Skip to content

السفينة

alsafina.net

Primary Menu
  • الرئيسية
  • الأخبار
  • افتتاحية
  • حوارات
  • أدب وفن
  • مقالات رأي
  • منوعات
  • دراسات وبحوث
  • المجتمع المدني
  • الملف الكوردي
  • الأرشيف
  • Home
  • فلسطين قبل النكبة.. يوميات بائع جوّال عابر لحدود الطائفة والاستعمار…سعد عميرة.المصدر :مجلّة الفِراتْس
  • دراسات وبحوث

فلسطين قبل النكبة.. يوميات بائع جوّال عابر لحدود الطائفة والاستعمار…سعد عميرة.المصدر :مجلّة الفِراتْس

khalil المحرر أبريل 25, 2025

في مذكراته للشهور الستة الأخيرة من سنة 1938، دوّن خليل معروف تاريخاً شخصياً لفلسطين ثورة 1936 وواقعها السياسي والاجتماعي.

فلسطين قبل النكبة.. يوميات بائع جوّال عابر لحدود الطائفة والاستعمار
يَعرض خليل معروف عن قرب وقعَ ثورة 1936 | خدمة غيتي للصور
كان لنكبة 1948 وما أسفرت عنه من سيطرة الصهاينة على جُلّ فلسطين وتهجير معظم سكانها، وما تلاها من مجازر وتفكّك في المجتمع الفلسطيني، عظيم الأثر في الحدّ من قدرة الفلسطينيين على كتابة تاريخهم وتوثيقه. نهبت قوات الاحتلال الإسرائيلي معظم إرث الفلسطينيين الثقافي وسجلاتهم المكتوبة بعد أن أفرغت التجمعات الحضرية والريفية الفلسطينية من أهلها وأحلّت غرباء مكانهم. صودرت أغلب الدراسات الفلسطينية والثقافية والقانونية المكتوبة وسجلات الأملاك والأراضي والمكتبات العامة والخاصة والصحافة المطبوعة وأرشيفها وسجلات المؤسسات الرسمية. وفوق هذا النهب الهائل، فلا عجب أن تُخصِّص مكتبة الجامعة العبرية في القدس الغربية اليوم ثلاثة طوابق تحت الأرض ومخازن خارجيةً بأرجاء إسرائيل تحوي آلاف الكتب والمخطوطات العربية والإسلامية المسروقة منذ النكبة، ثلثها فقط متاحٌ في قاعات القراءة.

ولمجابهة هذا الطمس وتشكيل روايةٍ مضادّةٍ، تعدّدت المحاولات الفلسطينية في العقود الثمانية الماضية لتوثيق تاريخ فلسطين شعباً ومجتمعاً، كلاً بأسلوبه وتخصصه. كان أهمّها مؤسسة الدراسات الفلسطينية التي تأسّست سنة 1963 ومكتبة بلدية نابلس في 1969. كذلك أرشيف منظمة التحرير، الذي تضمّن عشرات آلاف الوثائق التي عُدّت “عقل الثورة الفلسطينية”، والتي سيطرت إسرائيل عليها إبّان اجتياحها بيروت سنة 1982.

وللهدف ذاته سنة 2017 أطلقنا نحن ومجموعة من الباحثين في فلسطين والشتات، المهتمين بحفظ التاريخ الشفوي والشخصي، مبادرة “ذكريات فلسطينية مهددة”. ومن مشروعٍ لتوثيق التاريخ الشفوي، سرعان ما تطورت المبادرة إلى الأرشفة والرقمنة، وتحويل المقابلات إلى قصص ومقالات وأفلام وثائقية. وفي القلب من عملية التوثيق تقبع الأرشيفات العائلية، التي أضحت مهجّرة ومتناثرة في شتّى الأماكن شأن أصحابها. منها قصة خليل معروف، الدرزي الذي تحوّل إلى المسيحية.

شحنت مذكرات خليل معروف من فلسطين إلى بريطانيا سنة 1979 للحفاظ عليها، وعاد بعضها إلى فلسطين من سنين قلائل فقط. وقد وصلتنا المذكرات من أفراد عائلته في الشتات، من البيرة ورام الله في الضفة الغربية، ومن اسكتلندا والأرجنتين. مضافاً لهذا، المقابلات الخاصّة لتثبيت السياق عمّا عايَنَه جدّهم خليل في مذكراته.

ومع أن هذه المذكرات تمتد عبر عدّة سنواتٍ في فلسطين قبل النكبة، ننتقي منها بعضَ ما وثّقه خليل معروف بخطّ يده في الأشهر الستة الأخيرة سنة 1938، مع انقطاعٍ في الفترة ما بين منتصف أغسطس والسابع من سبتمبر. في تلك الأشهر المحورية بنهاية العام الثالث من الثورة العربية، التي تعرف أيضاً باسم ثورة 1936، ضدّ الانتداب البريطاني والحركة الصهيونية، يَعرض خليل معروف عن قربٍ –وأحياناً من منظورٍ شخصيٍّ– وقعَ ثورة 1936 وقد بلغت أشدّها شطراً من الحياة اليومية ودقائق أمور الناس في عموم فلسطين. يتحدث عن عمليات الكرّ والفرّ بين سلطات الانتداب والثوار في مراكز بعض المدن والقرى المحيطة بها. وتعكس تنقلاته وحياته الاجتماعية جانباً من المجتمع الفلسطيني مؤسسات وشخصيات، لاسيّما ما يرتبط بطائفته الإنجيلية. ولا ينسى خليل أن يخط، أثناء إقامته القصيرة في مصر والأردن، بعض ملامح نبض الشعوب العربية وتفاعلها مع الأحداث في فلسطين. وبهذا يمكن تقسيم مذكرات خليل معروف في سنة 1938 إلى موضوعين. أوّلهما متعلق بالحالة السياسية في فلسطين، أمّا الثاني فيتناول البعد الاجتماعي، مع تداخل بين الاثنين.

