السيكولوجية الجمعية للإبادة: سوريا نموذجاً
فهم الآليات النفسية التي تقود إلى العنف الجماعي ليس ترفاً فكرياً، بل هو خطوة أساسية نحو تفكيكها ومقاومتها، وبدلاً من أن نكون ضحايا سلبيين لهذه العمليات، يمكننا أن نختار أن نكون فاعلين في كسرها.
تنويه من الكاتب: تمّ استخدام صيغة المذكر لسهولة الكتابة والقراءة، لذا أودّ التأكيد على أن المحتوى يشير إلى التنوع الجندري والجنساني الذي تشمله التعابير المستخدمة في هذا المقال.
ما شهدناه في الساحل السوري في آذار/مارس ٢٠٢٥، وما نشهده في أماكن أخرى من سوريا، ليس قدراً محتوماً، ولم يكن مجرّد نتاج للحرب، بل نتيجة مباشرة لسنوات من التحريض والانقسام ونزع الإنسانية عن الآخر. الإبادة والعنف الممنهج ليسا نتيجة حتميّة للاختلافات، بل هما نتاج عمليّة طويلة من التأسيس النفسي والاجتماعي تؤدّي إلى قبول العنف كممارسة طبيعية، ففهم هذه الآليات النفسية هو الخطوة الأولى لمنع تكرار المأساة، ليس فقط في سوريا، بل في أي مجتمع قد يكون عُرضة للانقسام والكراهية.
انقسام السوريين في موقفهم من الجرائم والمجازر منذ ٢٠١١ إلى اليوم، يكشف عن عمق الأزمة النفسية والاجتماعية التي يعيشها المجتمع السوري. الأمر الأكثر إيلاماً هو كيف تتحول الضحيّة إلى جلّاد أو مهلّل لقتلة العزّل والأبرياء.
كيف يمكن أن يتشارك الناس ويضحكون على فيديوهات يتمّ فيها إجبار رجال على الحبو والعواء، بينما يتمّ ركلهم بالأرجل على رؤوسهم؟ وكيف يمكن ألا تصدمك صور أطفال قُتلوا مع عائلاتهم داخل بيوتهم، أو على أسطح بناياتهم مع جيرانهم؟ ألا يدعونا كلّ ذلك إلى التساؤل: كيف وصلنا إلى هنا؟
ما لا يدركه الكثيرون هو أن الإبادة ليست حدثاً مفاجئاً، بل عمليّة تتطوّر عبر مراحل، تبدأ من الكلمات والأفكار قبل أن تتحوّل إلى أفعال. وفي سوريا، شهدنا على مدى سنوات كيف تطوّرت هذه العملية، وكيف تحوّلت الانقسامات المجتمعية إلى أرضية خصبة للعنف الممنهج، ولمن هو ضحيّة أو “ضحيّة أكثر”.
في كلّ إبادة، هناك دوائر متشابكة من الفاعلين: المنفذّون المباشرون، المحرّضون، المتواطئون، والضحايا. بين هذه الدوائر، تلعب العوامل النفسية دوراً جوهرياً في تحويل أفراد المجتمع إلى أدوات للقمع والقتل، أو إلى شهود غير مبالين أو حتى مهلّلين. سوريا ليست استثناءً، بل إن الحرب السورية بما شهدته من مجازر وتطهير طائفي واثني وتحريض إعلامي ممنهج، تكاد تكون كتاباً مفتوحاً لفهم الآليات النفسية التي تؤدّي إلى الإبادة.
يقسم علماء النفس الاجتماعي الإبادة الجماعية إلى مراحل متداخلة. فوفقاً للعالم السياسي غريغوري ستانتون، تمرّ الإبادة الجماعية بعشر مراحل، تبدأ بالتقسيم المجتمعي، ثم التصنيف، فالتمييز، فالتجريد، فالتنظيم، فالاستقطاب، فالتحضير، فالاضّطهاد، وصولاً إلى الإبادة، وأخيراً الإنكار. في سوريا، يمكن تتبّع هذه المراحل بوضوح من خلال الأحداث التي مرّت بها البلاد منذ ٢٠١١.
