مثلما كانت هناك مصادفات وقعت مع أشخاص، لامست وعيهم وحرّضت عقلهم العلمي والمقارن، فاستغلوا هذه الومضة، أو الالتماعة، للمضي في طريق الأسئلة والبحث عن إجابات حولها، وفي هذا السياق قدموا للبشرية مبادئ أساسية بنى عليها العقل البشري كثيرًا من علومه وحضارته، كذلك حصل معي منذ أسابيع قليلة، لكن ما وقع لم يكن التماعة عقل علمي، إنما ومضة شعورية في داخلي، أنارت أعماقي ومدتني بدفء جميل، استدرج ذاكرتي منذ أن كنت طالبة في كلية الطب البشري، عندما درست علوم الأشعة وتاريخها.
بينما كنت أتقدّم في أرجاء واحد من أعظم المشافي الجامعية في أوروبا، في مدينة برلين تحديدًا، مشفى شاريته، مدفوعة فوق سرير صحي من قبل عناصر الخدمة الصحية، باتجاه قسم التشخيص بالأشعة، طالعني تمثال رجل يقبع في زاوية من فسحة انتظار، لرجل، مكتوب في قاعدته اسم: فيلهلم كونراد رونتجن Wilhelm Conrad Röntgen. ربما لا أستطيع وصف حالتي العاطفية لحظتها، شعرت، ليس بفضل هذا الإنسان على البشرية من خلال ما قدم في الحقل الفيزيائي والطبي فحسب، إنما بفضله عليّ شخصيًا، ما دام أنني أسعى لإجراء تصوير شعاعي أحتاج إليه.
في الواقع، بات معظمنا يعرف ويفهم، عندما تتردد أمامه بعض المصطلحات، أنها تقنيات تصوير تستخدم للتشخيص في علم الأمراض، أو المجال الطبي، إذ ظهر عديد من تقنيات التصوير الطبي المتطورة في العقود الأخيرة كتقنية التصوير بالموجات فوق الصوتية، والماسح الضوئي، والتصوير بالرنين المغناطيسي، والتصوير المقطعي بالإصدار البوزيتروني، والتصوير الومضاني، لكن يبقى للتصوير بالأشعة السينية، او أشعة رونتجن، كما يسميها الألمان، ألقها وحضورها الراسخ، فهي على الرغم من مرور أكثر من قرن وربع القرن على اكتشافها واستخدامها، لم تصبح حكاية قديمة في سياق الحضارة الإنسانية، بل هي حدث انبثق ذات لحظة إبداعية واستمر في مسيرته الحية، لأنها ما زالت قادرة على التطور.
وربما تكون الأشعة السينية واحدة من أكثر الفحوصات الطبية شيوعًا (لو فكرنا في استخدامها في العناية بالأسنان فحسب، على سبيل المثال، ألا يكفي ما نعرفه لنكون مقتنعين بذلك؟). على الرغم من أنها ليست تقنية جديدة، إلا أنها لا تزال تثبت أنها فعالة ومفيدة للغاية. يمثل اكتشاف الأشعة السينية من قبل فيلهلم كونراد رونتجن في تشرين الثاني/ نوفمبر 1895 تطورًا حقيقيًا في التقنيات الطبية.
فمن هو هذا العالم الجليل، الذين أدين له شخصيًا بفضل عظيم، وما هو تاريخ اكتشافه هذا، ومسيرته إلى اليوم؟
بحلول نهاية القرن التاسع عشر، كان علم الفيزياء يتقدم بسرعة، حيث استكشف العلماء حدودًا جديدة للمعرفة. في هذا المناخ من الفضول العلمي، توصل فيزيائي ألماني يدعى فيلهلم رونتجن إلى اكتشاف عرضي، ولكنه ثوري، كان من شأنه أن يغيّر مسار الطب والتصنيع والسلامة إلى الأبد. في 8 تشرين الثاني/ نوفمبر 1895، وفي أثناء تجربة أنابيب أشعة الكاثود (تسمى الأقطاب الكهربائية، أنود “القطب السلبي” والكاثود “القطب الإيجابي”)، في مختبره في جامعة فورتسبورغ. لاحظ Röntgen ظاهرة مفاجئة وغريبة: توهج فلورسنت ينبعث من شاشة قريبة، على الرغم من أنها لم تتعرض بشكل مباشر لأشعة الكاثود. أثارت هذه الظاهرة الغريبة فضول رونتجن ودفعته إلى البحث بشكل منهجي عن سبب هذا التوهج الغامض.
