صفحات من حياة ميشيل في السجن 2006-2009
لما وصلنا إلى سجن عدرا، أدخلونا إلى «قلم السجن» وجاء أحد الضباط ليبلغ كلاً منّا رقم الجناح الذي تقرر له النزول فيه في السجن، فقد كان من الممنوع تواجد اثنين منّا في نفس الجناح!
ولما تلا الضابط الأسماء، كان على المحامي «أنور البني» الإقامة في الجناح السابع، فرفض «أنور» الذهاب إلى الجناح السابع، مبرراً بأن هذا الجناح هو جناح «الخيّالة» وهو محامٍ ولا يليق به أن يكون أحد نزلاء في ذلك الجناح!
ولما أسقط في يد الضابط ذهب، فاقترحت على أنور أن نتبادل الأجنحة فيذهب هو إلى الجناح الخامس بدلاً مني، «جناح الحرامية» وأذهب أنا إلى الجناح السابع «جناح الخيالة!»
الجناح السابع -جناح الخيّالة
عندما سجل رئيس الغرفة اسمي في دفتره سألني عن (جرمي) فأجبته: «التوقيع على إعلان بيروت-دمشق» فردّ مستنتجاً: يعني أنت مع الأستاذ ميشيل. نعم!
فسألته: وين هو بأي غرفة، بدي شوفو! فقال: هلا بتشوفو! راح ننزل لعندو ع الباحة، انتظرت انقضاء تلك الدقائق الثقيلة! وبعد أن أعدوا القهوة، نزلنا إلى الباحة، كان «أبو أيهم» جالساً على كرسي صغير على يمين الباحة، تحت شجرةً تتسلق عليها الورود. ولما دخلت نهض واقفاً وهو يكرر: «أهلاً وسهلاً!» وبعد أن تعانقنا قال: ما كنت بتمني أتعرف عليك ونلتقي هون! فقلت له ولا يهمك، تعودنا! سردت عليه ما جرى منذ اعتقالنا والردود التي حصلت، كانت معلوماته جيدة، لقد كان مسموحاً له أن يقرأ الجريدة ويشاهد التلفزيون، وبشكل رئيسي قناتي «المنار والمستقبل» التي غطت موضوع اعتقالنا، ثم أعطاني نسخة من صحيفةٍ محلية كانت بيده تتحدث عن «إعلان بيروت – دمشق» وعن الموقعين وغفلتهم!
كان إدخال ميشيل إلى الجناح السابع مقصوداً، وسبق أن مهدّ الضابط له، ودخل إلى الجناح غرفةً بعد أخرى، مهدداً النزلاء من عواقب التعامل معه. ولذلك عندما دخل «ميشيل» إلى الغرفة السابعة، ألقى التحية: السلام عليكم!
لم يرد عليه أحد، وبادره رئيس الغرفة بالقول: «اجلس. اجلس!»
جلس ميشيل على الأرض، سجل المعلومات الشخصية عنه، والجرم!» وعندما تقدم أحد النزلاء وأذكر أنّ كنيته «السفكوني» من «أبو أيهم» وناوله تفاحةً، نادى رئيس الجناح، ذلك النزيل وباغته بصفعةٍ قويةٍ على وجهه عقاباً على فعلته الشنيعة التي اقترفها بتقديم تفاحةٍ لأبي أيهم!
ومن المضايقات التي أقدم عليها بعض «الزملاء النزلاء» في البداية، الاصطدام مع أبو أيهم، بشكلٍ متعمد، وإسماعه كلاماً بذيئاً في الباحة، والتحرش به بوقاحة، ولكنّني وفي إحدى الصباحات، وفي خلال الدرس الرياضي الذي واظبنا عليه، تقصّدت أثناء وجود بعض أولئك الأشخاص المتحرشين والمدسوسين في الباحة، القيام بعرضٍ رياضي أظهر فيه بعض مهاراتي، في الجري السريع، والقفز في الهواء، والمشي على اليدين، وتنفيذ بعض حركات الجمباز والقتال، جاعلاً من كل حركةٍ أقوم بها رسالةً لهم، وتطميناً لأبي «أيهم». ويبدو أنّ ذلك الاستعراض هو ما شجّع رئيس الجناح، للإدلاء بدلوه والقيام بنقل رسالةٍ تحذيرية للمندسين، عندما جاء إلى الباحة متوجهاً نحونا، واقفاً في الوسط شابكاً يده اليسرى بذراع أبو «أيهم» اليمنى، ويده اليمنى بذراعي اليسرى، وحين أخذنا نتمشى في الباحة، كان ذلك بمثابة رسالةٌ بوجوب إيقاف كل الإزعاجات الموجهة ضدنا!
