«سلام»، «والله»، «صاحبي»، «خويا»… هذا جزءٌ يَسير من الكلمات العربية التي اقتحمت قاموس الشارع الفرنسي. فتضمين الأحاديث اليوميّة عباراتٍ مقتبسة من اللغة العربية، بات «موضة» رائجة في فرنسا ومَن لا يلحق بركبها، قد يُعد قديم الطراز أو خارج العصر. وليس الأمر حكراً على الفرنسيين المتحدّرين من أصولٍ عربيّة، بل بات أبناءُ البلد ضليعين فيه، لا سيّما الشباب منهم.
لا داعي للاستغراب كثيراً، فالاختلاط ما بين المجتمعات العربيّة والفرنسيين بلغ مرحلة الانصهار، بفعل وجود عددٍ لا يُستهان به من الجاليات العربية في فرنسا، على رأسهم الجزائريون والمغربيّون والتونسيّون، إلى جانب جنسيات أخرى كالسوريين واللبنانيين والمصريين وغيرهم.
وفي تقليدٍ شبه سنويّ، تدخل كلمات عربية جديدة إلى القاموس الفرنسي الأشهر «لاروس» (Larousse)، لتُضاف إلى ما انضمّ سابقاً مثل «smala»؛ أي العائلة، و«chouia» (شويّة)؛ أي القليل من الشيء، و«toubib»؛ أي طبيب، و«bled»؛ أي البلاد.
ظاهرة الـ«عربوفونيّة»
ضمن أحاديثهم وحواراتهم اليوميّة، اعتاد اللبنانيون من بين العرب على وجه الخصوص، أن يطعّموا كلامهم بعبارات ومصطلحات فرنسيّة، نظراً للثقافة الفرنكوفونيّة السائدة في البلد. وفي فرنسا اليوم، تبرز ظاهرةٌ «عربوفونيّة» مشابهة.
الفرنسيون، خصوصاً طلّاب المدارس والجامعات، وفي كلّ مرة أرادوا أن يُثبتوا صدقهم أو أن يطلبوا من أحد أن يُقسم، قالوا: «wallah» (والله). أما الـ«bonjour» (صباح الخير) والـ«salut» (مرحباً)، فتتراجع لصالح «salam» (سلام). وبين الأصدقاء، غالباً ما تُستخدم كلمة «khouia» (خويا أو أخي) تحبُّباً. وإذا كانت الغاية تنبيه أحد لأمرٍ ما، قالوا له: «belek» (بالك أو خُذ بالك).
ليست العربيّة الأدبيّة الفصحى – إذاً – اللغةَ التي يستخدمها الفرنسيون في أحاديثهم، بل ما تناهى إلى مسامعهم من عبارات تنتمي إلى اللهجات العربية، المغاربيّة منها على وجه التحديد. ومن بين أكثر الكلمات ترداداً على ألسِنة الشباب الفرنسي: «wesh» (ويش)؛ وتعني «كيف الحال»، إضافةً إلى «sahbi» (صاحبي)، و«miskin» (مسكين)، و«maboul» (مخبول)، و«clebs» (كلب)، وغيرها.
أما جغرافياً، فتحتلّ باريس المرتبة الأولى في استخدام المَحكيّة العربيّة المغاربيّة. في العاصمة الفرنسية، كما في كبرى المدن، صارت كلماتٌ مثل «hèbs» (حبس)، أو «zbeul» (زبالة)، أو «flouze» (فلوس)، أو «moula» (مال)، جزءاً لا يتجزّأ من معجم الشارع.
«كوكتيل» لغويّ متجدّد
لا ينتج هذا «الكوكتيل» اللغويّ عن الاختلاط الاجتماعي بين الفرنسيين والعرب فحسب، بل يساهم فيه كذلك انتشار ثقافة الراب والهيب هوب في أوساط الشباب وعلى منصات التواصل الاجتماعي. وتشكّل تلك الأغاني ذات الهويّة المغاربيّة، دربَ عبور للكلمات العربية إلى مسامع الجيل الفرنسي الصاعد. ومن بين الأسماء التي برزت في هذا الإطار، الجزائري «ديدين كانون»، والمغربي «فلين»، وسواهما من مغنّين مزجوا لهجات بلادهم بالفرنسيّة.
