قبل سنة نشرت صحيفة كبرى خبر تهنئة أرسلتها قيادة خليجية لبشار الأسد لمناسبة عيد الجلاء. الطريف في الأمر ما جاء في نص البرقية من تمنيات لـ”حكومة الجمهورية العربية السورية وشعبها المزيد من التقدم والازدهار”. وكما هو معلوم، لا تزال آثار “التقدم والازدهار” صارخة في كل أنحاء سوريا، والذي تغيّر بعد مرور سنة هو أن المتسبب الأكبر بكل هذا الخراب قد سقط بعدما أوحت تلك البرقية وأمثالها بأنه باقٍ برضا إقليمي ودولي.
من المعلوم طبعاً أن ديباجة البرقية السالفة الذكر هي على الأرجح نفسها التي تُرسل إلى كافة البلدان، فلا تراعي خصوصية كلّ منها. ومن المعلوم أيضاً أن الحكومات لا تتوقف عند أشخاص، لذا فإن أصحاب البرقية استقبلوا التغيير في سوريا بترحاب من المرجَّح ألا يكون معظمه على سبيل المجاملة فقط. أما الصحيفة الكبرى، التي نشرت البرقية على نحو بارز، فلم تنشر برقية مماثلة للرئاسة السورية في هذا العام، مع أن الأجواء مواتية أكثر من قبل.
وكالة الأنباء السورية الرسمية “سانا” خلت أيضاً من أي خبر عن برقية من هذا القبيل، بل خلت تماماً من أية تغطية للبرقيات التي تتلقاها الرئاسة لمناسبة عيد الاستقلال! فإما أن تكون الرئاسة لم تتلقَّ برقيات التهنئة الروتينية، وهذا مستغرَب، أو أنها تلقّتها ولم ترسلها إلى الإعلام الرسمي، وهذا مستغرب أيضاً، لأن الإعلام نفسه واكب في يوم الجلاء استقبال وزير الخارجية الأردني، والبيان الذي صدر بعد زيارته، ثم نشر بعده البيان الصادر عن الرئاسة حول اجتماع الدوحة مع رئيس الوزراء العراقي.
على صعيد متصل، نشرت سانا خبر زيارة وزير الثقافة السيدة زينب في ريف دمشق، بغرض زيارة ضريح السيد محسن الأمين لمناسبة عيد الجلاء. والسيد الأمين هو من رجالات عهد النضال ضد الفرنسيين، وترجع أصوله إلى جبل عامل، وقد دُفن في المقام في أوائل الخمسينات. إلا أن سانا أغفلت مشاركة محافظ السويداء مصطفى بكور في احتفال أقامه الأهالي هناك أمام صرح شهداء الثورة السورية الكبرى، حيث كرّس المحافظ معظم حديثه للثناء على وطنية أهل السويداء، وللتأكيد على وحدة سوريا، في ردّ شبه صريح على ما يُشاع عن مشاريع تقسيمية لا تكون فيها السويداء تابعة لدمشق. في كل الأحوال، بدا ما فعله الوزير والمحافظ تصرفاً فردياً غير نابع من حفاوة رسمية بالمناسبة.
احتفال السويداء لم يخرج عن التقليد المعهود، فالسويداء واظبت على ذلك كل عام، وأهلها يرون أنفسهم ممثّلين للوطنية السورية التي تُوِّجت بزعامة سلطان باشا الأطرش للثورة السورية الكبرى ضد الفرنسيين. وقد تعزز هذا الإحساس مع إهمال حكم البعث ذكرى الاستقلال، ليزداد الإهمال ويتعزز مع حكم الأسد. وقد كانت فاقعةً الاحتفالاتُ بذكرى انقلاب البعث في الثامن من آذار، أو ذكرى انقلاب الأسد في 16 تشرين الثاني، والتعاطي ببرود وقلة اكتراث بما يُفترض أنه اليوم الوطني لسوريا.
التعاطي الرسمي جعل العيد يبدو كأنه عيد خاص بالسويداء وحدها! يُضاف إليها نشطاء كانوا يذهبون من مختلف أنحاء سوريا للاحتفال في الجولان، حيث درجت العادة على خروج الأهالي من الطرف المقابل تحت الاحتلال الإسرائيلي، ليحتفل الطرفان معاً ويتبادلا الكلمات والأغاني عبر مكبرات الصوت. وفي العديد من المرات عمدت أجهزة المخابرات إلى إعاقة الذاهبين إلى الاحتفال من الطرف السوري، أو إلى التضييق عليهم، حتى اكتسب الاحتفال بالعيد الوطني سمعة معارِضة.