التوقيع على إعلان «بيروت-دمشق» جنايةً
بعد أربعة أشهرٍ من الاعتقال قضيناها في سجن دمشق المركزي في عدرا، إثر توقيعينا على إعلان بيروت- دمشق، في 14/5/2006 أخلي سبيلي مع سليمان الشمر وخليل حسين لقاء كفالة نقدية في 25/9/2006، ولم يبق من معتقلي إعلان بيروت-دمشق إلا ميشيل كيلو، على أساس أن يجري إطلاق سراحه وأن نحاكم جميعنا طلقاء! وكان سبق أن أطلق سبيل كل من المحامي محمود مرعي وغالب عامر ونضال درويش ود. صفوان طيفور في 16/7/ 2006 بعد شهرين من الاعتقال، وبعد أن أعيد استجوابهم، أفادوا بأنهم قد وقعوا على مسودة بيان تخالف البيان ما نشر في وسائل الإعلام، وأكدوا رفضهم لما جاء في البيان المنشور! وكذلك فقد تم إطلاق سراح المهندس محمد محفوض في سياقٍ مختلف ودون أن يقدم أية تنازلاتٍ!
لماذا الاعتقال مجدداً؟
أعيد اعتقالي مجدداً في 23/10/2006 من نفس المنزل الذي كنت قد اعتقلت منه في 14/5 من نفس العام، على خلفية التوقيع على إعلان بيروت –دمشق. كان قد صدر قرارا بإخلاء سبيل الأستاذ ميشيل كيلو يوم الخميس 18\10\2006 الساعة الواحدة والنصف ظهرا من قاضي الإحالة حليمة حيدر، على أن يحاكم طليقا وبكفالة نقدية قدرها 1000ل.س وتم دفعها أصولا بموجب الإيصال المالي رقم 867426\ب تاريخ 19\10\2006، وسلم طلب إخلاء السبيل من ديوان قاضي الإحالة إلى ديوان المحامي العام لإرساله إلى السجن المركزي عدرا.. ولم يتم إرساله، إنما تم تبليغ كيلو قرار الاتهام والمحاكمة!
بدء جلسات المحكمة
تمّ إحضارنا أنا ومشيل كيلو من سجن عدرا المركزي، بينما نودي في المحكمة على المتهمين الآخرين خليل حسين وسليمان الشمر، فلم يحضرا رغم تبليغهما على باب موطنهما الأخير قرار المهل، وحيث أن المتهمين لم يسلما نفسيهما، فقد شرعت المحكمة بمحاكمتهما غيابيا، ولم يقبل حضور وكيل عنهما في المحاكمات الغيابية وبدأت المحكمة باستجوابي أنا وميشيل كيلو حول الجرائم المسندة إلينا وهي الجنايات التالية:
1-إضعاف الشعور القومي وفق المادة 285 من قانون العقوبات العام
“من قام في زمن الحرب أو عند توقع نشوبها بدعاوى ترمي إلى إضعاف الشعور القومي أو إيقاظ النعرات العنصرية أو المذهبية عوقب بالاعتقال الموقت”
المادة 286 من قانون العقوبات العام وهن نفسية الأمة: «من نقل في سورية أنباء يعرف أنها كاذبة أو مبالغ فيها من شأنها أن توهن نفسية الأمة في زمن الحرب أو عند توقع نشوبها».
