.

وفي وصف تأثيره الفريد، قال أستاذ التاريخ إن كيسنجر ربما كان الشخص الوحيد على كوكب الأرض الذي يمكنه دخول المكتب البيضاوي للقاء الرئيس الأميركي اليوم، ثم السفر لمقابلة شي جينبينغ وفلاديمير بوتين.

رسالة أخيرة

استمرت علاقة الاثنين سنوات، وتوجها كيسنجر بكتابة إشادة ودعم لكتاب نيكتر الذي تناول سيرة الدبلوماسي هنري كابوت لودج ونشر عام 2020. وكتب نيكتر له في آخر رسالة متمنياً عيد ميلاد سعيد بعدما أكمل الـ100 عام ومازحه، “من المحتمل أن تعمر أكثر منا كلنا”، فرد عليه كيسنجر قائلاً إنه لا يمانع أن يعيش أكثر من الجميع، لكن ذلك يتعارض مع الجداول الاكتوارية”. وهنأه بكتابه “السنة التي كسرت السياسة” الذي نشر في أغسطس الماضي ووصفه بأنه أفضل ما كتب حول العلاقة بين الرئيسين نيكسون وجونسون مقارنة بما قرأ حول الانتخابات الرئاسية لعام 1968، كما دعاه إلى زيارته.

وظل كيسنجر فاعلاً حتى آخر أيامه، فقبل شهر من وفاته التقى فريق معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى في الـ25 من أكتوبر (تشرين الأول) لتسجيل مشاركته في مناسبة لتكريم رئيس المعهد روب ساتلوف. ويستذكر رئيس إدارة التواصل في المعهد جيف روبين بأن كيسنجر طلب من الفريق تعليقاتهم على أدائه، وقرر بنفسه إعادة تسجيل خطابه الذي استمر لثلاث دقائق.

 من جانبه قال ساتلوف في حديث لـ”اندبندنت عربية” إن كيسنجر كان فريداً لأنه “أدرك أن التغيير الجذري لا يحدث بانفجار كبير، بل تدريجاً وبسلسلة من التغييرات الصغيرة التي تؤدي إلى تحول ضخم”، واصفاً نهجه بـ”دبلوماسية الخطوة خطوة التي تتطلب صبراً وإحساساً بالصورة الكبيرة، حتى لو ركزت في أي يوم على خطوة تقدم صغيرة”.

وأضاف رئيس معهد واشنطن، “تمتع كيسنجر بمزيج نادر بخلاف عديد من كبار دبلوماسيينا، فإضافة إلى حسه التكتيكي الماكر، كان استراتيجياً ومفكراً مفاهيمياً عميقاً، أي أنه كان يتمتع بثقافة عالية، وقدرة غريزية وعملية على طريقة تنفيذها”.