من دون أن يحبطه عدم اليقين الأولي المحيط بهذا النوع الجديد من الإشعاع، شرع رونتجن في سلسلة من التجارب المنهجية لكشف خصائصه وسلوكه. أطلق على هذه الأشعة مؤقتًا اسم “الأشعة السينية” بسبب طبيعتها غير المعروفة في ذلك الوقت. من خلال المراقبة والاختبار الدقيق، اكتشف رونتجن أن هذه الأشعة السينية تمتلك قدرة رائعة على المرور عبر اللحم البشري، ولكن يتم اعتراضها، أو حظرها، بواسطة مواد أكثر كثافة مثل العظام أو المعدن. فتح هذا الإدراك عالمًا من الاحتمالات للتشخيص الطبي والاختبارات. في 22 كانون الأول/ ديسمبر 1895، بعد ستة أسابيع من العمل في مختبره، نجح في التقاط صورة لليد اليسرى لزوجته، حيث تظهر العظام وخاتم الزواج بوضوح. وهكذا كانت بيرثا رونتجن، التي عرضت يدها للأشعة الجديدة لمدة نصف ساعة بناء على طلب زوجها، أول شخص تم أخذ الأشعة السينية منه، بل إنها أبدت دهشتها وذعرها حينها بقولها إنها ترى صورة الموت في صورة يدها.
وفي محاضرة ألقاها أمام القيصر فيلهلم الثاني في 12 كانون الثاني/ يناير 1896، قدم رونتجن اكتشافه للجمهور، وفي 23 كانون الثاني/ يناير، ألقى محاضرة للمستمعين المتحمسين من جميع دوائر العلوم والمجتمع في قاعة المحاضرات المزدحمة بمعهد الفيزياء. بعد المحاضرة، اقترح عالم التشريح ألبرت كوليكر إعادة تسمية “الأشعة السينية” بـ “أشعة رونتجن”، والتي تم قبولها على الفور من قبل الجمعية برئاسة كارل برنهارد ليمان.
شخصيته، ولادته، وفاته
يوصف كونراد رونتجن (27 مارس/ آذار 1845ـ 10 فبراير/ شباط 1923) بأنه شخص انطوائي. أكثر ما كان يميزه تواضعه وإحساسه بالعدالة. تبرع بمبلغ قدره 50.000 كرونة من قيمة جائزة نوبل التي نالها في الفيزياء عام 1901 لجامعة فورتسبورغ. تنازل أيضًا عن براءة اختراعه، ما يعني أن جهاز الأشعة السينية الخاص به انتشر بسرعة أكبر. عندما سئل، أخبر AEG أنه يرى أن “اختراعاته واكتشافاته تنتمي إلى عامة الناس ولا تنتمي إلى مؤسسات فردية من خلال براءات الاختراع واتفاقيات الترخيص وما شابه ذلك”، وهذا يدل على نبل شخصيته وقيمه العليا، وإيمانه بالعلم وبرسالته الإنسانية.
نشر فيلهلم كونراد رونتجن 60 ورقة علمية في حياته المهنية، ويقال إنه كتب أول ورقة علمية له في سن الـ 20، كانت مراجعة في الكيمياء. يظهر هذا العمل وحده قدرة رونتجن على ترتيب أفكاره وتخطيطها جيدًا من أجل الوضوح وعدم الالتباس. في العديد من أعماله، اشتغل رونتجن في مجالات الديناميكا الحرارية والديناميكا الكهربائية، حيث قام بالتحقيق في التفريغ الكهربائي في ظل ظروف مختلفة. ومع ذلك، كانت فيزياء الكريستال هي اهتمامه الأكبر لأن جمالياتها وجمالها أذهله، فهل كان يستبطن أيضًا موهبة فنية؟ ربما.
في 22 كانون الأول/ ديسمبر 1895، بعد ستة أسابيع من العمل في مختبره، نجح في التقاط صورة لليد اليسرى لزوجته، حيث تظهر العظام وخاتم الزواج بوضوح
ما قبل رونتجن في مسيرة العلم التراكمية
في عام 1838، اهتمّ الكيميائي والفيزيائي البريطاني فاراداي بتفريغ الشحنات الكهربائية في الغازات النادرة، ثم اعتقد، نتيجة تجاربه على القطبين، السلبي والإيجابي، أنه اكتشف حالة رابعة من المادة أسماها “المادة المشعة”. تكررت هذه التجربة طوال القرن التاسع عشر، لكن طبيعة الظاهرة التي لوحظت ظلت غير مفهومة جيدًا، إلى أن لاحظ الفيزيائي الألماني بلوكر أن: الجهد العالي يسبب فقط ومضانًا أخضر على جدران معينة من الأنبوب الزجاجي وعلى وجه الخصوص أمام الكاثود (القطب الإيجابي). ليثبت هيتورف في عام 1869 أن أشعة الكاثود يمكن أن تنحرف بواسطة مغناطيس.
في وقت لاحق، قام الكيميائي والفيزيائي كروكس بتطوير الجهاز وذلك بإنشاء الأنابيب التي حملت اسمه، أنابيب كروكس، التي سمحت للفيزيائي الإنكليزي طومسون بتوضيح طبيعة أشعة الكاثود من خلال اكتشاف الإلكترون.
