أعودُ إلى مقعد الدراسة، وأستمع لأستاذ العلوم وهو يتحدّث عن دورة الحياة عند بعض الحيوانات، أسأله: «هل يعلمون أنّ حياتهم قصيرة؟»، يعبس الأستاذ لأنه لا يحبذ مقاطعته أو الأسئلة غير المتعلقة بالوظائف والامتحانات، يجيبني بأنّ الحيوانات لا يفكرون مثلنا، وعلى الرغم مما يَرِدُ في الفقرة الأخيرة من الدرس عن أثر التلوث البيئي الذي يتسبب به البشر على حياتهم، إلا أنّهم يعيشون مدة كافية ليقوموا بدورهم الطبيعي، وهو أن يتكاثروا لضمان استمرار نوعهم ونوعنا أيضاً. وقتها لم أدرك المعاني الخفية وراء إجابته ولكنني استقبحتُها، وكذلك أفعال الإنسان الذي يستغل سنوات حياته الطويلة وإدراكه في قتلهم.
*****
ينتظر السوريون في لبنان بضعة أسابيع، وربما أشهر، قبل أن يسألوا الشخص القادم من سوريا حديثاً عن أي شيء: أسبابه وخططه الحياتية، عن الأهل والأصدقاء، الناس وأوضاعهم، الشوارع والبيوت. وهذا تقليد سائد فيما بينهم، يمنحونه وقتاً ليتأقلم مع الحياة خارجها، وكأنه قد طار بعيداً عن قفص كبير، لم أكن أُدرك مقدار الضرر الذي حلّ بي، كنت أقول «سوريا!» ثم أنكمش «ماذا تريدني أن أحكي لك؟».
لم أغادر سوريا إلى لبنان باختياري؛ طردني المكان. حاولتُ أن أحبها حتى نخرت عظامي، وأصبحت التهاباً عطّلَ أجزائي إلى الأبد، شُلّت عضلات وجهي فلم يعد من السهل التمييز بين تجهُّمي وابتسامتي، كنت أعيش مع نوبات الفزع والقلق، وأسمع كلماتي وكأنّها سيلٌ من الهذيان تقاطعه التأتأة. ويعتصر قلبي كلما تذكرت مكاناً أو حدثاً.
أذكر رحلتي الأولى في لبنان إلى جبيل، وصلنا دون تعب، وذُهلتُ بأننا سندفع الكثير رسوماً للدخول مقارنة بسوريا، لكنني عوملت كضيفة، لقد كانوا سعداء حقاً بقدومي أخيراً، هذا الاستقبال يخفف شعورهم بالذنب تجاه رفاقهم في الداخل وغربتهم، وصلت إلى الشاطئ ورميت أغراضي فوراً، ثم نزلت إلى الماء، سبحت كثيراً حتى غاب الشاطئ عن ناظري تماماً، وبذلتُ جهداً كبيراً لأنظّم أنفاسي. تأمّلتُ المشهد أمامي، بدت السماء وكأنها اتحدت مع مياه البحر، واختلطت زرقتهما بنُتَف حمراء تتركها الشمس وراءها وهي تغيب، تخيلت أن كل ما أعرفه ينتظرني على الشاطئ، وأردت أن أترك كل شيء خلفي وأغرق.
عدت إلى الشاطئ ورميت جسدي على الأرض، ارتخت أعضائي كلها، غرزت أصابع يدي في الرمال الساخنة، ثم سال المخاط من أنفي إلى فمي، لم يكن المخاط مالحاً وحاراً كالدموع وبقايا مياه البحر التي اختلط بها، بكيت لوقت طويل.
كنتُ متعبة وكأنني استيقظتُ من حلم عظيم وغريب سأحمله في ذاكرتي أبداً. وبدأت الأسئلة بالتوارد إلى رأسي المشتت: أين أنا؟ من أنا؟ لم يصمد شعوري بالضيق أمام البحر؛ تفتّتت مخاوفي وأحزاني على الصخور والحصى الصغيرة، التي تلونت بمشاعري وذكرياتي، ثم سحبتها المياه مع مدها وجزرها.
كيف يمكن للمدن أن تُعيد تشكيلك وترتيبك؟ ماذا لو جئتها ممزقاً من داخلك حتى جلدك؟ كيف لها أن تعالج جراحك أنت؟ ماذا تعرف عنها قبل أن تعيش فيها سوى ما حفظته عن ظهر قلب في كتب الجغرافيا: أهمية موقعها الجغرافي، تربتها، المحاصيل التي تناسبها، وتعداد سكانها إذ لم يُهجّروا ويُقتلوا. ولكن، عندما تعيش في هذه المدن وتلتحم معها، تعلق رائحتها بك، تشبهها، تتألم معها، تؤلمك خسارتها.
