ثمة هويات يولد بها الإنسان، وأخرى يُلقَّنها أو يختارها لاحقًا. حين نقول: رجل، امرأة، طفل، إنسان أسود، أبيض، صيني، كوردي، أرمني… فإننا نشير إلى هويات طبيعية، تفرض فروقًا حقيقية بين البشر، مصدرها الجغرافيا، المناخ، الوراثة، وحتى نوع الغذاء المتاح. ورغم أن هذه الفروقات قد تؤثر على نمط الحياة، إلا أنها ليست أفكارًا سياسية في جوهرها. فالقومية مثلًا، وإن كانت تعبيرًا عن هوية جماعية، لا تُعد فكرًا سياسيًا بحد ذاتها. في المقابل، تُعتبر مفاهيم كالحرية، النسوية، الاستقلال ، المساواة، والعدالة، أفكارًا سياسية تتطلب الوعي، والممارسة، والنضال لإنصاف أصحاب هذه الهويات.
أما المفاهيم الدينية والمذهبية كـ: مسلم، مسيحي، شيعي، سنّي، بوذي، حنفي، شافعي، وغيرها، فهي لا تعبّر عن فروق حقيقية بين البشر. بل تُعبّر غالبًا عن حالة ذهنية مؤقتة يمكن أن تتبدل بسهولة. فبإمكان المرء أن يغيّر معتقده الديني أو الطائفي أكثر من مرة في اليوم دون أن يلحظ أحد ذلك. هذه المفاهيم الطارئة، المتبدلة، لا تبرر بأي حالٍ من الأحوال كل هذا الشر والعنف الذي يُرتكب باسمها. إنها تصنيفات سطحية وتخيلية، ومع ذلك تسببت — ولا تزال — في حروب وصراعات مدمّرة. واللافت أن الكثير من هذه التصنيفات ظهرت واختفت في الماضي دون أن تترك أثرًا يُذكر.
كذلك الأمر بالنسبة للاتجاهات الفكرية مثل: اليسارية، المحافظة، الليبرالية، أو البيئية؛ فهي تعبير عن قناعات ذهنية، لكنها — بخلاف المفاهيم الدينية — تشكل فكرًا سياسيًا عمليًا، يمكن قياس نتائجه من خلال أثره الاقتصادي والاجتماعي والبيئي. إذا أسهمت هذه التيارات في تحسين الواقع المعيشي والصحي، فهي تستحق أن تُدرج في إطار الفكر النافع.
السياسة، في جوهرها، ليست سوى تأطير للفلسفة وتوجيه لها نحو التطبيق. رغم أن “الجمهورية الفاضلة” تظل حلمًا طوباويًا، إلا أن بعض أفكارها قابلة للتنفيذ داخل الأطر المؤسساتية. فالاقتصاد، في النهاية، ليس إلا نتيجة مباشرة للسياسات المطبقة، والإمكانات التي تتيحها هذه السياسات. وبهذا المعنى، يمكن القول إن الاقتصاد هو ابنة السياسة، والسياسة ابنة الفلسفة.
أما الدين، فهو ليس سياسة، بل منظومة من التصورات المتخيلة، والقصص الرمزية، والأساطير. وعندما يُفرض الدين على الواقع كمشروع سياسي فإن ذلك لا ينتج اقتصادا، لا بل النتيجة تكون كارثية. يكفي أن تصل جماعة صغيرة من المتطرفين إلى بقعة متقدمة من العالم — من حيث الديمقراطية والرفاه- حتى يحولوها إلى صحراء قاحلة لا يقتات فيها سوى الجراد.
فولتير: “من يمكنه أن يجعلك تؤمن بالخرافات، يمكنه أن يجعلك ترتكب الفظاعات”. وهذه المقولة، في رأيي، تُعد ثاني أعمق مقولة قيلت في التاريخ، بعد المثل الإيزيدي الشهير.
الإطار الأخلاقي والقانوني: بحسب سيغموند فرويد، هناك أربع غرائز تحرّك الإنسان: حب التملّك، التزاوج، الطعام، والسلطة. وتأسيس الحضارة لا يكون إلا عبر تأطير هذه الغرائز بالأخلاق والمبادئ والقانون، وهو ما يُعرف بـ”التسامي”. فالثراء يجب أن يُكتسب بشرف، والوصول إلى السلطة ينبغي أن يكون عبر الانتخابات. أما حين تُلبّى هذه الرغبات بطرق بربرية غير أخلاقية، فإن النتيجة تكون انهيارًا في بنية المجتمع والحضارة، وعودةً إلى البربرية.
الإسلام يدّعي أنه جاء ليُتمم مكارم الأخلاق، لكن التطبيق العملي لا يثبت ذلك. مثلا في ثمانين دولة إسلامية لا توجد قرية واحدة تجذبك للعيش فيها ولو لمدة شهر فقط. وكذلك يكفي أن تنتقل أقلية متطرفة إلى بلد متقدم حتى تنجح — خلال زمن قصير — في إفساد منظومته، وزرع الخوف، وتقويض مؤسساته. وما من دليل أوضح من تجارب شهدها العالم المعاصر.