“هم” و”نحن”
قبل اندلاع الاحتجاجات في سوريا، كان المجتمع السوري يعاني من انقسامات قائمة على أسس طائفية وعرقية وأيديولوجية وطبقية، ولكنها لم تكن للبعض واضحة على السطح. لكن هذه المرحلة تجذّرت وتواترت بعنف وتسارعت منذ العام ٢٠١١، حيث صُنّف الناس إلى “موالين” و”مندسّين”، “شبّيحة” و”ثوار”، “معتدلين” و”متطرّفين”، “عرب” و”كرد”، “سنّة” و”علويين” و”شيعة”… إلخ. هذا التصنيف لم يكن مجرّد تمييز وظيفي أو سياسي، بل تحوّل تدريجياً إلى تمييز هوّياتي عميق. وهو مشابه لما حدث في رواندا، بتصنيف “الهوتو” و”التوتسي”، وفي البوسنة التي ميّزت بين “الصرب” و”المسلمين”.
هذا التقسيم غالباّ ما كان يهدف إلى خلق “آخر”، يمكن تجريده من إنسانيته لاحقاً. وبهذا التجريد يصبح العنف ضدّه ليس فقط مبرّراّ، بل مطلوب.
في بداية العام ٢٠١١، ساهم الإعلام الرسمي السوري والميليشيات الموالية للنظام في نشر خطاب يصف المعارضين بأنهم “ارهابيون”، وفي السنوات التي تلتها تحدّثت أيضا بعض قوّات المعارضة والتنظيمات الجهادية عن “انفصاليين”، و”مجوس”، و”روافض”، و”مرتدّين”، هذا التوصيف سيجعل تصفية الموصوفين تبدو وكأنها تطهير مشروع، كما حدث في البوسنة، حيث تمّ تجريد مسلمي البوسنة من إنسانيتهم قبل المذابح التي نفّذتها القوّات الصربية، واعتُبروا تهديداً وجودياً يجب التخلص منه. وفي سوريا، رأينا حملات إعلامية ممنهجة استخدمت المنطق ذاته، وغالباً ما كانت تسبق الإبادات والمجازر.
في هذه المراحل، يبدأ ظهور خطاب الكراهية والصور النمطية. سمعنا عبارات مثل “جراثيم”، و”كلاب” للإشارة إلى المعارضين، وفي المقابل، استُخدمت تعبيرات مثل “خنازير” و”كلاب الأسد” للإشارة إلى المؤيّدين.
هذه اللغة لم تكن مجرّد كلمات عابرة أو منفعلة، بل كانت أدوات لتبرير العنف. في رواندا، وصفت إذاعة “ألف تلة” التوتسي بأنهم “صراصير”، وفي ألمانيا النازية، شُبّه اليهود بـ”الفئران”. هذه التشبيهات الحيوانية تهدف إلى نزع الصفة الإنسانية عن الضحايا، مما يسهّل قتلهم، ويجعل التعاطف معهم معدوماً.
مع استمرار خطاب الكراهية، يبدأ المجتمع في رؤية “الآخر” كشيء، وليس كإنسان له مشاعر وأحلام ومخاوف وعائلة، وهذا ما حدث في سوريا، حيث أصبحت جثث القتلى مجرّد أرقام في نشرات الأخبار، وأصبحت صور التعذيب في سجون النظام أو إعدامات “داعش” والتنظيمات المتطرّفة وبعض الفصائل المعارضة، موادّ للمشاهدة والتداول، من دون إدراك لفداحة ما نراه.
في البوسنة، وُصف البوشناق المسلمون بـ”الأفاعي”، مما سهَّل مذبحة سيربينيتسا في عام ١٩٩٥، وفي مناطق في حمص واللاذقية قام مسلّحون موالون للأسد بإبادة عائلات كاملة كانوا جيراناً لهم لسنوات. وكذلك أقدم مقاتلون معارضون في الغوطة الشرقية على إعدام مدنيين واستعراض نساء وأطفال وُضعوا في أقفاص حديدية متنقّلة، واستعرضوها في الشوارع بعد حصار طويل، مدفوعين بخطاب كراهية رسَّخ فكرة أن “الآخر” مسؤول عن معاناتهم، أو قد يشكّل خطراً عليهم.