حدثني أفراد العائلة أنّ جدّهم خليل معروف وُلد في مطلع القرن العشرين، وربما سنة 1900، في قرية شفا عمرو، كبرى قرى قضاء حيفا مساحةً آنذاك. وتوفّي سنة 1964 في رام الله. عاصر خليل أربعَ حقبٍ. العثمانية التي انتهت سنة 1917. والانتداب البريطاني (وهو محور المذكرات) الذي بدأ في 1917 ثم أعلنته عصبةُ الأمم انتداباً من 1920 حتى 1948. وما تلا الانتداب من نكبة 1948 وإعلان قيام دولة إسرائيل وضياع أكثر من ثلثَي فلسطين. وتولّي الأردن حكمَ الضفة الغربية حتى نكسة 1967.

قالوا لي إن خليل كان طويلاً وضخم البنية. كان درزياً من “بني معروف”. وارتبط لقب بني معروف بطائفة الموحدين الدروز، ويُعتقد في رواية من روايات عدة أن أصل التسمية يعود لجدّهم العاشر معروف بن العبيد التنوخي الذي استقر بجبل لبنان منذ عشرة قرون تقريباً. يُعتقد أن خليل تحوّل من الدرزية إلى المسيحية في بداية حياته مع مطلع القرن العشرين في شفا عمرو، متبعاً الطائفة الإنجيلية التي يعود تاريخها في فلسطين إلى ثلاثينيات القرن الثامن عشر. ثم انتقل منها إلى رام الله بعروةِ (أي برعاية) قسٍّ محليٍّ اسمه أمين فرح، وكان قريباً من خليل. هذا التحول الديني كان مهماً ونادراً في عموم فلسطين وقتئذٍ. فالطائفة الدرزية الفلسطينية لم تكن تتجاوز عشرة آلاف فردٍ في مطلع العقد الثالث من القرن العشرين. لكن وعلى أهمية هذا التحوّل، فإن الأحوال السياسية والاجتماعية المتوترة في شفا عمرو في ظلّ الاحتلال الإنجليزي وتنامي تهديد الحركة الصهيونية كانت تطفو إلى السطح، وتطغى على الأحوال الشخصية على فرادتها.

أخبرني أفراد العائلة أيضاً أن جدّهم خليل معروف عمِل في بيع الكتاب المقدس والعمل التبشيري وبيع بطاقات المعايدة وغيرها من الأغراض التي كان يجلبها ويبيعها في ترحاله داخل فلسطين وخارجها. في سنة 1938 ابتعثته جمعية سي إم إس (جمعية البعثة المسيحية) التابعة للكنيسة إلى بورسعيد وبورفؤاد في مصر. وبعدها أقام حيناً في السلط وعجلون وعمّان. يعرّفنا خليل في مدّة إقامته هناك على تطور الفضاء الحضري في الأردن. فتارةً ينزل خليل بفندق الملك غازي في عمّان. وتارةً أخرى يشهد كبرى المظاهرات الداعمة لفلسطين في عمّان والسلط استجابةً لتحركات عرب فلسطين خلال الثورة. وفي أحيانٍ أخرى يستكشف خليل السلط وعجلون وبعضَ النقاط الحدودية بين فلسطين والأردن، ويبيع بعض الأغراض في المعسكرات هنا وهناك.

يفتتح خليل معروف سنة 1938 باستذكار بؤس السنة التي سبقتها، في إشارةٍ إلى ضراوة الثورة العربية في فلسطين والقمع الاستعماري البريطاني لعرب فلسطين. وقد انفجرت الثورة العربية التي سُمّيت الكبرى في فلسطين إثر غضبٍ متنام بين أوساط الفلسطينيين على ممارساتِ سلطات الانتداب ومحاباتها الحركة الصهيونية وتضاعفِ أعداد اليهود الأوروبيين في فلسطين. فعقب حادثتَيْ قتل متبادلتَيْن بين عرب فلسطينيين ويهود في أبريل 1936، عمّ الإضراب مدينة يافا وامتدّ إلى باقي عموم فلسطين في غضون أيام. ترافق هذا مع تشكيل مجموعات مسلحة هاجمت القوات البريطانية والمستعمرات اليهودية. لتنطلق بذلك الثورة وتمتد حتى النصف الثاني من 1939.

كان خليل معروف مقيماً في رام الله حينئذ. ومع ذلك فإنه يعرّج –في توثيق بعض أحداث الثورة في ذروتها– على مسقط رأسه شفا عمرو بين حينٍ وآخر. لاسيما حين تصاعدت موجات الكرّ والفرّ بين الثوار وقوات الجيش البريطاني. حسب ما يورد في جزء بارز في مذكراته بتاريخ 24 نوفمبر 1938، فقد أخبره صديقٌ بأن الحالة في شفا عمرو سيئة. وقد وصلت لدرجة فرض الجيش الإنجليزي غرامة على البلدة مقدارها ثمانمئة جنيه فلسطيني. وكان الجنيه الفلسطيني يساوي الجنيه الإسترليني في وقته، أو ما يعادل تقريباً سبعين جنيهاً اليوم. ولم يذكر خليل صراحة سبب هذا الإجراء العقابي، لكن مردّه يرجَّح إلى مشاركة أهل البلدة في أعمال الثورة. كيف لا وهي البلدة التي نشأ فيها خليل محمد عيسى (أبو إبراهيم)، أحد أهمّ أعضاء مجموعات الشيخ عزّ الدين القسام، قبل أن يصير واحداً من أبرز قادة الثورة الفلسطينية. ومنها انطلق ما عُرف “فصيل شفا عمرو”، بقيادة أمين مفلح علي حمادة، الذي نُسبت إليه عملياتٌ ضدّ المستعمرات الصهيونية في الجليل. وهذا حسب ما يورد صبحي ياسين، الذي كان من المشاركين في الثورة، في كتابه “الثورة العربية الكبرى” الصادر سنة 1961.

