ملخص
لا تختلف رواية “درب الريش” للكاتب الليبي علاء عبدالواحد الدرسي، في تمحورها حول ثيمة العلاقة بين الشمال والجنوب، عن روايات عربية أخرى سبقتها، من قبيل “عصفور من الشرق” لتوفيق الحكيم و”موسم الهجرة إلى الشمال” للطيب صالح و”الحي اللاتيني” لسهيل إدريس، وسواها. غير أن الاختلاف يكمن في حدوث العلاقة على أرض الجنوب، وفي تمظهرها بصراع حول غيبيات تكتنفها الأسرار والألغاز، وفي تأطرها بإطار ديني.
تجري أحداث رواية “درب الريش” (شركة المطبوعات-بيروت) في منطقة الجبل الأخضر الليبيبة خلال ثلاثينيات القرن الماضي، وينخرط فيها عدد كبير من الشخوص الشمالية والجنوبية، مما يجعلنا إزاء عدد كبير من الخيوط السردية التي يمسكها الكاتب ويتصرف بها بكفاءة عالية، فينتقل من سلك إلى آخر بسهولة ويسر، في إطار جدلية الظهور والاختفاء بين الخيوط المختلفة، ويكسر وحدة المكان وخطية الزمان، ويتحرك في هامش واسع من العلاقات الروائية بخطوات مدروسة وإيقاعات متنوعة، مما يجعلنا إزاء روائي محترف ورواية مشغولة بعناية، تجذب انتباه القارئ على مساحة 700 صفحة ونيف.
تمظهرات الشمال
الرواية الليبية (شركة المطبوعات)
يتمظهر الشمال في الرواية بحملة استيطان إيطالية تنطلق من ميناء جنوة الإيطالي عام 1936 نحو ليبيا، وتضم الحملة عدداً كبيراً من العائلات الفقيرة الباحثة عن فرصة للعيش والعمل في جنة أفريقية موعودة، وعدداً كبيراً من الضباط والجنود المستعمرين الباحثين عن موارد يستغلونها. غير أن المهمة الأساس التي تطغى على مجرى الأحداث تتمثل في العثور على كنز ذي طابع ديني، مطمور في منطقة برقة الليبية. وهي مهمة يُخطط لها من قبل وزير خارجية الفاتيكان الكاردينال باتشيلي ونائب مدير الاستخبارات الإيطالية الكولونيل يونوتا دون علم الحكومة، مما يعكس تواطؤاً بين السلطتين الدينية والأمنية في تحقيق أغراض غير مشروعة. ويُسند تنفيذها إلى عصبة خاصة، يجري اختيار أفرادها من بين المعتقلين السابقين والمرضى النفسيين الذين لا يثير اختفاؤهم الشبهات في حال فشل المهمة المسندة إليهم. لذلك، نجد بينهم:
ـ قائد العصبة ماركو المتحدر من أسرة حدادين، يرفض فيها الأب بيع ورشته لتأمين كلف علاج ابنته لتموت بالجدري، فيترك المنزل غاضباً من أبيه، وتتقطع به السبل حتى ينضم إلى حركة القمصان السود الفاشية.
ـ لورينزو لوسكي الأعرج المتحدر من عائلة فلاحية، تضطر بناتها للاعتياش بأجسادهن بعد موت الأب، ويلتحق بالقمصان السود لتأمين ما يسد رمقه.
ـ لويجي كانفيا الأحول المتحدر من أسرة عسكرية أرستقراطية، والابن غير الشرعي للجنرال غوليلمو كانفيا الذي يخجل به، فيضعه في مصحة سانتا ماريا النفسية.
ـ فرنشيسكو لوتزي القزم الذي يتعهد رهانات سباق عربات في طرابلس الغرب.
ـ مانزوني لومبروزو المفتش العسكري الذي يضطر إلى قتل طفل وتجويع معتقلين تنفيذاً لأوامر رئيسه، ويعاني عقدة ذنب تدفعه إلى الإفراط في الشراب والتفكير في الانتحار.
وهكذا، يطغى الطابع العسكري على العصبة المنيط بها تنفيذ المهمة السرية، ويعاني أفرادها أعطاباً جسدية ونفسية، ولعل هذا ما يفسر تفككها لاحقاً وفشلها في تنفيذ المهمة.
اساطير وخرافات
يتمظهر الجنوب داخل الرواية ضمن مجموعة من العائلات البدوية المقيمة في منطقة برقة الليبية الخاضعة للنظام القبلي، والمتعلقة بمعتقدات شعبية والمؤمنة بالأساطير والخرافات. وهذه العائلات تؤمن بوجود سر في وادي اليتامى، وبوجود مؤتمنين عليه وحافظين له ومدافعين عنه. وهكذا، نكون إزاء فضاء قبلي ديني تعكسه وظائف الشخوص المختلفة، من قبيل المبروك والسحار والوتد والشيخ والمرابط والمريد، المنيط بهم حفظ السر وتوارث المحافظة عليه.