في مناطق سيطرة النظام، كان تصوير معارضيه كـ”إرهابيين” أداة لتبرير قصف المدن والأحياء بالبراميل المتفجّرة، وفي المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، كان تصوير الموالين للنظام كـ”شبّيحة” و”حاضنة النظام” تبريراً لقصفهم عشوائياً، أو قتلهم.
التنظيم والاستقطاب وتعميق الانقسامات
لا تنجح الإبادة من دون بنية تنظيمية تدعمها. فلم يكن العنف في سوريا عشوائياً، بل كان منظّماً ومخططاً له، من خلال تشكيل فرق موت، وميليشيات مسلّحة، واستخدام التعذيب والإخفاء القسري كأدوات لنشر الرعب. تمّ تمويل جماعات مثل “الشبّيحة” و”قوّات الدفاع الوطني” وسواها وتدريبها، لتقوم بأعمال القتل الجماعي، في تكتيك مشابه لما شهدناه في الإبادة الجماعية في دارفور، حيث تمّ تسليح ميليشيات “الجنجويد” لاستخدام العنف نيابة عن الدولة.
كذلك استُخدمت المؤسّسات الأمنية السورية كأدوات لتنفيذ جرائم ممنهجة، مثل حملات الاعتقال والتعذيب والقتل في سجن صيدنايا، التي راح ضحيّتها آلاف المعتقلين. هذه الآلية تشبه ما حدث في كمبوديا تحت حكم الخمير الحمر، حيث حوَّل النظام السجون إلى مصانع للموت. كما لعبت وسائل التواصل الاجتماعي دوراً جوهرياً في استقطاب المجتمع. ففي ٢٠١٣، انتشرت مقاطع فيديو تُظهر مقاتلين من “جبهة النصرة” يذبحون أسرى، بينما نشرت صفحات موالية للنظام صوراً لـ”أبطال الجيش” الذين “يُطهّرون” المناطق من “الإرهابيين”. هذا الاستقطاب عزَّز الانقسام وساهم في أن يفقد الناس القدرة على رؤية الضحايا كبشر وبالتالي التعاطف معهم.
في هذه المرحلة أيضاً، تتشكّل الجماعات المتطرّفة، وتُنشر أيديولوجيات تبرّر العنف. في سوريا، رأينا تنظيمات مثل “داعش” و”جبهة النصرة”، كما رأينا ميليشيات موالية للأسد مثل لواء “فاطميون” ولواء “زينبيون”. ويصبح الاستقطاب أكثر حدّة وتضيق المساحات الوسطية. من لا يكون “معنا” يصبح “ضدّنا”. رأينا هذا في شعارات مثل “الأسد أو نحرق البلد” من جهة، ودعوات التكفير والتطهير الطائفي من جهة أخرى.
في البوسنة، قاد هذا الاستقطاب إلى ظهور ميليشيات صربية وكرواتية وبوسنية، تقاتلت في ما بينها، وارتكبت فظائع ضدّ المدنيين، وفي رواندا، أدّى إلى تشكيل ميليشيات “الإنتراهاموي” التي نفّذت معظم المجازر ضدّ التوتسي.
في هذه المرحلة أيضاً، تبدأ عمليّات التخطيط للعنف الجماعي، وقد تُنشر قوائم بأسماء من يجب استهدافهم. شهدت سوريا مثل هذه العمليّات في مناطق مختلفة. نتذكّر قوائم المطلوبين للنظام في كلّ أنحاء سوريا، التي كانت معمّمة على الحدود والحواجز الأمنية، وكذلك الخطف والقتل على الهوية عند حواجز متفرّقة لـ”داعش” و”جبهة النصرة”.
ثم يأتي التنفيذ، وهو ما شهدناه في مدن وبلدات مثل الحولة ودوما والقصير، ومؤخّراً في مجازر الساحل. في كلّ هذه الحالات، لم تكن المجازر عفوية، بل كانت نتيجة عملية طويلة من التأسيس النفسي والاجتماعي.