يورد خليل في مذكراته كيف واكب التضييق المالي على سكّان شفا عمرو إجراءاتٌ بريطانيةٌ عسكريةٌ على الأرض. فيذكر قصف الجيش البلدة مدفعياً، ما أدّى لمقتل سيدةٍ مسيحيةٍ تدعى جاكي سابا وابنتيها وإصابة ولديها بجراحٍ، وهدم بيت شحادة الداموني بالقنابل وجرح العائلة كلها ومقتل محمد سمور الدرزي. لم يفصّل خليل في مذكراته في خلفيات هذه الأسماء. ولكن يبدو أنهم كانوا أناساً من أهل المنطقة جمعته بهم معرفةٌ شخصيةٌ أو علاقة جوار. يقول خليل إنه على إثر هذه الأحداث المأساوية، أبرقت الطائفة الإنجيلية رسالةَ تلغراف إلى المطران الإنجليزي في القدس، ويرجَّح أنه المطران جورج فرانسيس غراهام براون في تلك المرحلة التاريخية. حضر المطران إلى شفا عمرو. وعن طريق وساطته مع حكومة الانتداب، انخفضت وتيرة أعمال الجيش البريطاني العنيفة، وخُفّضَت الغرامة من ثمانمئة جنيه إلى أربعمئة.

يبدو أنّ المعارك كانت متنوعة وأخذت أشكالاً مختلفة، ومنها معركة الرقابة الذاتية التي نستشفّها من مطلع الصفحة الأولى في مذكرات خليل معروف. وكما يبدو، فقد درجَ في وقتها اقتحام سلطات الانتداب المنازل ومصادرة بعض مقتنياتها، ومنها المذكرات والكتب. فحرص الناس على السرّية والمواربة فيما يقولونه ويكتبونه. يقول خليل معروف إنه، بسبب ذلك، اختصر التوثيق. وهو ما قد يفسّر تجنّبه سرد تفاصيل علاقته بضحايا القصف البريطاني في شفا عمرو مثلاً. ولم يخرج بتوثيقه كذلك عن موجز بلاغ الحكومة اليومي، أي الرواية الرسمية للانتداب. فالكتابة ضدّ البلاغ كانت محظورة.

نجد هذا الحذر أيضاً في مسائل أخرى متعلقة بشؤون طائفته. فمثلاً، بتاريخ 22 يوليو 1938، اشترى خليل ستة أرطال صوف من عبد الله دغمان في البيرة بسعر مئتين وأربعين مِل (وهي عملة معدنية)، والألف مِل كان يساوي جنيهاً فلسطينياً. ولكنه أشار بالتاريخ نفسه إلى لقاءٍ سبق الشراءَ عقده صحبةَ القسّ إلياس مرمورة –ابن الناصرة الذي خدم الطائفة الإنجيلية في رام الله ونابلس– مع المطران الأنجليكاني في القدس. حادَثَه المطران “بمسائل خطيرةٍ وضروريةٍ”، ولكن لا يحدّثنا خليل عن هذه المسائل ولا يلمّح لأيّ تفاصيل بشأنها، وإنْ كنّا نفترض احتمال تعلّقها بالشؤون الداخلية للطائفة. بعدها بأقلّ من شهرٍ، وصلته برقيةٌ من أحد أبنائه يطمئنه عن أحوال العائلة، بلا ذكرٍ لأخبار المعارك المشتعلة في البيرة ورام الله. وهو ما أثار الريبةَ في دواخل خليل وجعله يظن أن ابنه، متحرّياً الرقابةَ الذاتيةَ، كان يروم تخطّيَ مقصّ الرقيب.

بيد أن أجواء الحذر هذه لَم تَحُلْ دون تعبير خليل معروف عن السخط بضع مرّات من حكومة الانتداب، بسبب تحيزها للمشروع الصهيوني. ففي مذكراته اليومية بتاريخ 21 يوليو 1938، يقول: “الحالة في فلسطين أَزْفَت من الزِفْت والسبب يرجع لسياسة الحكومة”. وبعدها بيومٍ خاطبَ القارئَ وقال له: “إنّ الظلم يولّد الانفجار وهكذا الحال مع الحكومة”.

لم يكن هذا السخط موجّهاً ضدّ الممارسات العسكرية لحكومة الانتداب فحسب. وإنما متمخّضاً كذلك عن دورها بالتداول واستكشاف آفاق وخطط عملية لتقسيم فلسطين. في القلب من هذا تعميق النفوذ الصهيوني في فلسطين بدايةً بتعيين اليهودي الصهيوني هِربِرت صموئيل مندوباً سامياً في بداية الانتداب، ودوره في تطوير المنشآت والمؤسسات الصهيونية في فلسطين. وليس انتهاءً بتسهيل الهجرة اليهودية إلى فلسطين أو التغاضي عنها. وتعبيراً عن هذا المنحى المعارض، تعطينا يومية 27 ديسمبر 1938 مثلاً لمحةً عن دور طائفته السياسي. فيستحضر خليل معروف مقالاً كتبه أسقف الكنيسة الإنجيلية، راعي الأبرشية في فلسطين والعراق وقبرص، المقيم في “بلاد الإنجليز”. طالب القسّ الحكومةَ الإنجليزيةَ بأن تعطي العرب حقوقهم. وقد سُرّ العرب من مقالة الأسقف.

ويذكر خليل أن العلاقات الإسلامية المسيحية في فلسطين لم تكن مثاليةً أو خاليةً بالمطلق من الخلافات. وإنْ صِيغت الخلافات أحياناً باعتبارها صراعاتٍ عائليةً أو ذات منحىً سياسيّ وليست مذهبية. إلّا أن ممارسات الانتداب وتنامي التهديد الصهيوني وضعت الفئتين الدينيتين في خندقٍ واحدٍ لِما رأوه تهديداً مشتركاً. وكما يقول نواه هايدوك-ديل في كتابه “أراب كريسشينز إن بيرتيش مانديت باليستاين” (العرب المسيحيون في فلسطين الانتداب) الصادر سنة 2013، صار دارجاً أثناء ثورة 1936 أن يخطب القساوسة بالناس من على منابر المساجد وكذلك الأئمة من داخل الكنائس تنديداً بالغبن السياسي الذي يناله عرب فلسطين. برز هذا الحسّ بالغبن المشترك بالذات في أحداث أغسطس 1929 (ثورة البراق) بسبب الخلاف بين اليهود والمسلمين على الحائط الغربي (حائط البراق) في القدس، الذي تطوّر إلى اشتباكاتٍ عنيفةٍ وقتلى من الجهتين. أصرّ عدّة قادةٍ مسيحيين حينئذٍ، ومنهم يعقوب فراج وإميل الغوري، على أن القضية تمسّ عرب فلسطين كافةً، وليست حكراً على المسلمين.