منذ تسعينات القرن الماضي تعرّضت فكرة مناهضة الاستعمار للكثير من النقد، وقد تسرّب منه بعض الخلاصات الشعبوية بعد الثورة السورية، كتلك المقارنات المبسَّطة جداً بين الاستعمار والاستبداد. هذا لا أهمية له في السياق الذي نحن فيه عن أعياد الاستقلال، فهي تكتسب قيمتها كإرث وطني بصرف النظر عن التمحيص في فحوى الاستعمار نفسه، والاحتفال بالعيد الوطني له مكانته المعنوية في معظم البلدان.
في سوريا، هذا أول عيد وطني بعد سقوط الأسد، والبعض يصف سقوطه بالاستقلال الثاني، بينما لا يزال ماثلاً ذلك الجدل حول العلم الذي اعتُمد علماً للثورة لأنه في الأصل علم الاستقلال، وقد عاد بعد سقوط الأسد ليكون العلم الرسمي لسوريا. هذه المعاني المتعلّقة بالاستقلال كان يُفترض بها أن تتسرب إلى ذكرى عيد الجلاء في 17 نيسان، وكان من المتوقع أن تشهد الذكرى في هذا العام تحديداً احتفالاً يليق باستعادة العلم ورمزيته.
على الضد من التوقعات، يمكن القول أن هذا العام سجّلت فيه ذكرى الاستقلال أدنى حضور لها، حتى في السوشيال ميديا. وقد صار من المعتاد بعد الثورة أن تُستعاد الذكرى سنوياً، ولو على سبيل المقارنة التي أشرنا إليها بين الاستعمار والاستبداد، أو كي يذكّر البعض بالماضي المشين لعائلة الأسد لأن جد بشار الأسد وقع على وثيقة تطالب فرنسا بالبقاء في سوريا. صحيح أن بعضاً من تلك الاستعادة كان يحدث على سبيل تزجية الوقت، إلا أن هذا وحده لا يفسّر غياب الذكرى شبه التام، والانشغال المفرط بفصل ممثلة من نقابة الفنانين في سوريا، وبحضور وزير وليمة في مضافة موالٍ سابق لعائلة الأسد.
الحق أننا لا نرى تفسيراً للتجاهل المعمم سوى تجاهل الرئاسة للحدث. إذ اقتصر ما صدر عن القصر على قرار روتيني يؤكد العطلة الرسمية المعمول بها أصلاً في يوم الجلاء، فلم يصدر بيان خاص بذكرى الاستقلال، ولم يظهر السيد الشرع ولو لدقائق ليتحدث عن الذكرى، ويهنّئ السوريين بها. ويُذكر في السياق أن البعض من الأكراد أظهر عتباً عليه لأنه لم يتوجّه إليهم بالتهنئة بعيد النوروز، في إشارة منه إلى فتح صفحة جديدة في التعاطي مع الموضوع الكردي، إلا أن عتبهم لم يلحظ أنه لم يظهر قبل ذلك في ذكرى الثورة واحتفالاتها.
خلال هذه المناسبات الوطنية، ظهر السيد الشرع مرة واحدة للتحدث والتهنئة بعيد الفطر، ولا ندري ما إذا كان سيهنّئ الطوائف المسيحية بأعياد الفصح، فالتهنئة كما هو معلوم مثار خلاف فقهي بين مَن يحرّمها ومَن يحلّلها، وكانت أعياد الميلاد قد مرّت من دون هذا التساؤل لأنه لم يكن قد تسلّم منصب الرئاسة رسمياً. لكن، سواء حدثت التهنئة بأعياد الفصح أو لا، تبقى للأعياد الوطنية رمزية مستقلة عن أيديولوجيا الرئيس وعن شخصه. العيد الوطني هو واحد من التقاليد الأساسية إلى جانب الرموز الوطنية مثل العلَم والنشيد، وهو العيد الوحيد الجامع إذا استُعيدت روحيته ومساهمة السوريين فيه؛ بلا تحيّز أو تبخيس.
increase
حجم الخط