في رواندا، سبق الإبادة الجماعية إعداد قوائم بأسماء التوتسي في كلّ حي وقرية، وفي سربرينيتشا في البوسنة، جمع الصرب الرجال المسلمين البوسنيين وفصلوهم عن نسائهم وأطفالهم قبل إعدامهم، بينما في سوريا في مناطق مثل الحولة وتلكلخ والساحل السوري تم قتل عائلات بكاملها.
الإنكار أو التشكيك
في سوريا، كما في كلّ إبادة، نجد أن القتل الجماعي غالباً ما يُصاحبه نفي كامل للمجازر أو التشكيك فيها، أو التقليل من أهميّتها. وبعد كلّ مجزرة، يبدأ مسلسل الإنكار: “لم يحدث شيء”، “جماعتهم من قتلتهم لتوريطنا”، “الأرقام مبالغ فيها”، “أين كنتم عندما حدثت مجزرة كذا”، “كانوا يستحقّون ذلك”.
أنكر الأسد والروس استخدام الأسلحة الكيماوية في حوادث متفرّقة، ومنها الهجوم على الغوطة في عام ٢٠١٣، ورغم الأدلّة القاطعة والفيديوهات والتحقيقات الدولية شكّك الكثيرون في ذلك الهجوم، بحجّة أن النظام كان ينتصر، ولم يكن هناك مبرّر عسكري. كذلك أنكرت جماعات مسلّحة معارضة تورّطها في مجازر ضدّ المدنيين، مثل مذبحة كفريا في عام ٢٠١٥.
كذلك في مجازر الساحل الأخيرة، رأينا كيف انقسم السوريون: البعض أنكر حدوث المجازر أصلاً، والبعض شكّك في مرتكبيها وبعدد الضحايا، وآخرون برّروا حدوثها كنوع من “العدالة”، بينما قلّل البعض من أهميّتها مقارنة بما عانوه هم.
هذا الإنكار ليس جديداً أو حكراً على الصراع السوري، ففي تركيا، ما زال إنكار الإبادة الأرمنية سياسة رسمية بعد أكثر من مائة عام. وفي اليابان، ظل إنكار فظائع “نانكينغ” ضدّ الصينيين جزءاً من الخطاب الرسمي لعقود.
غياب التعاطف
من أخطر نتائج هذه العملية النفسية هو انهيار الشعور الإنساني والقدرة على التعاطف مع الآخر. التعاطف هو قدرتنا على تخيّل أنفسنا مكان الضحايا والشعور بألمهم وبالتالي الاستجابة له. لكن في سياقات الصراع الطويل، تتآكل هذه القدرة تدريجياً وأحياناً تتحوّل إلى الاستهزاء بتلك المعاناة والتشفّي بها.
في سوريا، أصبح البعض يرى معاناة الآخر “مستحقّة”، أو كنتيجة طبيعية لمواقفه، التي في كثير من الحالات لا يمكن معرفتها، إنما افتراضها تبعاً لأي منطقة يعيش فيها، أو للعرق، أو الطائفة أو الدين. عندما تُقصف مدينة يسكنها “معارضون للأسد” قد يرى البعض ذلك كـ”تطهير من الإرهاب”، وعندما يُقتل مدنيون “موالون للأسد” أو مقيمون في مناطق يفترضها البعض “حاضنة للنظام”، يرى البعض الآخر ذلك كـ”عقاب عادل”، وأحياناً مدعاة للاحتفال والتهليل.
غياب التعاطف، هذا، قد لا يكون حتماً نتيجة لانعدام الإنسانية، إنما من المحتمل أن يكون آلية نفسية للتكيّف مع الصدمة المستمرّة. فعندما يواجه الإنسان فظائع يومية، قد يلجأ عقله إلى التبلّد العاطفي كوسيلة للحماية الذاتية، لكن الأمر ليس كذلك في كثير من الحالات أيضاً.