2-تعريض سوريا لخطر أعمال عدائية (وهذه التهمة وجهت لي وللمتواريين سليمان الشمر وخليل الحسين): وفق المادة «278» من قانون العقوبات العام: «من أقدم على أعمال أو كتابات أو خطب لم تجزها الحكومة تعرض سورية لخطر أعمال عدائية أو عكر صلاتها بدولة أجنبية».
وجنحة إثارة النعرات الطائفية: وفق المادة «307» من قانون العقوبات العام: «كل عمل وكل كتابة وكل خطاب يقصد منها أو ينتج عنها إثارة النعرات المذهبية أو العنصرية».
وجنحة إذاعة أنباء كاذبة والذم والقدح وفق أحكام المواد «376» من قانون العقوبات.
وكررنا أقوالنا السابقة أمام ذات المحكمة بجلستها السرية المنعقدة سابقا.
وأضفنا أننا موافقين على ما جاء في إعلان دمشق- بيروت وأكدنا أن هذا الإعلان من المثقفين الديمقراطيين السوريين واللبنانيين إنما يؤسس لعلاقة إيجابية ومتينة وصحية بين البلدين، وبما فيه مصلحة الشعبين في سوريا ولبنان. وأن السلطات السورية العليا قد ذهبت إلى أبعد مما يطالب به الإعلان المذكور!
واستمهلت النيابة العامة لتقديم مطالبتها بأساس الدعوى، وأجلت الجلسة إلى تاريخ 27/3/2007، ولقد حضر الجلسة بعض أعضاء السلك الدبلوماسي من سفارتي ألمانيا وهولندا في سوريا وناشطين في مجال حقوق الإنسان وعدد من الأصدقاء والناشطين في الحقل العام وهيئة الدفاع من المحامين.
جلسة الحكم بتاريخ 13/5/2007
وفي 13 /أيار عام 2007، أصدرت محكمة الجنايات الثانية بدمشق حكماً بالسجن ثلاث سنوات ضد الأستاذ ميشيل وضدي بتهمة «إضعاف الشعور القومي» وتهمة «إثارة النعرات الطائفية» على الأستاذ ميشيل ودغمت العقوبتان وأخذت بالعقوبة الأشد 3 سنوات. وتم إسقاط تهمة «تعريض سوريا للأعمال العدائية»، عني لعدم كفاية الأدلة!
التفتيش المفاجئ والتحقيق
بقينا معاً في الجناح السابع، حتى أواسط الشهر السابع 2006 كنا في الباحة، وكان عيد ميلاد «أم أيهم»، جاء سجينٌ وعرض علينا الاتصال بالهاتف، الموبايل، وأمسك ميشيل بالجهاز حاول الاتصال، لم تجب «أم أيهم»، ما هي إلا دقائق معدوداتٍ، حتى جاء ضابطٌ ومعه مجموعةً من عناصر الشرطة، وفتشوا الغرفة التاسعة، كان النزيل «طارق» قد وضع جهاز الهاتف في صندوق بين البطاطا والبصل. أخذوه إلى التحقيق، وما هي إلا دقائق أخرى حتى، عاد الضابط ومعه العناصر، وفتشوا سريري ثم سرير «أبو أيهم»، وخلال تفتيشهم، وجدوا نسخةً من بيان «إعلان بيروت-دمشق»، فأخذوه، ثم نادونا إلى «التحقيق».
وانهالت علينا الاسئلة: ما هذا؟ ومن جلبه وكيف وصل إلى أيديكم؟ قلت للمحقق: «أنا جلبته، وجاء به محامينا، الأستاذ حسن عبد العظيم!» ولقد طلبناه من أجل إعداد مرافعاتنا فيه. فتح المحقق محضراً، ودوّن تلك المعلومات. وأصدر العميد رئيس السجن «سمير الشيخ» أمراً بعزلنا عن بعض في جناحين، وقال بأنّه ينبغي على أحدكما الانتقال إلى الجناح العاشر، قلت مباشرةً: «أنا سأنتقل»، وأبدى ميشيل رغبته، فحسمت الأمر، وقلت له: «أنا أستطيع نقل الأغراض بسهولةٍ». حزمت أغراضي، بسرعةٍ وأخذني عنصر الشرطة إلى الجناح العاشر، في الطابق الثاني.
