ملخص
صدر حديثاً في باريس بعنوان “صديق العائلة: ذكريات عن بيار بورديو” (2025 – دار “جوليار”)، وفيه يكتب دنيس بوداليديس سيرة جديدة للباحث السوسويولوجي الكبير، ويقدم مقاربة معرفية لنصوصه الفكرية.
عام 1983، في ثانوية هنري الرابع في باريس، تعرف دنيس بوداليديس إلى إيمانويل بورديو، الابن الأصغر لعالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو (1930-2002)، أحد أبرز الفاعلين في الحياة الثقافية والفكرية في فرنسا، وأحد أبرز المراجع العالمية في علم الاجتماع المعاصر، فنشأت بين الشابين صداقة متينة سمحت لمن أصبح اليوم كاتباً ومخرجاً وممثلاً سينمائياً ومسرحياً بارزاً الدخول في المدار الإنساني لهذا المفكر الكبير.
يستعيد بوداليديس في كتابه الجميل الذي صدر حديثاً في باريس عن دار “جوليار” بعنوان “صديق العائلة: ذكريات عن بيير بورديو” (2025) صداقته مع إيمانويل بورديو من خلال الأماكن والأشياء والقراءات والنشاطات التي رافقت نهاية مرحلة المراهقة والدخول في سن الرشد والتأسيس لحياة أخرى، مؤكداً أن تلك الصداقة كانت ملاذاً محورياً ونقطة انطلاق نحو المستقبل بفضل تعرفه إلى والد صديقه، عنيت المفكر بيير بورديو.
سيرة بيار بورديو الجديدة (دار جوليار)
لا يسرد بوداليديس في هذا الكتاب سيرة بورديو الذي كان لفكره بالغ الأثر في العلوم الإنسانية والاجتماعية منذ منتصف الستينيات من القرن الـ 20، ولا يستعيد كذلك ذكرياته ويومياته معه والفضاء الاجتماعي المحيط به، بقدر ما يمثل كتابه أيضاً مدخلاً حياً إلى أعمال عالِم الاجتماع، راوياً كيف أن رفقة مؤلف “بؤس العالم” و”الرمز والسلطة” و”التلفزيون وآليات التلاعب بالعقول” و”التمييز – التميز، النقد الاجتماعي لِحُكم الذوق” وسواها، ساعدته في تجاوز تصدعاته الداخلية، وعلى أن يجد لنفسه مكاناً في “مسرحه الداخلي الصغير”، ولو تحدث عن قضائه فترة العطلات المدرسية في منزل عائلة بورديو الريفي في منطقة البيارن بإقليم الباسك الواقع جنوب غربي فرنسا، وجعلِه هذه العائلة في الفترة ما بين الـ 20 والـ 30 من عمره عائلته الثانية.
الصداقة والسينما
وعلى رغم صداقته الوثيقة بابن بورديو وعمله السينمائي الذي بدأه كاتب سيناريو، لكن تركيز بوداليديس في هذا الكتاب انصب على بيير بورديو نفسه وعلى العلاقة المعقدة التي نشأت بينهما والتي جمعت بين الإعجاب والمهابة، راسماً في لعبة مرايا مزدوجة صورة لعالِم الاجتماع كأب ومفكر وعامل، ولنفسه كطالب مفتون بشخصية ومعارف والد صديقه ومكانته العلمية بعدما انغمس في كتاباته، كما يفعل الممثل مع شخصية يحاول فهمها أو فهم نفسه من خلالها، علماً أن إيمانويل، ابن بورديو، الشغوف بالموسيقى والأدب، لم يكن يتحدث عن والده ولم يتفاخر به أبداً أمام زملاء الدراسة، وأن الصداقة التي جمعت بينه وبين دنيس ظلت مستمرة حتى اليوم.
ولد هذا الكتاب على ما يقول بوداليديس من اكتشاف صورة له وهو في الـ 20 من عمره اُلتقطت في حديقة منزل آل بورديو، وكانت في ماديتها ودلالتها مناسبة للعودة لبورديو والتأمل أيضاً فيما مثله للشاب الذي كانه حينها.