وعلى الرغم من أن رفاقي أكدوا لي أنَّ الأوضاع في لبنان ليست مختلفة كثيراً، ولكن المسافة سمحت لي بالاعتراف بما انتُزِعَ مني، وبأننا ملعونون بذاكرة معطوبة، انطفأ فيها الكثير من اللحظات الجميلة.
*****
اللحظات الأخيرة من تركك لمكان ما هي الأصعب، عندما تفرغهُ تماماً وتملأه أشعة الشمس. تدرك أنه كان بإمكانك أن تكون أكثر سعادة؛ لو انتبهت مبكراً إلى خيط الضوء المنبعث من الشبّاك، كنت ستصبح صديقَه. تنقلتُ كثيراً بين بيوت تناسب ظروفي المادية وتشبه روحي، شقق صغيرة مشتركة، وجدران رطبة، شبّاك يطل على اللاشيء، وإضاءة خافتة وغريبة. أما بيتي الأخير في بيروت، فكان جميلاً، تنبعث منه رائحة عطرة على الدوام، ملأته بأحواض النعنع والحبق، وشتلة فليفلة واحدة تعطيني ثمارها باستمرار لكنني لا أكلها. رتبته وعشتُ به وكأننا سنشيخ سوياً. بدأت حياتي، ومع كل نفس آخذه كنت اكتشف شيئاً جديداً، ولأن حواسي استيقظت من ثباتها واتّقدت، هجرت خوفي من الحياة، وأحببت.
مشينا سوياً في بدارو حتى ساعة متأخرة من الليل، تحدثنا عن العلاقات والاستقرار والسياسة، ومشاعرنا تجاه الثورة في سوريا، وأسوأ ما سمعناه وتلفظنا به حينها، لقد كنا على ضفتين مختلفتين، كدنا أن نكون أعداءً، ولكن أردنا أن نتصالح مع ما عشناه وننسى، كان هذا هو الحب بالنسبة لي، غمرته يومها بشدة، وعندما التصقت أجسادنا، شعرت بدفء يسري في داخلي، أعاد الحياة والانتماء إلَي، لحظات قصيرة من الحرية، وقت خارج الوقت.
*****
منذ بدأت الحرب الأخيرة على غزة، وأنا أحلم بأنني أقف وسط الدمار، وأحمل طفلاً صغيراً في يدي، أركض باتجاه أشخاص بملامح غير واضحة، وأطلب منهم إنقاذ الطفل، ولكنهم يتجاهلونني، وينظرون جميعاً إلى الاتجاه المعاكس، حكيت لأمي حلمي المتكرر، وشعرت بصوتها يبتعد عن سماعة الهاتف وتتمتم: «يبعتلك حمى، الصبي مو منيح بالمنام». كان حلمي مجرد أضغاث أحلام بسبب الأهوال التي أشاهدها، أو لأننا خذلناهم ولم يصلهم من حرارة قلوبنا إلا الشحّار، وربما كان رؤية ونبوءة أردت تجاهلتها.
لقد دارى العدو الإسرائيلي بطشه وجرائمه بذريعة الحضارة والتفرّد والدفاع عن النفس، هذه الكذبة التاريخية الساذجة. لم يكن في سوريا من لم يستعد ذاكرته حول ما جرى في مدنها، وعاشه مجدداً رغماً عنه، كان من الصعب عليّ رؤية الغزاويين يواجهون الموت، يُقتلون في حصار صامت دون أن يهتز العالم لأجلهم.
«قاوم، عِش حراً، مُت وأنت تقاوم، مع جميع أشكال المقاومة…» عبارات ترددت في أذهاننا لأشهر عدة، تدفعنا للبقاء عنيدين في هذه العاصفة، يجمعنا أمل واحد في العدالة والنصر، عدو واحد نمقته وأفعاله، دون أن نتساهل مع أي تبرير. شارك بعض أساتذتي في الجامعة ورفاقي اللبنانيين في اعتصامات وإضرابات عدة، من أجل فلسطين وضد سياسات الجامعة التي تجاهلت ما يحدث وواصلت التطبيع، وكنا نحن، من جنسيات مختلفة، تحديداً الفلسطينيين والسوريين، نساهم بالقدر الذي نستطيع دون أن نعرض أنفسنا للعنف أو التمييز أو سحب إقاماتنا. وفي إحدى المحاضرات، سألت زميلتي أُستاذتنا عن وجود دراسات وأبحاث عن حاجة الإنسان للحب في أزمنة الحرب، أخبرَتها بأن عليها أن تبحث عنها، وأن تحضرها كمادة للجلسة القادمة، لقد وافقتها الرأي ولو لم أصرح بذلك، كنا بحاجة إلى العناق، إلى أي فكرة تعزز الحياة في عروقنا وعصبوناتنا، كنت أحب أكثر خوفاً من الحرب، وأقاوم كيفما استطعت خوفاً على الحب.