أحيلت القضية إلى القضاء العسكري، واعترف النزيل «طارق»، بدوره أمام عناصر التحقيق في السجن بأنه كان مكلفاً بمراقبتنا من قبل الجهة الأمنية، وهكذا ونحن في السجن، جاءتنا دعوى جديدة، ولسنا الوحيدين، بين السجناء السياسيين، أو القضائيين الذين تقام ضدهم دعاوي جديدة أغلبها كيدية!
دعوى جديدة / القضاء العسكري
بدأت ملاحقة القضاء العسكري لي ولميشيل على أثر تلك الحادثة التي وقعت في تموز عام 2006، بتهمة الترويج لدعم «إعلان بيروت-دمشق» في سجن عدرا. ومثلنا أمام قاضي التحقيق العسكري الخامس في 6 آذار 2007 وحركت الدعوى على أساس تقرير كتب في شهر تموز 2006، بأننا نروج لإعلان بيروت-دمشق داخل السجن. مما استدعى محاكمة جديدة بتهمة التطرق مع معتقلي سجن عدرا المركزي عن الفساد وعن الخروقات والانتهاكات، ودعوة السجناء من أجل تبني ما جاء في إعلان بيروت دمشق، وذلك وفق المادة 150 من قانون العقوبات العسكري والتي تنص على أنّ كل من ينشر مقالاّ سياسياّ او يلقي خطبة سياسية بقصد الدعاية أو الترويج لحزب أو جمعية أو منظمة او هيئة أو جماعة سياسية، يعاقب بالاعتقال حتى 5 سنوات!
النقض – إطلاق سراحنا ثم دعوى المخاصمة
2/11/2008
قدم النائب العام في الجمهورية العربية السورية طعناً بقرار محكمة النقض القاضي بالإفراج المبكر عنا- ميشيل كيلو ومحمود عيسى- لقضائنا أكثر من ثلاثة أرباع مدة العقوبة المحكوم بها علينا وهي السجن 3 سنوات. وصدر القر ارعن الغرفة الثانية لدى محكمة النقض برئاسة القاضي سلوى كضيب والمستشارين كامل عويس وهشام الشعار رقم 2795 تاريخ 2/11/2008 وقضى بقبول الطعن شكلاً وموضوعاً ووقف الحكم النافذ رقم 4309/227 تاريخ13/5/2007 وإطلاق سراحنا فوراً ما لم نكن موقوفين لداع آخر!
سابقة في تاريخ القضاء السوري
النائب العام في الجمهورية العربية السورية يقيم دعوى مخاصمة
عوضا عن شعور النيابة العامة التمييزية بالارتياح من حسن تطبيق القانون نسبياً، عمدت إلى إخفاء القرار رقم 2795 تاريخ 2/11/2008 وعدم تنفيذه أصولا وعدم الإفراج عنا تنفيذاً للقرار الصادر عن أعلى هيئة قضائية وهي الغرفة الجنائية لدى محكمة النقض، مما يعدّ قانوناً حجز لحريتنا وتتحمل مسؤوليته الجهة الموكلة بتنفيذ الأحكام القضائية.
وبتاريخ 4/11/2008 تقدم النائب العام في الجمهورية المستشار تيسير قلا عواد بدعوى مخاصمة وهي دعوى مبتدئة تعتمد المسؤولية التقصيرية أمام الهيئة العامة لمحكمة النقض على السادة القضاة أعضاء المحكمة التي أصدرت قرار منح ربع المدة، وهم:
القاضي: السيدة سلوى كضيب رئيساً
القاضي: السيد هشام الشعار مستشاراً
القاضي السيد كامل عويس مستشاراً
السيد وزير العدل إضافة لمنصبه بوصفه ضامن للمدعى عليهم، تمثّله إدارة قضايا الدولة
المحكوم عليه ميشيل كيلو
المحكوم عليه محمود عيسى.