يكتب بوداليديس قائلاً “ليست لدي ذكرى أولى مدهشة أو مهيبة ترسم ملامح لقائي ببورديو، أكان ذلك في تلك الأمسية أم في مناسبة أخرى؟ أشعر بالإحساس ذاته حين أستعيد تلك الأعوام، من 1983 إلى تسعينيات القرن الماضي تقريباً حين عشت مع تلك العائلة، إنها طبقة غريبة من الذكريات المتساوية، ومزيج من الصداقة واللامبالاة، كما لو أن سحراً غلف تلك الفترة وجعلني أُضفي عليها طابعاً مثالياً”.
ولقد كان لفكر بورديو الأستاذ في “الكوليج دو فرانس” وخريج “مدرسة المعلمين العليا” دور أساس في التكوين الفكري للممثل في فرقة “الكوميدي فرانسيز” الذي درس قبلاً الفلسفة، حتى إنه فكر أن يُدرسها، ويتردد بوداليديس في بداية كتابه متعثراً عند عتبة النص وغير قادر على تحديد اليوم أو الظروف الدقيقة لأول لقاء جمعه بوالد صديقه، لكن قلمه ما يلبث أن ينساب فتفيض قريحته تدرجياً وهو يتذكر شقة بورديو الدافئة في باريس، أو العطل الصيفية التي قضاها في المنزل الريفي في مسقط رأس الفيلسوف، ابن ساعي البريد البسيط، الذي يعود الفضل في دخوله إلى “ثانوية لويس لوغران” الباريسية لمدير مدرسته آنذاك الذي لفته تفوق بيير، فشجعه على التسجيل في الأقسام التحضيرية في الثانوية العريقة بغية التقدم لمباراة الدخول إلى المدرسة العليا للمعلمين، لكن ما إن يشعر الممثل براحة أكبر حتى يُدرك القارئ أنه على وشك تقديم خدعة سردية مذهلة، والتحدي واضح، فكيف يمكن وصف شخص يتفلت دوماً من التحديد؟ وبأية وسيلة يمكن التحدث عن مسرى حياة رجل لطالما رفض الشهرة والاحتفاء؟
مفهوم جوهري
يلجأ بوداليديس في كتابه إلى خدعة من خلال استدعائه علم السوسيولوجيا، فهو لا يكتب عن شخصية عادية بل عن واضع مفهوم جوهري في العلوم الإنسانية، عنيت مفهوم الـ “هابيتوس” الذي شرح بورديو من خلاله كيف أن سلوكياتنا المختلفة وأذواقنا وممارساتنا وميولنا ولغتنا تعكس خلفياتنا الاجتماعية دون وعي منا، فبحسب موقعنا على خريطة رأس المال الاقتصادي (الثروة) والثقافي (المعرفة)، غالباً ما نتصرف بشكل يمكن التنبؤ به، لكن بورديو المدرك لهذه النماذج النظرية كان دائم الخشية أن يكون سلوكه هو نفسه متوقعاً، فهو واضع كتاب بعنوان “مسودة من أجل تحليل ذاتي” الذي “لا يُعد سيرة ذاتية”، غير أنه أفصح فيه عن شخصيته من خلال عبارة كان يرددها كثيراً “دون تكلف وتعقيد”.
كان بورديو يحب المزاح والسخرية، ولم يكن يظهر بمظهر العالِم الوقور بل كان متواضعاً طيب المعشر، ومن هنا جاء تردده في أن يصبح شخصية أكاديمية نافذة وأستاذاً متسلطاً، ورفضه فرض آرائه وخياراته على أولاده، ولعب لعبة الإعلام في تغطية التظاهرات التي عمت فرنسا في ديسمبر (كانون الأول) عام 1995 إبان عهد الرئيس جاك شيراك، عندما خرج مئات آلاف المواطنين في تظاهرات وإضرابات عمت البلاد احتجاجاً على خطة كانت تقضي بإصلاح نظام التأمين الصحي والاجتماعي وإصلاح نظام التقاعد، أو حتى تحفظه عن الظهور في فيلم لجان-لوك غودار في مشهد عبثي يقرأ فيه رسالة من أب “الموجة الجديدة” في السينما الفرنسية، وهو يضحك قائلاً “لا أفهم شيئاً مما كُتب” وهو مشهد خلده بيير كارل في الفيلم الوثائقي “السوسيولوجيا رياضة قتالية”.