في رواندا، لم يكن جميع الهوتو الذين شاركوا في المجازر يكرهون التوتسي، بل كانوا ضحايا لعملية تدريجية من التبلّد العاطفي والضغط الاجتماعي، لدرجة أنهم قتلوا أيضاً المعتدلين من الهوتو. هذا التبلّد العاطفي ليس عفوياً؛ فهو نتيجة لتجييش وتلاعب ممنهج. ففي البوسنة، أُجبر بعض الصرب على مشاهدة أفلام تُظهر جرائم المسلمين ضدّهم، بينما عُرضت على أطفال ويافعين سوريين في بعض معسكرات التجنيد الجهادية، مقاطع تبرّر العنف ضدّ “الكفّار” و”الروافض”. إضافة إلى ذلك، أظهرت دراسات عن ألمانيا النازية كيف أن “الآلة البيروقراطية”، حوّلت عمليّة القتل إلى مجرّد “وظيفة” يؤدّيها الموظّفون، أو بعض اليهود المتطوعين، رغم أنهم كانوا من المسجونين، من دون تفكير في العواقب الإنسانية.
هنا تصبح القسوة الأكثر إثارة للرعب في مراحل الإبادة العشرة هي موت التعاطف. في رواندا، حين كان الجلّادون يغنّون أثناء إبادة جيرانهم. وهو ما حدث في سوريا أيضاً، فأصبحت مشاهد القتل اليومية “عادية”، بل تحوّلت إلى مادّة للسخرية في بعض وسائل الإعلام و”فيسبوك” و”تيليغرام”.
خطاب الكراهية ووسائل التواصل الاجتماعي
لعبت وسائل التواصل الاجتماعي دوراً محورياً في انتشار خطاب الكراهية في سوريا وتوسيع قاعدة المشاركة فيه. “فيسبوك” و”تيليغرام” أصبحتا ساحات لتداول الصور والفيديوهات التي تُظهر العنف، مما ساهم في تطبيع هذا العنف وجعله جزءاً من الحياة اليومية. كما أن الخوارزميات التي تدفع المحتوى المُثير للجدل إلى الواجهة ساهمت في تعميق الانقسامات، وإنتاج المزيد من العنف والتنمّر والكراهية والتهديد. فكلما كان المحتوى أكثر تطرّفاً وإثارة للغضب والتفاعل، كلما حظي بانتشار أوسع. وبات الكثير من السوريين يكرّسون الوقت والموارد لمهاجمة منشورات المتعاطفين مع الضحايا على “فيسبوك”، والتشكيك فيها والاستهزاء والتنمّر، وأحياناً تهديد ناشريها والمعلّقين المتعاطفين والمؤيّدين لأفكارها. في ميانمار، على سبيل المثال، لعب “فيسبوك” دوراً مشابهاً في نشر خطاب كراهية ضد الروهينغا قبل حملة الإبادة التي تعرّضوا لها. وفي رواندا، كانت الإذاعة هي الوسيلة الرئيسية لنشر التحريض ضدّ التوتسي.
الصدمة الجماعية وآليات التكيّف
ما يجب دراسته ومناقشته هو مستوى الصدمة الجماعية المستمرّة التي تعرّض لها المجتمع السوري، والتي تجاوزت العقد من الزمن، وأن جيلاً كاملاً نشأ في بيئة عنيفة وفي كثير من الأحيان متطرّفة أيديولوجياً وسياسياً وعاطفياً. فعندما يعيش مجتمع بكامله تحت وطأة العنف والخوف والفقد لسنوات طويلة، تتطوّر لديه آليات تكيّف قد تبدو غريبة للناظر من الخارج.
التبلّد العاطفي تجاه معاناة الآخرين، أو حتى تجاه معاناة الذات، هو إحدى هذه الآليات. كذلك التفكير الثنائي (أبيض/أسود، ومعنا/ضدنا) الذي يبسط واقعاً معقداً ويجعله أكثر قابلية للفهم وللحكم. وكذلك، الإنكار والتبرير، هما أيضاً آليتان نفسيتان للتعامل مع واقع صادم. فعندما يكون الاعتراف بالحقيقة مؤلماً جداً، قد يلجأ العقل إلى رفضها أو تبريرها.
في البوسنة، استمر إنكار بعض الصرب لمجزرة سربرينيتشا حتى بعد ظهور أدلّة دامغة. وفي ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية، اختار الكثير من الألمان “الصمت الجماعي” كوسيلة للتعامل مع إرث النازية.