دعوى المخاصمة في السجن
وتبلغنا أنا وميشيل بوثائق الدعوى في محل إقامتنا في سجن عدرا المركزي ظهراً وبدون رقم أساس للدعوى وبذات الوقت وبقدرة قادر، تبلّغ المدعى عليهم جميعاً الدعوى وأرسلت إلى النيابة التميزية للمطالبة وعادت إلى الديوان – حصل كل ذلك خلال ساعات قليلة جداً – وأدخلت إلى الهيئة العامة وصدر قرار بوقف تنفيذ قرار منح ربع المدة، وإبقائنا موقوفين، وقد تبيّن لنا فيما بعد أن الدعوى سجلت برقم / 1983 / لعام 2008. يومها كان صوت ميشيل ملعلعاً في البهو يقول: (وزعت أغراضي على السجناء كيف بدي لمها منهم)!
بعد أن تم إصدار القرار وحرمنا من الحق الذي صانه الدستور لنا بالرد على الدعوى تم تحديد جلسة في 25 /11/2008! وبذلك فإن تصدي النائب العام في الجمهورية للادعاء وفي دعوى مبتدئة (مدنية) يكون قد خالف النصوص التي أوردتها هيئة الدفاع بأن السيد النائب العام في الجمهورية العربية السورية ليس بذي صفة لإقامة هذه الدعوى، ولم تسمع خلال عملها في المحاماة إقامة مثل هذه الدعوى وجاءت للأسف لعرقلة تنفيذ حكم قضائي جزائي مبرم!
استعصاء السجن في 25/1/2007
اندلعت أعمال احتجاج بعد ظهر 25/1/2007 داخل سجن عدرا بين السجناء وشرطة السجن، وأطلقت قوات مكافحة الشغب والإرهاب قنابل غازية مسيلة للدموع للسيطرة على الوضع، وبعض السجناء جرّحوا أنفسهم بشفرات الحلاقة احتجاجا على أوضاعهم، وساد جو من الرعب والخوف والهستيريا، وكسر الأبواب والشبابيك، ونهب المحلات حيث كان بالإمكان الذهاب إلى كل الأجنحة، بعد فتح الأبواب ولم يكن لذلك الاستعصاء هدفاً سوى مطالبتهم بأن يشملهم العفو الرئاسي الذي صدر في عيد الأضحى.
كانت الغازات السامة شديدة أوصلتنا إلى حد الاختناق، لذلك كنا مجبرين على الخروج إلى الباحات المكشوفة من أجل استنشاق الهواء، نضع بشاكير مبلولةٍ بالماء، كنت في الجناح الأول، وكان الرفيق والصديق أبو علي (فائق المير) في الجناح الثاني، ( والذي قد أعيد اعتقاله خلال الثورة السورية، ولايزال مصيره مجهولاً ) وانهدمت الحدود بيننا، ذهبنا إلى باحة الجناح السابع حيث كان هناك ميشيل وكمال يقفون على درج مدخل الباحة، وما أن وصلنا حتى ألقيت قنبلتان مسيلتان للدموع دفعةً واحدةً، من سطح السجن، حيث تمكّن رجال الإطفاء من الوصول إلى السطح وسيطرت مكافحة الشغب على كامل سطح السجن، مما سهلّ عليهم التحكم برمي قنابل الغازات السامة في الباحات ومداخل الأجنحة. في تلك اللحظة، وصلنا إلى حد الإغماء، وكان الجميع يضع بشكيره المبلل بالماء، إلا ميشيل الذي كان يتقلب على ظهره في الباحة، أسرعنا إليه، ووضعت البصل على أنفه كي يستطيع استعادة التنفس، حتى شهق ميشيل واستطاع التنفس من جديد، فقمنا بحمله إلى مدخل الجناح مستخدمين البشاكير في التهوية، وفجأةً بدأ بعض الأشخاص المتهورين يحرقون فرشات الإسفنج داخل ممر الجناح فوجدنا أنفسنا محاصرين بين غازات القنابل المسيلة للدموع والغازات المنبعثة من الحريق!
