تعهَّد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بمنع إيران من الحصول على سلاح نووي. ليس من شكوك في ذلك، ولكن كيف؟ هل من خلال الاتفاق مع الإيرانيين على تفكيك برنامجهم النووي وتدميره بالكامل، أم تخفيض نسبة التخصيب بحدود ضمان سلمية المشروع ومراقبته بدقة وجدية لضمان عدم عسكرته؟ الخيار الثاني يعني باختصار الذهاب إلى نسخة معدَّلة من الاتفاق الذي وقعته إدارة باراك أوباما في العام 2015، وانسحب منه ترامب لاحقًا عام 2018، ووصفه حينها بـ«المعيب بشكل قاتل».
سلوك هذا الدرب، ترهيباً أو ترغيباً، يعني في نهاية المطاف أن البرنامج باقٍ، إنما بشروط أفضل تفرضها موازين القوى الراهنة، حيث إن طهران لا تملك أوراق القوة نفسها التي كانت بيدها في مفاوضات 2015، حين نجحت في انتزاع «اتفاق هش» بآليات مراقبته وضبطه، وهو ما خوَّلها المناورة واستمرار العمل بشكل سريّ ببرنامجها العسكري حتى قبل أن ينسحب منه ترامب.
في واقع الأمر، ثمة قناعة راسخة بأن الهدف الحقيقي للجمهورية الإسلامية الإيرانية ولمرشدها الأعلى هو أن تصبح إيران دولة نووية، وأن تمتلك قنبلةً وسلاحاً نووياً، وهي الوسيلة الوحيدة التي تعتقد أنها تستطيع من خلالها تأمين نظامها وتحقيق طموحاتها الكبرى من حيث الدور والموقع والنفوذ والتمدُّد العقائدي. وكل كلام عن فتوى المرشد بحظر صناعة الأسلحة النووية من الناحية القانونية والأخلاقية والدينية والإسلامية كضمانة لسلمية البرنامج لا يعدو كونه ذرًا للرماد في العيون، و«تقيّة» يُتقنها ببراعة «حائك السجاد».
سيكون هناك فارق كبير بين عدم وصول إيران إلى صناعة قنبلة إيرانية بقرار منها وبين أن يكون ذلك محققاً نتيجة عدم قدرتها على التخصيب. ما يهم إيران، التي تسمع رسائل متناقضة، هو ألاّ تُقدِّم الولايات المتحدة مطالب غير واقعية، ومن بينها وقف إيران تخصيب اليورانيوم بالكامل؛ فوزير الخارجية عباس عراقجي – الذي يرأس الوفد المفاوض – يرى أن الاتفاق ممكن مع واشنطن إن كان برنامج التخصيب سيستمر. هذه نقطة انتصار لإيران، فالرهان على الوقت وما قد يحمله من تبدلات في المشهدَين الدولي والإقليمي وقدرتها على تمرير السنوات الأربع من ولاية ترامب، هي سياسة الصبر الاستراتيجي التي تنتهجها إيران، ولكنها فقط لتجاوز قطوع المخاطر التي تُهدِّد نظامها راهناً، ومن ثم العودة إلى تحقيق الهدف المُعلَن – المُضمّر، وهو «السلاح النووي».
على المقلب الآخر، تبدو التصريحات الأمريكية متناقضة جداً، بدءًا من الرئيس وصولاً إلى مبعوثه ستيف ويتكوف الذي يرأس وفد التفاوض. فبحسب تقديرات للمدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية أن «مخزون اليورانيوم، المخصَّب بنسبة 60 في المئة لدى إيران، يُمكِّنها من صنع سبع قنابل نووية». ويتكوف يريد خطوات سريعة لمنع الخطر الداهم من توصل إيران إلى صنع قنبلتها النووية، وتلك الخطوات تتمثل بـ«تخفيف تخصيب» مخزون اليورانيوم المخصَّب بنسبة 60 في المئة، غير أنه لم يستبعد امكانية استمرار التخصيب بنسبة 3.67 في المئة للأغراض السلمية، مُركِّزاً على «أن أي اتفاق نووي يجب أن يتضمن تدقيقًا لمستويات التخصيب، وأن تمتنع إيران عن تطوير صواريخ باليستية قادرة على حمل رؤوس نووية ومكونات تفجير القنابل الذرية». وبعد الانتقادات من «البيت الجمهوري»، عاد ليوضح عبر منصة «إكس» أن «أي اتفاق نهائي يجب أن يضع إطارًا للسلام والاستقرار والازدهار في الشرق الأوسط، ما يعني أن على إيران تفكيك برنامجها النووي والتسليحي وإيقافه بالكامل». ترامب نفسه يُعلن الشيء ونقيضه. اعتماد سياسة الغموض والرسائل المتناقضة واحدة من الأساليب المعتمدة في المفاوضات والتي يُحبِّها «رجل العقارات»، ولكنَّ مسؤولاً أمريكياً مطلعاً على النقاشات داخل فريق ترامب قال لموقع «إكسيوس» الأمريكي إن «السياسة تجاه إيران ليست واضحة تمامًا لأنها لا تزال قيد التشكُّل، وأن الأمر معقَّد لأنه ملف سياسي حسَّاس للغاية».
حتى الساعة، يُقدِّم «سيِّد البيت الأبيض» خيار الدبلوماسية على العمل العسكري. وهذا أمر مفهوم، إنما من أجل أي هدف؟ هل من أجل إقناع إيران بتفكيك برنامجها النووي بالكامل مقابل رفع العقوبات عنها وإعادة دمجها في النظام العالمي وإنهاء سياسة عزلها، بما يضمن حماية نظامها ويُعيد إنعاش اقتصادها، أم أنه سيقبل ببقاء برنامجها الذي تقول طهران إنه سلميّ؟ هو قال في آخر تصريحاته: «أنا مع منع إيران، بكل تأكيد، من امتلاك سلاح نووي. لا يمكنهم امتلاك سلاح نووي. أريد أن تكون إيران عظيمة ومزدهرة ورائعة».
صقور إدارة ترامب، ومعهم رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، يدفعون باتجاه التفكيك الكامل للبرنامج النووي، بحيث تفقد إيران القدرات التي تسمح لها بالذهاب يوماً ما إلى عسكرة برنامجها، ولا سيما أن لا ثقة بنظامها وبنواياها. وإذا لم تمتثل لذلك طواعية، فسيكون الاتجاه إلى ضربة أمريكية أو إسرائيلية بمساعدة أمريكية. فـ»الصقور» يرون أن الفرصة اليوم سانحة لأنها في حالة ضعف أكثر من أي وقت مضى، وأن الولايات المتحدة ليست في موقع الاضطرار إلى المساومة وتقديم التنازلات.
في حقيقة الأمر، الصورة ضبابية، لكن ما يجري من تحضيرات على الأرض ومن تحرُّك دبلوماسي مكثَّف باتجاه إيران من موفدين ورسائل ولا سيما من دول الجوار، وآخرها رسالة العاهل السعودي الملك سلمان وولي عهده والتي نقلها وزير الدفاع الأمير خالد، ابن الملك، إلى المرشد الأعلى للجمهورية علي خامنئي، تشي بأن المنطقة تسابق قدرها، ولا سيما أن مراقبين يرون أن هدف الرسالة السعودية يعكس سعي الرياض إلى تحييد نفسها عن لهيب العاصفة المنتظَرة في الصيف الحار.