على أن نسبة بعض الخوارق إلى بعض هؤلاء يجعله خارج إطار الواقعية. وفي هذا السياق، نقع على المبروك الأعمى المقيم وحيداً في غار جبلي، والشيخ السحار يحيى الذي يكيد المكائد ويدس الدسائس ويتربص بالمبروك للحلول مكانه، والأعور الذي أنقذه السحار طفلاً من الموت فغدا مريداً له وأداة بيده، والمحاوي الذي يبلغ تعليمات السحار إلى أدواته ويتسقط أخبار القبائل، والمجرم ميلود الذي ينفذ أوامر السحار ولا يتورع عن القتل بذرائع واهية، والمريد عوض الذي يرشحه المبروك لخلافته ويقوم بتجشم الصعاب لتنفيذ رؤياه، والمجاهدة تعويضة التي تقيم مع ابنها في الجبل وتتصدى للإيطاليين وتدعم المجاهدين، والعجوز شواهي التي تحفظ الأخبار وترويها على مسامع الفتيات، والفتى محمد الشابي الذي يترجم للإيطاليين ثم ينضم إلى المحافظية التي تقاومهم، وغيرهم. وهكذا، يطغى الطابع القبلي والديني على شخوص الجنوب وينخرطون في صراعات عائلية، ولعل هذا ما يفسر المصائب التي تحل بهم.
البوكر الليبية
الكاتب الليبي هشام مطر يبحث عن ظل ابيه في لوحات إيطالية
على أن المشترك بين الجهتين هو إيمانهما بالغيبيات وصراعهما حولها، فالشمال يؤمن بوجود سر ديني مدفون في منطقة جنوبية ويسعى إلى الحصول عليه بأساليب ملتوية، والجنوب يؤمن بوجود سر تحت ترابه ويسعى إلى المحافظة عليه بأساليب مختلفة. والمفارق أن كليهما لا يعرف ماهية هذا السر. والمشترك الثاني بين الجهتين هو انخراطهما في صراعات داخلية، فشخوص الشمال يمارسون الخداع والتآمر والكيد والوشاية وتلفيق التهم والقتل في ما بينهم. وشخوص الجنوب يمارسون الغزو والثأر والحرق والكيد والانتقام والقتل في ما بينهم. وبذلك، يتشابه طرفا الصراع في ما يؤمنان به من غيبيات، وفي ما ينخرطان فيه من سلوكات يدفعان دونها أثماناً غالية.
مصائر قاتمة
وحسبنا أن نشير في هذا السياق إلى أن الصراع بين الشمال والجنوب في “درب الريش” لا يتوصل إلى جلاء السر المكنون. وينجلي، على مستوى الشمال، عن مقتل الكولونيل يونوتا والمفتش لومبروزو بقنبلة يفجرها الأخير انتقاماً، ومقتل لورينزو في غار على رأس الجبل، ورمي لويجي بنفسه في الهاوية، واعتقال فرنشيسكو في سجن طبرق، ومقتل ماركو بغاز الخردل في قرية حبشية. وينجلي، على مستوى الجنوب، عن موت المبروك والسحار في الغار احتراقاً بالوقود، ومقتل الأعور بعد إصابته في الجنوب القبلي، ومقتل ميلود بانفجار برميل غاز، واختفاء عوض وحميد في عين العاصفة، وإعدام الفتى محمد وذي الشوارب في سجن طبرق. ناهيك بعشرات الضحايا الذين سقطوا من الجانبين. وهكذا، هذه النهايات هي نتائج طبيعية للمقدمات والمجريات التي أفضت إليها. وإذا كان ثمة رسالة يريد علاء الدرسي إيصالها من خلال روايته، فهي عبثية الصراع بين الشمال والجنوب من جهة، ومغبة الصراع الداخلي من جهة ثانية، وخطورة توظيف الدين في الصراعات المختلفة من جهة ثالثة.
أسئلة كثيرة تطرحها “درب الريش” على هامش السؤال المحوري، من قبيل النزوع الاستعماري والصراع الحضاري والتدخل العسكري والتعصب الديني والتمييز العنصري والحقد التاريخي، والنزاع القبلي وغيرها. وهي أسئلة تمنح الرواية راهنيتها وتوهم بواقعيتها وإن يممت أحياناً شطر نوع من الواقعية السحرية. هذه الأسئلة وطريقة طرحها في المتن الروائي، وقدرة الكاتب على الإمساك بمجموعة كبيرة من الخيوط السردية وتحريكها وفق مقتضيات روائية، ورشاقته في الانتقال بينها ونفسه الطويل في الكتابة وسلاسته في التعبير، تجعل من “درب الريش” رواية مهمة.