عندئذ أصبحت حياتنا في خطر، قصدت أحد السجناء القضائيين وطلبت منه تأمين هاتف واتصلت مع زوجتي رويدا وقام أبو علي بالاتصال ب (أبو هشام، رياض الترك)، وشرحنا بكلماتٍ قلقة ومختصرة أن حياتنا في خطر!
حاولوا تجميع السجناء في الباحة الأولى، كان الإنهاك قد سيطر عليهم جميعاً، وفي منتصف الليل تم اقتحام السجن والطلب من الجميع خلع الملابس والمناداة بعبارة مهينة هي: «إننا قطط وجبناء» وتم اقتياد كل من كان هناك علامةً أو جرحٍ على جسده إلى مبنى المخدرات والتحقيق معه، أمّا نحن- المعارضين- فلم نجلس على الأرض، ولم نخلع ثيابنا، لقد تم استثناؤنا من ذلك الإجراء المهين!
لكن في صباح اليوم التالي، بعد أن انتشر خبر الاستعصاء على الفضائيات الإخبارية، يبدو أن هناك من أشار للإدارة أن المعارضين هم من استخدموا الموبايل لنقل الخبر، رغم أننا حاولنا تمويه الأمر والابتعاد عن الأعين والكاميرات!
جاء شرطيٌ وأخذني من الغرفة التاسعة في الجناح الأول إلى مبنى المخدرات في سيارة، حيث يجري التحقيق فيه، وعندما أدخلني الشرطي استقبلني ضابط الأمن، التفتت إلى اليمين كان ميشيل وفائق عائدين من التحقيق، وعندما وصلت أمام رئيس فريق التحقيق، كان هناك سجين سأله المقدم: هل هذا هو الشخص الذي اتصل بالموبايل؟ فرد السجين: متلو بيشبهو!
سارع الضابط الذي استقبلني إلى توبيخه وقال له وهو يدفعني إلى خارج الغرفة قائلاً: بدك تتبلىّ الزلمي، وسمعت المقدم يتحدث لكن الرائد، استمر في دفعي نحو السيارة التي تنتظر، وكانت المرة الأولى التي شعرت فيها بأنّ أحداً قد تعاطف معي لأني من الساحل! وهو ابن منطقتي، يومها لم أنظر ورائي!
وبقينا معاً حتى نقل ميشيل إلى الجهة الأمنية التي اعتقلتنا وأطلق سراحه يوم الثلاثاء 19-5-2009، بعد أن قضى حكماً بالسجن لمدة ثلاثة أعوام وعدة أيام عن جرائم سياسية مرتبطة بدعواته الى إصلاح العلاقات مع لبنان، كان حينها كيلو قد بلغ التاسعة والستين من العمر، وزاد وزنه إلى درجة كبيرة، بينما استبقيت من بعده لشهر كامل ، واستضافة دامت عدة أيام لدى نفس الجهة الأمنية التي اعتقلتني.
ومن المثير للسخرية، أن السلطات في سوريا قد ذهبت أبعد بكثير مما طالبنا به في إعلان بيروت-دمشق، فعندما خرجنا من السجن كان هناك علاقات دبلوماسية وسفراء للبلدين في دمشق وفي بيروت بينما كنّا نحن ما نزال سجناء في عدرا! هذا على مستوى الإجراءات لكن العلاقة بين البلدين الشقيقين، كان النظام و مرتزقة الطوائف قد قسموا ظهرها خلال 29 عاماً.
هذه صفحات من المعتقلات في سوريا، أردت أن أسجلها كما حدثت بغض النظر عن تطورات الأحداث فيما بعد وخاصةً بعد عام 2011، وما رافقها من أراءٍ ومواقف واصطفافات تحتاج إلى وقفةٍ ثانيةٍ في المستقبل.
محمود عيسى