“بؤس العالم” لبيار بورديو: الجزائر غيرتني!
هل يفقد علم الاجتماع ثوابته في مهب الثورة الرقمية؟
ولم يكتف بوداليديس بأن يكون ساحراً بل سرعان ما تحول في هذا الكتاب إلى مروج حكايات، إذ تجعله ذاكرته يصور عائلة بورديو كعائلة أرستقراطية على درجة من الجمال والرياضة والتميز، فأبناء بورديو الثلاثة رياضيون بارعون وكلهم من خريجي المدرسة العليا للمعلمين، لكن كل هذا غير دقيق ولا يعكس بوضوح مشروع بوداليديس الحقيقي، وهو أنه يتطلع إلى تبيان صورته وإيضاح مسيرته الشخصية مسقطاً ضوء السوسيولوجيا على مسرى حياته، فدنيس بوداليديس يقف عند تقاطع “هابيتوس” بورجوازي كبير، (أم من عائلة مرموقة في فرساي)، و”هابيتوس” بورجوازي صغير(أب فقير من الفرنسيين الجزائريين أو “الأقدام السود” الذين نزحوا عن الجزائر خلال الأشهر التي تلت اتفاقات “إيفيان”)، وهو في تأرجحه بين البورجوازيتين عاش في تذبذب وعدم ارتياح دائم أخفاهما باللجوء إلى العائلة التي اختارها لنفسه، عنيت عائلة بورديو، وظل بوداليديس لفترة طويلة على ما يقول في هذا الكتاب متردداً بين طموحين، الطموح الأكاديمي وحلم المسرح، حتى إنه شبه نفسه بشخصية ديلورييه المتردد والمحبط في رواية “التربية العاطفية” لغوستاف فلوبير.
وليست صدفة أن بورديو الذي صُنف كتابه “التمييز- التميز، نقد اجتماعي لحُكم الذوق” الصادر عام 1979 كسادس أهم عمل في علم الاجتماع خلال القرن الـ 20، كان يحب عبارة فلوبير “أن تقف في وجه الواقع وتكتبه”، وهو الذي نشر نصاً بعنوان “درس في الدرس” كان محور محاضرة افتتح بها دروسه عام 1982 في الكوليج دو فرانس، تلاقى فيها مع عبقري الأدب فلوبير في حب “الرواية داخل الرواية”.
وفي الختام يشير بوداليديس إلى كتاب بورديو الصادر عام 1992 والذي يتناول فيه نشأة الإبداع الفني خلال القرن الـ 19، وهو عبارة عن مجموعة محاضرات حول فن إدوار مانيه ألقاها بورديو أيضاً في الكوليج دو فرانس بين عامي 1999 و2000، وفيه يفحص العالِم الاجتماعي كيف أصبح الفن عالماً مستقلاً أو على حد تعبير بورديو، “مجالاً مستقلاً” في المقام الأول، وكيف انتقلت الجمالية التي نعرفها باسم الحداثة من موقع هامشي إلى وضع قانوني، مجادلاً بأن مسيرة مانيه كانت بمثابة المحفز لـ “ثورة رمزية” في إنتاج الفنون التشكيلية ونظرة الناس إليها وتفسيرهم لها.
ومن اللافت أن كتاب بورديو هذا يتضمن تعليقاً على التعبير الغامض الذي يظهر على وجه النادلة في لوحة مانيه “حانة الفولي بيرجير”، وهي اللوحة التي تصدرت أخيراً رواية الكاتبة البريطانية كلوي أشبي “طلاء طازج”، والتي تتخذ بطلتها من هذه اللوحة كاتماً لأسرارها ناعتاً إياه بـ “حضور الفراغ”.
كان بورديو يسعى دوماً إلى كشف ما يختبئ وراء التعابير والكلمات، أما كلمات بوداليديس في “صديق العائلة، ذكريات عن بيير بورديو”، وإن ألقت الضوء على مسرى حياة بوداليديس نفسه وحياة بورديو، لكنها أبقت الباب مفتوحاً أمام مزيد من الكتابات الساعية إلى فهم شخصية عالِم الاجتماع.