غير أن هذه الظاهرة ليست حديثة العهد. الفرق الوحيد بين الماضي والحاضر، هو تجذّر الكلمات العربية أكثر فأكثر في لغة الشارع الفرنسي. الإرث اللغوي العربي قديم في فرنسا، ووفق ما جاء في كتاب «أسلافنا العرب» (Nos ancêtres les Arabes) للمؤلّف واللغويّ الفرنسي جان بروفوست، فإنّ «اللغة الفرنسيّة تدين بالكثير لهؤلاء الأسلاف». يؤكّد بروفوست كذلك، أن العربيّة تحتلّ المرتبة الثالثة في قائمة اللغات التي استقت منها اللغة الفرنسية العدد الأكبر من كلماتها، بعد الإنجليزيّة والإيطاليّة.
لا تتوقّف قائمة تلك الكلمات عند حدود «coton» (قطن)، و«hammam» (حمّام)، و«café» (قهوة)، و«sucre» (سكّر)، و«magasin» (مخازن)، بل تطول لتتخطّى 600 كلمة، وهي في تزايد مستمرّ. أما اللافت في الأمر، فهو أنه بينما كان يكتفي المعجم الرسميّ الفرنسي بضَمّ الكلمات المنبثقة من الفصحى إلى صفحاته، بات يفتحها أخيراً للّهجة المَحكيّة. فإذا تصفّحت القاموس الفرنسي بحثاً عن كلمة «seum»، ستجدها وستجد كذلك أنها مشتقّة من كلمة «سُمّ» العربيّة، وهي تعني أن يكون المرء منزعجاً أو متوتراً للغاية.
الشارع يتبنّى والمدرسة تتهيّب
بموازاة الحضور الوازن للمعجم العربي في الشارع، تغيب اللغة العربية عن المنهاج التعليميّ الفرنسي الرسمي. تعزو مديرة مركز اللغة والحضارة في معهد العالم العربي في باريس، لينا الزهر، هذا التناقض، إلى «رفض وإنكار واقعٍ لغويّ جديد انطلاقاً من إرث مركزيّة الدولة الفرنسية، ومن الحساسية تجاه اللغة العربية المرتبطة بالمستعمرات».
وتضيف الزهر في حديثها مع «الشرق الأوسط» أنّ حضور اللغة العربيّة ضمن الفضاء الفرنسي العام ووزارة التربية على وجه الخصوص، مُربك للدولة وللرأي العام، رغم أنّ الآراء المؤسساتية متناقضة وتتراوح بين الاعتراف والإنكار: «فبينما يعد بعض تلك المؤسسات أن تعليم اللغة العربية بات ضرورياً، خصوصاً أن الواقع الديموغرافي يشير إلى أنها اللغة الثانية الأكثر استخداماً في البلاد، ثمة في المقابل نفور أو خوف من مأسسة العربيّة ضمن سياسة لغويّة عامّة».
رغم مشروع القانون الذي تَقدّم به أحد النوّاب الفرنسيين عام 2020، والمُطالب بتدعيم تعليم اللغة العربية في المدارس الفرنسية، فإنّ المُتاح على مستوى المدارس في فرنسا ليس بالكبير. ومن بين إجماليّ المدارس المنتشرة على الأراضي الفرنسية، والتي يبلغ عددها نحو 59 ألفاً، 150 منها فقط تُتيح دراسة اللغة العربية كمادّة اختياريّة لا إلزاميّة.
أما مَن أراد تعلّم اللغة العربية في فرنسا خارج المجال المحدود الذي يُفسحه النظام التربويّ، فأمامه احتمالاتٌ تعدّدها الزهر: «بعض الجمعيّات العلمانيّة والدينيّة، والدروس الخصوصيّة، والدروس عن بُعد، ومعهد العالم العربي، والجامعات التي تقدّم اختصاص اللغة العربية».