يساعد فهم المحيط الاجتماعي لخليل معروف في إبراز سمات عصره. فقد درس اثنان من أبنائه في مدرسة “شنلر” الصناعية على أطراف قرية لفتا في القدس. أسّس المدرسةَ القسّ يوحنا لودفك شنلر سنة 1860 ودام العمل فيها حتى نكبة 1948. نُقلت المؤسسة لاحقاً إلى الأردن سنة 1951. أمّا ابنه الأصغر فقد دخل مدرسة الحكومة. في حين مارست ابنته الكبيرة التمريضَ في السلط في الأردن، وكانت في خضمّ توتّرات سنة 1938 تستعدّ لامتحانات المزاولة.

ولأن العائلة كانت موزعةً في أماكن مختلفةٍ، كانت المراسلات البريدية وسيلتَهم الوحيدة للبقاء على اتصال. إلّا أنّ التواصل بينهم تعقَّد لسوء الأحوال السياسية والأمنية مع بلوغ الثورة أوجَها في النصف الثاني من 1938. نجد في يوميات خليل معروف كثيراً من الرسائل العائلية. بعضها مرسلٌ من ابنه الكبير أو ابنته الكبرى، وقسم آخر مرسل من خليل لأفراد عائلته أو طائفته في رام الله. ونستحضر هنا رسالةً وصلته من صديقٍ في السلط، لا تريد عائلة خليل كشف هويّته، بتاريخ 25 يوليو سنة 1938. في الرسالة، يعبّر الصديق عن رغبته بالانفصال عن الكنيسة الأنجليكانية “لأسباب طائفية” لم توضّح الرسالة ماهيّتها، وأنه يريد اتخاذ بيت في السلط للعبادة.

في اليوم نفسه أراد خليل اصطحاب أحد أبنائه من مدرسة “شنلر”. ولخطورة الوضع في القدس وخوفه من اضطراره إلى ركوب “باص اليهود” (وهو حافلة مخصصة لنقل اليهود تموّلها وغيرَها من الأمور الخدمية لليهود الوكالة اليهودية)، استعان بالخواجة يعقوب الأرمني، أحد معارفه، كي يركب معه في سيارته الخاصة. يذكر خليل أنه وصل إلى مدرسة ابنه بسلام وعادا إلى المنزل في رام الله لاحقاً ذلك اليوم سالمَين.

أصدقاء العائلة كثر ولا يحلو يومٌ في رام الله، كما يدوّن خليل في مذكراته، بلا زيارة القسّ أسعد منصور. تعود أصول القسّ لشفا عمرو، وعُرف عنه كونه مؤرخاً وواعظاً وأديباً ومن نخب الكنيسة الإنجيلية في فلسطين. هذا بالإضافة لزيارات صديقه القسّ إلياس مرمورة، الذي عُرف عنه دوره بالتعريف عن القضية الفلسطينية في أوساط الكنيسة ببريطانيا. وكما يبدو، فقد عمل خليل في جمعية “سي أم إس” التابعة للكنيسة وفي بيع الكتب والبطاقات وأشياء أخرى مثل زيت الزيتون. أتاح التنقل الدائم له، الذي رافق هذا العمل، لقاءَ أناسٍ كثرٍ من خلفياتٍ شتّى وتكوين علاقاتٍ معهم.

كانت زيارات خليل معروف إلى القدس بالذات دائمةً. ولكن شابها بالعادة كثيرٌ من الحيطة بسبب تطورات الأحداث السياسية وعمليات الكرّ والفرّ بين سلطات الانتداب وبين الثوّار الذين استطاعوا دخول البلدة القديمة عدة مراتٍ في 1938. ناهيك عن الهجمات التي شنّتها العصابات الصهيونية على البلدة حينذاك. وفي القدس التقى خليل بصديقٍ آثرَت عائلة خليل عدم الإفصاح عن اسمه. أخبره هذا الصديق بأنه سيرجع صحبةَ الطبيب الإنجليزي تشارلز ماكلين إلى عجلون لبناء مستشفىً بتكلفةٍ تتراوح بين عشرة إلى خمسة عشر ألف جنيهٍ، وهذا مبلغٌ كبيرٌ بمعايير ذلك العصر. ويتضح من موقع إلكتروني يحكي تاريخ المعمدانيين في الأردن أن المستشفى الذي يتحدث عنه صديق خليل كان اسمه “مستشفى جلعاد”. بدأ المستشفى عيادةً طبيةً صغيرةً في عجلون سنة 1938، وكانت أوّلَ عيادةٍ رسميةٍ في المنطقة، وسرعان ما تحوّل إلى مستشفى كبير سنة 1940. وبعد تعثره مالياً، نقل تشارلز ماكلين إدارته للإرسالية المعمدانية الجنوبية في أمريكا، وأصبح مستشفى عجلون المعمداني.

كان خليل معروف على علاقةٍ جيدةٍ مع الطبيب ماكلين، وفي جعبته كثير من الذكريات معه، ومنها إحدى زياراتهما إلى عجلون بتاريخ 23 أكتوبر 1938. وقتها مشى خليل مع ماكلين إلى قلعة عجلون التاريخية على قمة جبل بني عوف في المدينة، وتُسمّى أيضاً “قلعة الربض”، وأُعجب بجمالها وجمال المناطق المحيطة بها. وصف القلعةَ بأنها “شرفة على فلسطين وشرق الأردن”. ولكن الضباب الكثيف، كما يقول، حال دون رؤية فلسطين بوضوح. بعد هذه الرحلة الشائقة، عاد خليل مع ماكلين وشربا الشايَ في منزل الأخير.