أصبحت الدقائق والساعات والأيام أغلالاً يصعب حلّها؛ شهدنا صور الموت بمختلف أشكاله: العيون المتسعة من الرعب، الأطراف المبتورة، الأجنة تُترك للموت، والجثث المعلقة فوق أنقاض المباني وكأنها شالات ناعمة، الجوع الذي يدفع الإنسان لقضم خده حتى يشبع. الدروع بشرية، والمسعفون يحملون ذويهم إلى ثلاجات لا تعمل، شاهدنا تفاصيل حيوات أشخاص يكافحون للنجاة، وكأننا نتابع نسخة حقيقية من (The hunger game)، تعلّقنا بهم، ثم رأيناهم يغيبون، كم كانت الشاشات دقيقة في نقل كل ذلك! لم نعتد الموت ولكننا بدأنا نتذوق مرارة الخسارة، وتسرب إلينا اليأس، كلما فتح أحدنا فمه ليتكلم عن انتصار ما اختنق بالغبار الخارج من داخله.
جلست معه في حانة أبو ايلي وكنا متخاصمين، عَلَت أصواتنا خلال الجدال، وعلى الرغم من أنّ الشاب المسؤول عن الحانة رفض أن أغير أغاني اليسار، إلا أنّه عبّر عن تعاطفه بسيل من الأقداح الممتلئة. هل المقاومة مجدية؟ هل هناك جدوى في الموت؟ كيف يُمكن أن يكون ذلك؟ هل تذكّرك هذه الخلافات بشيء ما؟ لقد عدنا إلى سوريا مرة ثانية؛ خرجت مسرعة في الساعة الثالثة صباحاً ومشيت وحيدة، أشعر بالضياع ولكنني واثقة بأنَّ شاطئ البحر قريب من المكان الذي أسير فيه، وصلت إلى مصطبة أسمنتية مرتفعة أمام مدخل مترو المدينة القديم وغفوت هناك، استيقظتُ في الساعة الحادية عشر صباحاً، وحجبت أشعة الشمس التي أزعجتني بيدي، أدركت أنني نمت في الشارع، رفعت جسدي ببطء مستندة إلى مرفقي كي لا أثير المزيد من الانتباه، نظرت حولي ورصدت حركة المارة، لكن لم أجد من يركز نظره عليّ، لا يزال بإمكاني أن أكون حرة هنا، حزينة أو سعيدة، أدركت في تلك اللحظة بأنّ بيروت ملاذٌ آمن لنا، قلت لنفسي إنّ هناك أمتاراً كثيرة تفصلنا عن الحدث، لماذا لا نستطيع تبني هذه النظرية؟ فطالما أنت تعلق على الأحداث وتناقشها من بعيد، فأنت غالباً لا تعرف عنها شيئاً.
