يتابع محمد أبي سمرا ما يحلّ بالبشر الذين أجلتهم الحرب عن أماكن عيشهم. وهؤلاء متنوّعون، بين أن يكونوا من سكان حارة حريك، التي أُخرج ساكنوها، أو أن تكون الحرب قد أنزلت غيرهم فيها، أو حتى أن يجري تجميعهم، غرباء عن بعضهم بعضا، في معتقل إسرائيلي. هي سير فردية يرويها هؤلاء بألسنتهم بعد أن يعرّفهم مؤلّف كتابهم بذكر القليل عنهم. وهؤلاء الرواة كثيرون ومتعدّدون يذهب إليهم مؤلّف سيَرِهم إلى حيث هم في كسروان مثلا، التي لجأوا إليها من حارة حريك، أو من المريجة، ملاحقا شهاداتهم، بل عاقدا صلات بهم مثلما قرأنا عن رفقته لذاك الشاب المنتمي إلى عصابة زعران، تشكّلت من تلاميذ هاربين من مدارسهم. هؤلاء المصرّحون بما عاشوه، سواء كانوا من ضحايا الحرب، مثل الأختين المقيمتين معا واللتين أوقفهما الجندي السوري متحرّشا بهما، أو كانوا المعتدين على الضحايا مثل الشاب الأزعر وباقي أفراد عصابته، يظهرون قريبين إلى من يقرأهم لأنهم هم الذين أعطوا سلطة الكلام، ومن المعروف أن مَن يُطلب إليه أن يحكي سيرته سيجد لنفسه أعذارا عن كل ما ألمّ به أو ما قام بفعله.
إذن يلاحق محمد أبي سمرا ضحايا الحروب، وبعض زعرانها، بأن يجلس مصغيا إلى ما يرويه هؤلاء. لم يترك منطقة ضربتها الحرب إلا وقصدها حاملا قلمه وأوراقه. مروحة شاسعة شملت من اختارهم وفتح لهم صفحاته، تبدأ من الأبعدين الذين قصدهم من دون سابق معرفة، وتعود إلى الأقربين الذي هم أفراد من عائلته مثل الأب والأم والأخوات. كما أنه لم يغفل عن أن يكون هو نفسه واحدا من هؤلاء، وقد افتتح بسيرته الشخصيّة فصول الكتاب، جاعلا نفسه واحدا من مستجوَبيه.
ما تبدأ به فصول الكتاب، شهادات من ساكني حارة حريك التي كانت منطقة أليفة لأهلها قبل أن تداهمها الحرب التي بدأت بترحيلهم عنها إلى مناطق أخرى. ذلك الإنتقال حدث متدرّجا بالطبع، حيث بدا لنا، مع أول من التقاهم الكاتب، أننا إزاء النازح الأول الذي تبعه الآخرون حاذين حذوه. هؤلاء، بعد وصولهم إلى مستقرات آمنة في كسروان، أحسّوا بفقدهم لمنازلهم. «لم يطب لي المقام بين أهل كسروان، ولا انسجمت معهم، كأنني بقيت غريبا في ديارهم»، يقول أحد هؤلاء النازحين واصفا قسوة اللهجة الجبلية وخشونتها، ويتعدى الكلام إلى المناطق ووصف ما مرّ به أهلها، إذ يولي الكاتب اهتماما موازيا للأمكنة نفسها، فها هو يعيد بناء خريطة أنحاء كثيرة من لبنان على أنقاض خريطة أخرى سبقت، أي قبل أن تصير تلك القرى (حسب تعريفات سابقة لها مثل قرية برج البراجنة أو قرية المريجة) مناطق تتفرّع أسماؤها تحت اسم واحد هو «الضاحية الجنوبية».
تتكثّف أعداد الساكنين النازحين من الجنوب، وقد أرهقتهم القذائف والغزوات الإسرائيلية، محوّلين الضاحية، وهي العالم القروي إلى مكان يغصّ باللاجئين إليه. لم يعد من وجود للبساتين التي كانت تفصل بين البيوت المتناثرة. منطقتا الرمل العالي والرمل الواطي، وكانتا أشبه بمدى من السهول الرملية، لم تلبثا أن غصّتا هي أيضا بالسكان وبالبيوت التي بدأت بإعمارها العشائر والعائلات النافذة.
يتابع الكاتب كل تلك التحولات، كما يتابع منشأَ الجماعات القادمة ووجهة الجماعة المغادرة منها.
نقرأ إذن كيف تُبنى، تحت وطأة الاضطرار، مناطق الازدحام وبأيّ سرعة، وكيف تتغير العلاقات بين البشر تبعا لانتقالاتهم. ولكي يبقينا محمد أبي سمرا قريبين من المناطق التي يصفها يمعن في تعيين أسماء الأمكنة. لا يذكر مكانا إلا ويعلّق عليه اسمه. طلاب المدارس البائسة والمنهكة على سبيل المثال «يلتقون حيث تعوّدوا الجلوس قبالة الشارع بين جسر المطار والسفارة الكويتية، على ذاك الجدار الذي يسمّونه الحافة»، أما مدرستهم فهي تكميلية الغبيري القريبة من روضة الشهيدين. لا غاية، بل لا ضرورة لذاك التعيين إلا رغبة الكاتب بأن يضيف، إلى تغيّر المعالم الجغرافية، تغيّر ما صارت تعنيه الأسماء بعد تبدّل النازلين فيها.
في الكتاب رسم تفصيلي للتبدّل العمراني والسكاني للبنان ولعاصمته، وما نشأ على حدود تلك العاصمة. مناطق كاملة بينها، إضافة إلى الضاحية، ما عرفته منطقة الخندق الغميق، وتشكلّها مع تعاقب الهجرات إليها بدءا من النزول الأول، في سنوات ما قبل الحرب، للاجئين إليها. أما البشر، أولئك الذين غادروا، أو الذين حلّوا محلهم فبائسون كلهم يعانون الذل والمهانة واليتم، وهي الصفات التي لا يتوقّف محمد أبي سمرا ذكرها وتكرارها في الكتاب.
كتاب محمد أبي سمرا «لعنة لبنان» صدر عن دار رياض الريّس للنشر في 358 صفحة- سنة 2025.
كاتب لبناني