ويؤرخ الموقع الإلكتروني للمؤتمرات المعمدانية في الأردن أنّ الدكتور الإنجليزي تشارلز ماكلين قدِم مع زوجته وطبيبة إنجليزية تدعى دوري في مطلع الثلاثينيات. وجميعهم كانوا مبتعثين للعمل في مستشفى السلط، التابع للكنيسة الأنجليكانية في إنجلترا.

لم تقتصر تنقلات خليل معروف على مدن فلسطين وبلداتها، وإنما خارج الحدود أيضاً. كانت مصر إحدى وجهات سفره. ويتحدث لنا في مذكراته في الثامن من سبتمبر سنة 1938 عن عمله هناك في مكتب جمعية “سي إم إس” ومخازنها في بورسعيد. في اليوم نفسه، كما يورد في المذكرات، “هاجم مسلحون محطة اللّد العظيمة، حرقوا جزء كبير منها للمرّة الثالثة”. ويبدو أن الإشارة هنا لواحدةٍ من العمليات العسكرية التي باتت معتادةً للثورة. إذ في نهاية ذلك العام عكف الثوار على تدمير خطوط السكك الحديد بين القدس واللّد وبين خانيونس ورفح، لتعطيل تحركات الجيش البريطاني وعرقلة إسناده.

إبّان إقامته في مصر، زار خليل بورفؤاد. ويبدو جليّاً من كتاباته أنه استمتع بالأجواء هناك، وإنْ تقاطرت الأخبار المحبطة القادمة من جهة الشرق الفلسطيني. ويذكر أن الحالة الشعبية في مصر آنذاك كانت على تفاعلٍ مع سير المعارك في فلسطين. كتب في يومية 19 أكتوبر خبراً عن الزعماء العرب المنفيين إلى سيشل وإضرابهم عن الطعام بسبب تمديد الحكومة البريطانية اعتقالهم سنةً إضافية. والسياق أنه بعد أن قَتَلَ الثوّار الحاكمَ العسكريَّ البريطانيَّ لويس أندروز خارج الكنيسة الإنجيلية بالناصرة في سبتمبر 1937، شنّت سلطات الانتداب إجراءاتٍ عقابيةً ضدّ السكان والكيانات السياسية العربية. الضربة الأقوى كانت في حَلِّ اللجنة العربية (الفلسطينية) العليا، وهي الكيان السياسي الممثل لعرب فلسطين تحت الانتداب، ونفيِ من طالته أيدي الانتداب من قيادات اللجنة إلى سيشل. شملت قائمة المنفيين أحمد حلمي عبد الباقي وحسين الخالدي وفؤاد سابا ويعقوب الغصين ورشيد الحاج إبراهيم. اعتقدت السلطات البريطانية أنها بِنَفيِهِم ستخمد جذوة الثورة. وفي اليوم نفسه، ذكر خليل في المذكرات خبراً عن مظاهراتٍ طلابيةٍ في مصر قادها طلابٌ من الأزهر الشريف انتصاراً لفلسطين. وعلى إثر ذلك دارت اشتباكاتٌ بين المتظاهرين والشرطة المصرية التي أطلقت النار على المتظاهرين.

ومع أن مكوث خليل في مصر لم يطل سوى بضعة أسابيعٍ، فقد ألمّ به حنينٌ إلى الوطن. إلّا أن صديقاً، تحفّظت عائلة خليل على نشر اسمه، نصحه بأن يبقى في مصر مدّةً أطول بسبب خطورة الوضع في فلسطين. حينذاك وصلت أخبارٌ أنه بسبب هجمات الثوار على مقارّ الانتداب الحكومية، وتحديداً في مدينته رام الله وأختها البيرة، نقلت السلطات البريطانية أعمالها من هناك إلى القدس. ويبدو أن مقرّ شرطة الانتداب في قلب مدينة البيرة التجاري، بجانب مركز البيرة الثقافي حالياً (المدرسة الهاشمية سابقاً)، كان هدفاً لتلك الهجمات.

ويبدو أيضاً أنّ هجمات الثوّار على خطوط السكك الحديد والقطارات في أواخر سبتمبر 1938 ساهمت بتعقيد مسار العودة برّاً. وهذا ما دفع خليل للعودة بحراً من مصر إلى فلسطين. وبالإضافة إلى مشاكل التنقل، اضطر خليل للتعامل مع تقلّب مزاج زميلةٍ إنجليزيةٍ قادمةٍ من “بلاد الإنكليز” على حدّ قوله. يقول إنها كانت تنوي السفر معه إلى المستشفى الإنجيلي في نابلس، الذي شُيّد سنة 1900 وما زال يعمل حتى اليوم تحت مسمّى “المستشفى الإنجيلي العربي”. أراد العودة عبر ميناء يافا، ولكن الآنسة الإنجليزية فضّلت ميناء حيفا لاعتقادها بأنه أكثر أمناً. بالنهاية كانت يافا محطة الدخول بتاريخ الثاني من أكتوبر، وقطع الاثنان البحر في اثنتي عشرة ساعةً على ظهر “بابور البحر”، أي السفينة.

يوم الوصول من مصر لفلسطين، سافر خليل معروف من القدس إلى البيرة بحافلة شركة الباصات الوطنية، وهي شركة حافلاتٍ أسّسها نفرٌ من المستثمرين الفلسطينيين في مطلع الثلاثينيات لكسر احتكار الشركات الصهيونية على وسائل النقل العابرة بين المدن. ومن البيرة، انطلق إلى منزله في رام الله مشياً على الأقدام عدّة كيلومتراتٍ، نظراً لتعثّر وسائل النقل على الأرجح بسبب التوترات الأمنية. ويبدو كذلك أنّ البيرة كانت محطةً مركزيةً على طريق القدس.

