القاعة التي تُعقد فيها كلّ الفعّاليّات المحبَّبة إلى الرئيس محمود عباس، بما في ذلك مؤتمرات حركة “فتح” والاجتماعات المتباعدة للمجلس المركزي، الذي تميّز آخر اجتماع له بمقاطعة واسعة النطاق من قبل فصائل مقاطِعة أصلاً كـ”حماس” و”الجهاد”، وفصائل من صلب منظّمة التحرير كـ”الشعبية” و”الديمقراطية” و”المبادرة”، مع مسامحة فصائل دمشق بغيابها.
وُلدت أجيال متعاقبة ونمت وشاخت منذ تأسيس منظّمة التحرير، واعتماد الزعماء العرب للمحامي أحمد الشقيري، الدبلوماسي المخضرم، رئيساً لها بقرار قمّة. أُطيح بالشقيري من جملة مَن أطاحت بهم هزيمة حزيران، إذ كان هدفاً نموذجياً لتحميله بعض المسؤوليّة عمّا حدث، إضافة إلى سهولة الاستغناء عنه، وفقاً لقاعدة ثابتة مفادها: “من أتى به يملك التخلّص منه”.
في عهد ياسر عرفات الطويل الأمد، كاد اسم الشقيري يُنسى تماماً، إذ لم يجرِ تداوله على أيّ مستوى فلسطيني أو عربي أو دولي، إلى أن آلت الأمور لمحمود عباس، الذي هو ثالث اثنين سبقوه، فأعاد الاعتبار للشقيري بأن سمّى قاعة المؤتمرات الرسمية باسمه، وقليلون يعرفون أنّ عبّاس لا يشارك الشقيري فقط في رئاسة المنظمة بل يشاركه اللقب، فالشقيري هو “أبو مازن” القديم، وعبّاس “أبو مازن” الراهن.
وُلدت أجيال متعاقبة ونمت وشاخت منذ تأسيس منظّمة التحرير، واعتماد الزعماء العرب للمحامي أحمد الشقيري، الدبلوماسي المخضرم، رئيساً لها بقرار قمّة
روزنامة محمود عبّاس
آخر فعّاليّة شهدتها قاعة “أبي مازن” القديم، تحت رئاسة “أبي مازن” الراهن، كانت الدورة الثانية والثلاثين للمجلس المركزي لمنظّمة التحرير، والمجلس إطارٌ لم يكن موجوداً في عهد الشقيري، بل وُجد في عهد عرفات ليكون حلقة وسيطة بين المجلس الوطني واللجنة التنفيذية، وقد أملى وجود هذا الإطار صعوبة عقد المجلس الوطني، الذي يعدّ أعضاؤه بالمئات، وسهولة انعقاد الحلقة الوسيطة الأقلّ عدداً والأقلّ إحراجاً لأيّ دولةٍ ينعقد في ضيافتها.
بعدما عادت المنظّمة على جناح الطائر غير الميمون أوسلو إلى أرض الوطن، صار ممكناً عقد المجلس، لكن على روزنامة محمود عبّاس وحاجته السياسية والقيادية لعقده.
في قاعة أحمد الشقيري، وكعادة الطبقة السياسية الفلسطينية، تُلِيَ جدول أعمال الدورة الثانية والثلاثين، وكان كثير البنود عظيم الصياغة، وكأنّ الدورة ستُخرج الحالة الفلسطينية من مآزقها، بينما الهدف الحقيقي لها هو استحداث منصب نائب لرئيس المنظّمة، وهو منصب كان معمولاً به زمن “أبي مازن” القديم، واستؤنف العمل به في أوائل عهد عرفات. ونظراً لاستحواذ الرئيس الفدائيّ على صلاحيّات نائبه وكلّ من يعمل معه، فقد استقال النائب إبراهيم بكر محتجّاً على وضعه، واستقال معه المنصب الذي أعاد استحداثه “أبو مازن” الراهن.
لو كان الرئيس محمود عبّاس متأكّداً من أنّ وجود نائب لرئيس المنظّمة أمر ضروريّ وأساسيّ في بنية النظام الفلسطيني، لعمل به منذ الأيّام الأولى لولايته، مع أنّ اجتماعات عديدة للمجلس الوطني والمركزي عُقدت في عهده، ولم يُطرح اقتراحٌ بهذا الصدد.
في عهد ياسر عرفات الطويل الأمد، كاد اسم الشقيري يُنسى تماماً، إذ لم يجرِ تداوله على أيّ مستوى فلسطيني أو عربي أو دولي، إلى أن آلت الأمور لمحمود عباس
مئة في المئة!
الرئيس عبّاس معروفٌ بصراحته غير المألوفة، والبوح بما يجول داخل نفسه من انفعالات. فهو يبوح بشكواه التي يفسّر بها شعوره المرير بالخذلان، خصوصاً من جانب أميركا التي خاطبها أكثر من مرّة بعبارة “رضينا بالهمّ ولم يرضَ بنا”، واستصرخها ألف مرّة ولو بغلاف المجتمع الدولي: “احمونا”. ونظراً لشعوره العميق بالخذلان لم يترك مفردة إلّا واستخدمها حتّى إنّه خاطب الرئيس دونالد ترامب بـ “يخرب بيتك”.
في الاجتماع الأخير بدا حانقاً على “حماس”، وبلغ انفعاله على إطالة أمد لعبة الرهائن والتبادل، وما تنتجه من ضحايا، مستوىً لم يسبق أن بلغه في كلّ خصوماته مع الآخرين، وخصوصاً الفلسطينيين منهم.
لسوء الحظ أنّ مفردةً نابيةً استخدمها في وصف موقف “حماس”، استحوذت على اهتمام كلّ من شاهد وسمع، وكأنّه لم يقُل غيرها في خطابه الطويل.
إقرأ أيضاً: الإصلاح التّجميليّ الفلسطينيّ.. وحزب الجمود الوطنيّ
انتهى اجتماع قاعة الشقيري إلى قرارٍ يشبه نتائج الانتخابات النيابية المسيطَر عليها في بعض الدول، حيث التسعات الثلاث هي الرقم الثابت. وفي قاعة الشقيري تفوّق الرقم الفلسطيني على كلّ ما سبقه من تسعات، إذ بلغ مئة في المئة، باستثناء صوتٍ واحدٍ معترض وصوت آخر ممتنع.
رحم الله “أبا مازن” الشقيري، ورحم الله ياسر عرفات القديم والحاضر حتّى بعد الممات، وسقى الله العهد الذهبي لمنظّمة التحرير التي شهدت قاعة الشقيري آخر اجتماع لها كان مقاطعوه أكثر من الحاضرين فيه.