*****
أُراسله لأطمئن عن أوضاعه، «وين أنت؟ كيفك؟ أنت قريب من الانفجارات شي؟ شو عم تحس؟»، أردت سؤاله عن غيابي أيضاً، هل أثر فيك؟ لا يجيبني، فأتخيّله وهو ينتقل من مكان لآخر مع عائلته بحثاً عن مكان آمن في بيروت، يكتب لي بعد أيام: «ما في أفق، ولا أمل، ما بعرف شي، أجلت سفري لأنني سأغيب لفترة طويلة»، أرتعبُ لأنه سينسى كل ذكرياتنا، أليست هذه لعنة الحروب؟
تملّكتني رغبة غريبة في عيش ظروف الحرب كلها، دون أن أراقب من بعيد كغريبة؛ أن أنزحَ مع الناس وأكتافُنا ملتصقة، يُعين أحدنا الآخر على الاستمرار رغم التعب، ننام في مكان واحد، يغيب النوم عن عيون البعض، فيسهرُ لأيام وهو يعتني بالبقية، ويحرص على ألا يحتاج أحدنا لشيء، أن نتحد جميعاً رغم اختلافنا في لحظاتنا الأخيرة. أمنيتي لهذه الحرب أن توقظَ فينا التعاطف الذي لم نعرفه قبلها، أن نخسر بشكل جماعي كي تكون نجاتنا كذلك، وأن أستغل هذه الأيام لآخذ موقفاً نهائياً من الموت، وأقبله بشجاعة. لكنني كالكثيرين، لم أصدق أنني سأموت من أجل شيء ما، أو أن شخص ما سيهم لجمع أشلائي حتى لو كتبت اسمي على كل إنش منها، شعرت بأنني سأكون ثقيلة على من أعرفهم، سيكون اختباراً مبكراً لعلاقاتنا. لم نكن نملك المال الكافي للسكن والعلاج وشراء الحاجيات الأساسية قبل الحرب، فكيف ستكون الأحوال بعدها، حربنا كمهمّشين وفقراء موجودة منذ مدة طويلة مع سماسرة الحروب قبل أن تصبح واضحة إلى هذه الدرجة، نحن أرقام في آخر سلالم الضرورة الاجتماعية، ولسنا موضع اهتمام أي أحد.
اضطررت لترك منزلي منذ الأسبوع الأول للغارات الإسرائيلية على لبنان، لأنّ المالك رفع إيجاره للضعف فجأة، وأمر عمو بلال، المشرف على المبنى، بأن يخرج السوريين من البناء أولاً إن امتنعوا عن الدفع فوراً، أخبرني عمو بلال وهو يُقسم بحياة أبنائه بأنه يتلفظ بهذه الوعود رغماً عنه.
لم آخذ أي شيء من كتبي وملابسي، ولا من أغراض بيتي والتذكارات التي جمعتها بعناية من سوق الأحد ومن أصدقائي المسافرين، كان عليّ أن أفكر بنقلها معي من مكان لآخر، ولكن قُصفت المعابر بين سوريا ولبنان بعد أيام قليلة، وصارت أجرة النقل مكلفة أكثر من البقاء، كل شيء امتلكته كان سراباً تبخر عندما رغبت به بشده، حتى الاستقرار بالنسبة لسوريّة مثلي في لبنان، مؤقت.
أُخبر الجميع أين أسكن بالتحديد في لبنان حتى يفهموا حاجتي الدائمة للتنقل، وعدم استقراري، على الأقل فهمت أن حركة ثنائي القطب وأزماته هي نتيجة للتبدل السريع بين الثبات والسقوط، سببه التمسك بشيء إلى أقصى حد ثم خسارته بسرعة، التعلق بأشخاص نحبهم ثم فقدانهم!
كانت لحظات الوداع ونحن أصغر سناً تأخذ وقتاً طويلاً، نبكي ونسترجع ذكرياتنا ونبعث أمانينا إلى المستقبل المجهول، اليوم أتمنى لو كنت شخصاً آخر، لو ودعته بشكل لائق، كنت سأخبره أن يعطيني وعداً بأنه سيحبني للأبد، وأننا سنلتقي ونعيش سوياً ولو بعد خمسين عاماً، أن يعدني بأنه سيبقى حياً، أن يقول كلمات مثل: ولو كنا على حافة هذه الدنيا سأرغب بك وسأحبك أكثر من الحياة نفسها، سنجلس أمام البحر في جبيل وسنلقي ماضينا وأثقالنا إليه وسنعيش، أتمنى لو أحببته أكثر، لو متُّ معه، ولكن هذه أنانية أيضاً، علينا أن نبقى أحياء نحمل جراحاً في الذاكرة لا تشفى أبداً، وأن نحكي قصصنا مع ابتسامة.
*****
تكسرت المرآة التي لملمتها في بيروت، وسرى الشرخ إلى داخلي، ماذا لو لم أحب قدري؟ ماذا لو كرهته جداً؟ كيف سيحوّلني شعور كراهية الحياة وكل شيء إلى شخص أسود، أمتص كل نور ممكن، تخافني الألوان واحتمالاتها، سأستمر بالعيش ولكن إلى متى؟ وربما السؤال الضروري الذي لا أمتلك إجاباته: من أجل ماذا؟.
الإحساس بثقل اللحظة الحاضرة يرسلني لأقرأ عن تاريخ أنتمي له ولا أعرفه، تاريخ يعنيني ويؤثر فيّ، أجد نفسي عالقة في هذا الجهل، لا أفهم ما الذي أوصلنا إلى هذا اليوم، ولا أفهم اليوم نفسه، تنقطع السلسلة. ما الذي تطلّبه الأمر لنستحق كل هذا الموت؟ شيء لم نفعله بعد، أو شيء ربما سنفعله.