الوضع في البيرة ورام الله في هذا التوقيت كان مشتعلاً. إذ أخبره أفراد عائلته عن معركةٍ كبرى جرت في رام الله في الفاتح من أكتوبر سنة 1938، أثناء وجوده في مصر. قيل له إن رحى المعركة دارت تحديداً عند دوار المنارة في قلب رام الله، وهو الدوار الذي تتفرع منه شرايين مدينتَي رام الله والبيرة وشوارعهما الرئيسة. شارك في المعركة سبعة طائرات حربية بريطانية وعربات مصفّحة. ويقدّر عدد الثوار الذين شاركوا بالقتال بحوالي ثمانمئة. قُتل ضابطٌ بريطانيٌ وجُرح جنديّان، أمّا عدد القتلى بين الثوار فكان أكبر بكثير. ​​تدحرجت المعركة شرقاً إلى دوار البيرة، وصولاً إلى وادٍ شرقي البيرة. يسمى وادي شيبان نسبةً إلى “مقام سيدي شيبان” في نفس المنطقة، ويقال إنه مقامٌ لمقاتلٍ من المغرب جاء مع جيش صلاح الدين الأيوبي وقضى نحبه في معارك فتح القدس. ويُقال أيضاً إنه لرجلٍ متصوّف. ومع توسع المعركة، فزعت قرى دير دبوان وبرقة لثوار البيرة ورام الله.

يذكر خليل أنّ وضع المدينة بعد المعركة كان مشوباً بالقلق والخوف. ويضيف أن الجيش الإنجليزي أخلى المدينة ما استطاع، وتشتّت الثوار في الجبال. كذلك سحبت حكومة الانتداب السلاح من أفراد الشرطة العرب، ولم يبقَ في المدينة سوى ضابطٍ محليٍ ومعه ثلاثة جنودٍ مجرّدين من السلاح.

غضب الثوار لم ينصبّ على الإنجليز أو الحركة الصهيونية فحسب، بل طال بعض السكّان المحليين أيضاً. يستذكر خليل معروف حادثة إحراق الثوار منزلَ سيدةٍ في رام الله بسبب إخفائها جنوداً إنجليز في بيتها. على النسق نفسه، رحل أحد أصدقاء خليل معروف من رام الله إلى القدس بسبب تشدّد الثوار عليه. إذ أخذوا منه فرسه واستدعوا ابنه للِقائهم في الجبال، حيث أمضى الصبيّ أربع ساعاتٍ قبل أن يطلَق سراحه بعد تدخّلاتٍ من الناس.

والتعسف على الناس من الثوّار، وتحديداً في هذه الفترة، لم يكن سائداً من قبل بهذه الوتيرة. وهذا ما تشير إليه مذكرات التربوي الفلسطيني البارز ابن رام الله، خليل طوطح، الذي عمل مديراً لمدرسة الفرندز والكلية العربية في القدس. يقول طوطح إن بعض الحوادث كانت تحصل بِاسم الثورة من أناسٍ دخلاء عليها. وينسب عدم نجاح الثوّار في هذه المعركة “إلى عدم إدراك القائد وخبرته، ويدعى محمد اعمر من مزرعة بني مرّة”. أي أنه لم يكن من أهل المنطقة ولم يعلم شعابها وطباع أهلها.

بعد مصر بأقلّ من أسبوع، تحديداً بتاريخ 6 أكتوبر 1938، كانت السلط وجهة خليل معروف الجديدة، وسافر إليها رفقةَ أحد أصدقائه بسيارة هذا الصديق انطلاقاً من القدس. الخروج من القدس لم يكن عاديّاً هذه المرّة، لاشتداد المعارك بين الثوار والجيش البريطاني. ما جعل التنقل أكثر حذراً وبطئاً وعرضةً لنقاط تفتيش الجيش الكثيرة. وعلى طريق القدس أريحا شاهد خليل جغرافيا الحرب وأطلالَ المعارك الدائرة بين الثوار والجيش الإنجليزي، من جسورٍ مدمَّرةٍ وأسلاك هاتفٍ وأعمدةٍ مخلوعة. جاءت المفاجأة عند وصولهم إلى جسر اللّنبي –المسمّى نسبةً للجنرال الإنجليزي إدموند أللّنبي الذي هَزم العثمانيين ودخل القدس في ديسمبر 1917– والذي يفصل الأردن عن فلسطين. مُنع خليل وصديقه دخولَ الأردن من غير تأشيرة. ويعبّر خليل في مذكراته عن استهجانه تلك اللحظة، إذ أن ذلك الإجراء كان مستحدثاً ولم يكن معهوداً قبلاً.

يخبرنا خليل أنه رضخ للأمر الواقع واضطر لدفع 750 مِلاً مقابل إصدار تأشيرة دخولٍ مرّةً واحدة. أخذهم الطريق من القدس إلى السلط، مع التفتيش، أقلّ من ثلاث ساعات. وبسبب تردّي الأوضاع السياسية، دوّن خليل ملاحظةً بعد مدّةٍ بتاريخ 15 أكتوبر، تفيد بأن الراغب بزيارة شرق الأردن عليه أن يتقدّم بطلب التأشيرة قبل ستة أسابيع. وهذا يدلّل على تصاعد الإجراءات التعسفية الإنجليزية مع احتدام الثورة، ومحاولة الإنجليز ضربَ التواصل الاجتماعي والعسكري بين أهل فلسطين وشرق الأردن. ويذكر خليل في يوميةِ 24 أكتوبر بأن الحكومة ستفرض تصاريح حركةٍ على تحركات الناس في آخِر الشهر، وأن من يرغب بالتنقل عليه بالحصول على تصريحٍ من القائد الإنجليزي. في اليوم ذاته، كما يدوّن، انسحاب الثوار من البلدة القديمة في القدس واستطاعت سلطات الانتداب فرض سيطرتها على المكان.