إذاً، ما الذي يجعل الناس يشاركون في الإبادة أو سلبيين تجاهها؟
التفسير النفسي لهذا السلوك معقّد، لكنه يرتكز على ثلاثة عوامل جوهرية على الأقلّ. أولها التطبيع مع العنف، فعندما يصبح العنف جزءاً من الحياة اليومية يفقد الأفراد حساسيتهم تجاهه. شهد الناس في سوريا العنف لفترة طويلة لدرجة أنه أصبح مألوفاً. ثم يأتي الضغط الاجتماعي والطاعة العمياء، كما أظهرت تجارب ستانلي ميلغرام حول الطاعة. الأفراد قد يرتكبون أفعالاً غير أخلاقية لمجرّد أنهم يتّبعون أوامر السلطة، أي سلطة كانت سواء عسكرية، أو سياسية، أو دينية، أو قبلية، أو حتى إدارية. ثم يأتي العامل الثالث، وهو الانتقام والتبرير الأخلاقي. في النزاعات الطائفية، يتمّ تصوير العنف كوسيلة لحماية النفس أو للانتقام، مما يسهّل تبريره.
كيف نكسر دائرة الإبادة؟
رغم قتامة الصورة، فإن التاريخ يُخبرنا أن المجتمعات قادرة على التعافي من أعمق الجراحات. لكنّ هذا التعافي لا يأتي من تجاهل الماضي، بل من مواجهته بشجاعة. لذلك، فالخطوة الأولى هي الاعتراف بوجود هذه الأنماط النفسية ومعالجتها. في ألمانيا، بعد الحرب العالمية الثانية، تمّ فرض برامج تعليمية لمكافحة الفكر النازي، وتمّت محاكمات دولية ضدّ مرتكبي الجرائم. في جنوب إفريقيا، تم إنشاء لجان للحقيقة والمصالحة لمواجهة إرث الفصل العنصري، فمن خلال الاعتراف العلني بالجرائم والاستماع إلى شهادات الضحايا بدأت عملية الشفاء الجماعي. وفي رواندا، جمعت محاكم “الغاكاكا” المجتمعية بين العدالة والمصالحة. وفي البوسنة، ساهمت المبادرات المجتمعية بين الطوائف المختلفة في إعادة بناء الثقة تدريجياً.
بالعودة الى سوريا، لا بدّ من عملية عدالة انتقالية تقوم بالمحاكمات العلنية وتنفذ حوارات مجتمعية واسعة النطاق، وبناء قوّات عسكرية وأمنية وطنية ومحترفة وتحترم حقوق الإنسان، وإصلاح القضاء والتعليم، وإنشاء قوانين وآليات مساءلة عادلة وغير متحيّزة في التعامل مع خطاب العنف والكراهية والتحريض.
ولنبدأ عملية الشفاء، لا بدّ من الاعتراف بمعاناة الجميع، فلا يمكن بناء مستقبل مشترك إذا لم نعترف بأن الألم قد طال الجميع، وإن بدرجات متفاوتة. ولا بد من كسر حلقة الانتقام الذي يغذّي دورة العنف. العدالة الحقيقية لا تأتي من الانتقام، بل من محاسبة عادلة تضع حداً للإفلات من العقاب. ولا بدّ من إعادة بناء التعاطف من خلال مبادرات مجتمعية تجمع السوريين من مختلف الخلفيات والمدن، للاستماع إلى بعضهم بعضاً.
نحن أمام خيار: إما الاستمرار في دوامة الانتقام والانقسام والكراهية، وإما اختيار طريق صعب لكنّه كفيل بإنقاذ ما تبقّى من نسيجنا المجتمعي ومن بلدنا. فهم الآليات النفسية التي تقود إلى العنف الجماعي ليس ترفاً فكرياً، بل هو خطوة أساسية نحو تفكيكها ومقاومتها، وبدلاً من أن نكون ضحايا سلبيين لهذه العمليات، يمكننا أن نختار أن نكون فاعلين في كسرها.
وفي النهاية، مهما اختلفنا، نحن محكومون بمصير مشترك، إما أن نغرق معاً في بحر من الكراهية والعنف، وإما أن ننجو معاً باختيار إنسانيتنا المشتركة فوق كلّ الانقسامات.