باتت خيارات النجاة تتلاشى: ربما نقفز من فوق جدار في تركيا، أو نركض في غابات متجمدة في بيلاروسيا، نترك خلفنا جثث رفاق رحلتنا، أو نموت في تفجيرات تطاردنا أينما كنا، نغرق وتلفظ الأمواج أجسادنا إلى شواطئ غريبة، أو نحترق أحياء في خيمة لجأنا إليها، بينما يراقب العالم مناجاتنا الأخيرة، أو نربط أنفسنا مع ثمانين شخصاً مثلنا ونقفز إلى نهاية نختارها هرباً من الحياة.
ولكن إن انتهى حظك قبل حياتك؛ ستهجّر مراراً وتكراراً، وتُطرد من مراكز الإيواء، وتُعتقل عندما تعود إلى وطنك، وتموت مئات المرات قبل أن تُكدّس في الحفر والأقبية، ربما تُجرد من أوراقك التي انتظرتها لسنوات، وتُربط كالحيوانات البرية إلى مقاعد الطائرات، لتغادر البلاد التي لجأت إليها دون أن ترى السماء من النافذة الصغيرة.
الأسوأ، أن تبقى حياً وتشاهد أحبائك يعانون من البرد والجوع، يتكدسون في طوابير انتظار قرار أحدهم بإنهاء حياتهم.
ليس من الضروري أن ينسى أحدنا أي شيء، ولكننا سنتعرض للنسيان؛ اليوم نحن محاصرون، دورة حياتنا قصيرة، فالتاريخ جائع لمظلوميه.
لقد فكرت في الأطفال الذين يسكنون الخيام، ربما طفل واحد على الأقل، أهمل شعوره بالخوف والبرد، وقاوم الرعشة التي صارت جزءاً من جهازه العصبي، واستسلم للأرض القاسية التي ينام عليها، وتمنى، لو لمرة، أن يوزع الظلم بشكل عادل على كل العالم.
*****
أرسلتُ هذا النص إلى المحررة في موقع الجمهورية.نت وأنا في سوريا، ولم أكن متأكدة إن كان الوقت مناسبًا لمآسيّ الشخصية.
عدتُ إلى منزل والدي في مدينتنا الصغيرة، تاركة خلفي كل ما بدأته هناك، مكسورة الجناح. كان هذا أحد كوابيسي: أن أعود إلى أحضانهم وقد هزمني الواقع مجدداً. اعتنى بي والداي بلطف شديد، وهذا ما زاد غضبي أكثر، كيف يحمونني بينما لا أملك أي قوة لحمايتهم؟ راودتني أسئلة ثقيلة: ماذا لو بقيت؟ ماذا لو واجهت بدلاً من الهرب؟
لكن النص لم يُنشر في حينه، لأن الأحداث كانت تتسارع بصخب. لم يكن هناك متسع لنشر أخبار عن حرب بدت قديمة، بينما أحداث جديدة قد اندلعت، إذ بدأت عملية ردع العدوان في سوريا. وعندها اجتاحني الخوف والاحساس باقتراب الموت، شعرت وكأنني وصلتُ إلى اللحظة الأخيرة، وأحسستُ بذنبٍ ثقيل، وكأن كلماتي استدعت هذه النهاية، كنت قد تمنيت خسارة نهائية وجماعية.
فتحتُ ذراعي لهذه الموجة الهائلة، فكل ما قلته للبحر عاد إليّ. وعندها تذكرتُ: عندما تغمرك المياه، لا تصارع، بل اهدأ، ودع جسدك يطفو.
متُّ وعشتُ في آن واحد، كأنني عبرتُ يقظةً قاسية ووجدتُ في يدي مفاتيح سجني. لم أجد العالم الذي كنتُ أبحث عنه، بل وجدتُ العالم الذي كنتُ أهرب منه، لم تكن لحظة انتصار، بل لحظة كشفٌ للحقيقة: كل التمائم، الأمنيات، الحب، البيوت المؤقتة، والأشياء التي نتعلق بها كي ننجو، لن تكون يوماً بديلاً عن الوطن. وأعرف الآن، في أعماقي، أن لا شيء في هذا العالم يعوّض عنه. لكن هذه المرة، سأحلم ولن أقف عند حدود الأماني، لأن فصلاً جديداً في عمرنا قد حان.
مقالات مشابهة