مع نهاية أكتوبر 1938، سيصبح التنقل بين فلسطين وشرق الأردن عسيراً نظراً لإجراءاتٍ بريطانيةٍ صارمةٍ لإحكام السيطرة على الثورة. ويذكر خليل في يوميةِ 29 أكتوبر خبراً مفاده أنّه حريٌّ بأهل شرق الأردن الذين يودّون قضاء حوائجهم بفلسطين بأن يتعجّلوا ذلك قبل نهاية أكتوبر أو مطلع نوفمبر سنة 1938، لأن الحكومة فرضت قيوداً على السفر لفلسطين. وفي الوقت نفسه، كما يورد، دعت قيادة الثورة في فلسطين الناسَ للامتناع عن أخذ تصاريح التنقل من الدوائر الإنجليزية، وعدّوا المخالفةَ خيانةً للوطن تستوجب الإعدام. ويتضح من بعض مدوناته في مطلع نوفمبر تعقد حالة المواصلات في عموم فلسطين بسبب نيّة الثوار إعلان إضرابٍ مدّته عامٌ على جميع وسائط النقل في فلسطين. وعلى إثر ذلك صعّدت حكومة الانتداب إجراءاتِها التعسفيةَ، وأعلنت منع التجوّل على طريق يافا والرملة، ومنعت المركبات من المسير. يقول خليل إنه حتى الدوابّ لم تسلم من ذلك. فكان على كلّ راكبِ دابّةٍ الابتعاد أربعين متراً عن ناصية الطريق.

العمل الثوري لم يكن مقصوراً على أهل فلسطين، بل شارك به مقاتلون من شرق الأردن بدعمٍ من نخبٍ سياسيةٍ وعشائريةٍ واقتصادية. وتخطّى ذلك حدودَ الأردن وفلسطين. إذ يوثّق خليل معروف ظهورَ “حركة عدائية على اليهود في بيروت بسبب حوادث فلسطين”. في الثامن من يوليو 1938، ألقى يهوديٌّ قنبلةً على باصٍ عربيٍّ في باب الخليل في القدس، فقتل وجرح كثيراً من العرب. وقد نُسبت العملية، بالإضافة لعملياتٍ أخرى آنذاك، لمنظمة الإرغون الصهيونية (“إتسل” بالعبرية) التي صنّفتها الحكومة البريطانية منظمةً إرهابيةً سنة 1931، والمنبثقة عن منظمة الهاغاناه. في اليوم نفسه حاول ستمئة مسلحٍ عبورَ نهر الأردن، فاشتبكت معهم الحكومة، وأفضى الاشتباك إلى ستة قتلى من الطرفين. بعدها بيومٍ، أضربت عموم فلسطين عن العمل احتجاجاً على العملية التفجيرية باليوم السابق، واحتجّ وأضرب متظاهرون في عاصمة شرق الأردن عمّان على حادثة باب الخليل.

وكما في مصر، فإن الحالة في فلسطين كانت محطّ نقاشٍ في الأردن، وهذا ما يدوّنه خليل أثناء مكوثه وتنقله في الأردن في أكثر من مدينة. يذكر في يوميةِ 3 نوفمبر سنة 1938 قصةً عن عصابةٍ يعتقد أنها أردنية كانت قد نفذت هجوماً على مقرٍ شرطة الرمان على طريق جرش، ونزعوا أسلحة عناصر الشرطة وسيطروا على ثلاثة رؤوس خيل. وفي يوميةِ 14 نوفمبر 1938، يستحضر خليل جنازتين “لشهيدين من شرق الأردن”. أحد “الشهداء” من عمّان. ذكره على أنّه ابن طاهر بيك الجقة، وهو قائدٌ أردنيٌّ بارزٌ تعود أصوله لمدينة نابلس ممّن احتضنوا الثورة وساهموا بدعمها من الأردن.

وبالاستناد إلى مقابلةٍ أجراها الأكاديمي والكاتب الأردني علي محافظة في سنة 1975 مع رئيس وزراء الأردن الأسبق، سليمان النابلسي، يتضح لنا أنّ “الشهيد” ابن طاهر بك الجقّة كان اسمه جمال. ومن مذكرات خليل، يبدو أنّ جمال كان ملتحقاً بالثورة العربية وقُتل في فلسطين يوم 11 نوفمبر سنة 1938. وقد أُحضرت جثّته إلى عمّان، حيث شُيّع في جنازةٍ مهيبةٍ أضربّت العاصمة على إثرها. يورد خليل أنه في اليوم نفسه تلاقت دماء السلط مع عمّان، إذ أُحضرت جثة “شهيد” من السلط قُتل في فلسطين. أقيمت له جنازةٌ كبيرةٌ في المدينة شارك بها جمعٌ غفير.

تنتهي سنة 1938 بعودة خليل من الأردن إلى فلسطين. ويبدو أن عيد الميلاد تلك السنة لم يكن بهيّاً، لا في الأردن ولا في فلسطين. يذكر خليل أن المظاهر الاحتفالية غابت. وحتى مبيع كروت المعايدة في الأردن كان أقلّ من العادة. فقد طغت المعارك والدم على المناخ العام. وبالإضافة للاشتباكات بين الثوار والإنجليز، فقد عكّر صفوَ الناس الاستعراضات والممارسات العسكرية لما سُمّيَ “فصائل السلام”. وهي الفصائل التي أَنشأها السياسي الفلسطيني فخري النشاشيبي بالاتفاق مع البريطانيين في النصف الثاني من 1938، حركةً معارضةً لجناح الحاجّ أمين الحسيني ومن سار في دربه من الثوار. وكانت عملياً تمثّل الثورة المضادّة.

لم تكن طريق العودة من الأردن سهلةً لخليل معروف. وهو ما اضطرّه ليحضر كتاب توصيةٍ من قسٍّ إنجليزيٍّ في الأردن يدعى “بلاكبان” نسّق له العودة عبر عربات الجيش الإنجليزي مروراً بجسر اللّنبي ومنه لأريحا. ومن أريحا عاد خليل إلى القدس وحده. وفي 25 ديسمبر حضر الصلاة في الكنيسة في رام الله، وكان الحضور كبيراً. بعدها بيومٍ، زار خليل منزل القسّ أسعد منصور، وحضر توزيع بعض الهدايا على الأطفال متنكراً بزيّ بابا نويل، وناشراً البهجة في قلوب الأطفال.وهكذا، في هذه اللمحات من مذكرات خليل معروف على مدى الأشهر الستة الأخيرة في العام الثالث من ثورة 1936، أُعيدَ من منظوره الشخصيّ رسم زوايا من تاريخ فلسطين غابت عن كتب التاريخ. وإن كانت المعلومات عن خليل غير مكتملةٍ، فالمحطات المتوفرة في مذكراته وحياته الخاصة تفتح طاقةً مجتمعيةً حول أهمية التوثيق وترميم الذاكرة. فيتشكل موجٌ من التاريخ الاجتماعي محفّزاً عائلاتٍ أخرى على النبش في دفاتر الذاكرة وبين طيّات الخزائن القديمة، التي يفوح منها عبق فلسطين قبل التقسيم والحصار والتهجير القسريّ.

الانتداب البريطاني
,
النكبة
,
ثورة 1936
,
فلسطين
:تصنيفات

Continue Reading

Previous: أبناء الجيل الثالث في ليبيا بعد الاستعمار…محمد النعاس محرِّر منشِئ في المصدر :مجلّة الفِراتْس
Next: الشيباني يدعو أمام مجلس الأمن لرفع العقوبات عن سورية وانسحاب إسرائيل ابتسام عازم..المصدر : العربي الجديد

قصص ذات الصلة

  • دراسات وبحوث

حدود بلا دولة: سورية والقوى الخارجية وانعدام الاستقرار المستمر… أرميناك توكماجيان و خضر خضّور.. بمساهمة مهنّد الحاج علي، وحارث حسن، ومهى يحيَ.المصدر:مركز مالكوم كير– كارنيغي للشرق الأوسط

khalil المحرر أبريل 30, 2025
  • دراسات وبحوث

مفارقة الاندماج: لماذا يؤدي الاندماج الناجح لمزيدٍ من النزاعات؟ حوار مع عالم الاجتماع الألماني السوري علاء الدين المفعلاني أولريكه غاتسماير، عزام مصطفى ترجمة: نادين الجودي..المصدر : الجمهورية .نت

khalil المحرر أبريل 28, 2025
  • دراسات وبحوث

أبناء الجيل الثالث في ليبيا بعد الاستعمار…محمد النعاس محرِّر منشِئ في المصدر :مجلّة الفِراتْس

khalil المحرر أبريل 25, 2025

Recent Posts

  • اكرم حسين ….. سوريا: الدولة المأمولة وخيارات التعايش….المصدر : صفحة الكاتب
  • كيف أصبح “الأناناس” رمزاً للتحوّل السياسي في سوريا؟..المصدر :موقع درج……عمر الهادي – مدون سوري
  • لبنان أمام خيارات حاسمة وواشنطن بالمباشر: تعلموا من الشرع مانشيت .المصدر : المدن
  • سوريا بعد الأسد… تهريب المخدرات مستمر حايد حايد……..المصدر :المجلة
  • فيدرالية العراق… و”هيكل المركزية”. رستم محمود…….المصدر :المجلة

Recent Comments

لا توجد تعليقات للعرض.

Archives

  • مايو 2025
  • أبريل 2025
  • مارس 2025
  • فبراير 2025
  • يناير 2025
  • ديسمبر 2024
  • نوفمبر 2024
  • أكتوبر 2024
  • سبتمبر 2024
  • أغسطس 2024
  • يوليو 2024
  • يونيو 2024
  • مايو 2024
  • أبريل 2024
  • مارس 2024
  • فبراير 2024
  • يناير 2024
  • ديسمبر 2023
  • نوفمبر 2023
  • أكتوبر 2023

Categories

  • أدب وفن
  • افتتاحية
  • الأخبار
  • المجتمع المدني
  • الملف الكوردي
  • حوارات
  • دراسات وبحوث
  • مقالات رأي
  • منوعات

أحدث المقالات

  • اكرم حسين ….. سوريا: الدولة المأمولة وخيارات التعايش….المصدر : صفحة الكاتب
  • كيف أصبح “الأناناس” رمزاً للتحوّل السياسي في سوريا؟..المصدر :موقع درج……عمر الهادي – مدون سوري
  • لبنان أمام خيارات حاسمة وواشنطن بالمباشر: تعلموا من الشرع مانشيت .المصدر : المدن
  • سوريا بعد الأسد… تهريب المخدرات مستمر حايد حايد……..المصدر :المجلة
  • فيدرالية العراق… و”هيكل المركزية”. رستم محمود…….المصدر :المجلة

تصنيفات

أدب وفن افتتاحية الأخبار المجتمع المدني الملف الكوردي حوارات دراسات وبحوث مقالات رأي منوعات

منشورات سابقة

  • مقالات رأي

اكرم حسين ….. سوريا: الدولة المأمولة وخيارات التعايش….المصدر : صفحة الكاتب

khalil المحرر مايو 23, 2025
  • مقالات رأي

كيف أصبح “الأناناس” رمزاً للتحوّل السياسي في سوريا؟..المصدر :موقع درج……عمر الهادي – مدون سوري

khalil المحرر مايو 23, 2025
  • الأخبار

لبنان أمام خيارات حاسمة وواشنطن بالمباشر: تعلموا من الشرع مانشيت .المصدر : المدن

khalil المحرر مايو 23, 2025
  • مقالات رأي

سوريا بعد الأسد… تهريب المخدرات مستمر حايد حايد……..المصدر :المجلة

khalil المحرر مايو 23, 2025

اتصل بنا

  • Facebook
  • Instagram
  • Twitter
  • Youtube
  • Pinterest
  • Linkedin
  • الأرشيف
Copyright © All rights reserved. | MoreNews by AF themes.