الأشعة السينية، الاكتشاف العرضي الذي غيّر العلم والعالم
بحلول نهاية القرن التاسع عشر، كان مجال الفيزياء يتقدم بسرعة، حيث استكشف العلماء حدودًا جديدة في المعرفة. في هذا المناخ من الفضول العلمي، توصل الفيزيائي الألماني فيلهلم رونتجن إلى اكتشاف عرضي، ولكنه ثوري كان من شأنه أن يغير مسار الطب والتصنيع والسلامة إلى الأبد.
“اشتغل رونتجن في مجالات الديناميكا الحرارية والديناميكا الكهربائية، حيث قام بالتحقيق في التفريغ الكهربائي. ومع ذلك، كانت فيزياء الكريستال هي اهتمامه الأكبر لأن جمالياتها أذهلته”
ففي عام 1895، درس رونتجن البالغ من العمر 50 عامًا إشعاع الكاثود باستخدام أنابيب كروكس. وبشكل أكثر تحديدًا، كان مهتمًا باختراق الأشعة الزجاج. بعد أن لاحظ أنّ أشعة الكاثود يمكن أن تخترق جدار الأنبوب وتتمادى بضعة سنتيمترات في الهواء. ذات مساء، في مختبره، قرر تغطية الأنبوب بغطاء من الورق المقوى الأسود. ثم لاحظ أن الشاشة المغطاة بطبقة من البلاتينيسيان الباريوم الموضوعة بالصدفة أمام الأنبوب أصبحت فلورية أثناء التفريغ. ومع ذلك، كان يعلم أنه على هذه المسافة، لا يمكن أن يكون التألق بسبب أشعة الكاثود. قام بتحريك الشاشة بعيدًا ولاحظ أن التألق استمر على الرغم من الزيادة في طبقة الهواء التي سيتم تمريرها. راح يدخل أشياء بين المصباح الكهربائي والشاشة، أوراقًا عادية أو من الألومنيوم، الخشب والزجاج وحتى كتابًا من ألف صفحة. في كل مرة كان التألق يستمر، فخلص إلى أنه اكتشف للتو إشعاعًا مختلفًا عن الإشعاع المنبعث من الكاثود، والذي كان نفاذًا للغاية لأنه كان قادرًا على المرور عبر المادة. نظرًا لأن هذه الأشعة لم تكن معروفة حتى ذلك الحين، فقد أطلق عليها اسم “X” المصطلح الذي يشير إلى المجهول في علم الرياضيات. أمضى جلّ وقته في الأسابيع الأخيرة من عام 1895 في مختبره يقوم بتجاربه، لاحظ أنه “إذا وضع المرء يده بين جهاز التفريغ والشاشة، يرى المرء الظل الأغمق لعظام اليد في الصورة الظلية الأقل قتامة لليد، فأخذ أول أشعة سينية في 22 كانون الأول/ ديسمبر 1895، حيث أدخل يد زوجته بين أنبوب كروكس ولوحة تصوير فوتوغرافية، وظهرت عظام اليد، وخاتم الزواج في الإصبع الوسطى”.
حصل رونتجن على أول جائزة نوبل في الفيزياء في عام 1901 تقديرًا “للخدمات غير العادية التي أصبحت ممكنة من خلال اكتشافه للأشعة الرائعة التي تحمل اسمه”.
كيف التقط العالم هذا الكشف الواعد؟
أثارت الأشعة السينية على الفور اهتمامًا كبيرًا بين الجمهور، إذ شاع خبر اكتشاف الأشعة السينية حول العالم في الصحافة، وسرعان ما أدركت مهنة الطب أهمية ما توفره تقنية التصوير هذه. قدّم طبيب الأسنان الألماني Walkhoof أول أشعة سينية للأسنان بعد أسبوعين فقط من تواصل Röntgen مع جمعية فورتسبورغ الطبية الفيزيائية. استخدمت الأشعة السينية لنشر الصور الطبية في جميع أنحاء العالم عام 1896، بل إنه خلال الحرب العالمية الأولى، كانت ماري كوري وراء إنشاء قسم الأشعة للقوات المسلحة، والذي ترأسته. وزودت الشاحنات بمعدات الأشعة السينية، الملقب ب “الكوري الصغير”، ما جعل من الممكن الذهاب إلى الجبهة لعلاج الجرحى الذين لا يمكن إعادتهم إلى الخلف. تم إجراء أكثر من مليون فحص إشعاعي خلال الحرب، وبالتالي تجنب المضاعفات وربما إنقاذ حياة الآلاف من المقاتلين.
خلال هذه المسيرة للاكتشاف المذهل الذي قام به رونتجن، أصبحت الأشعة السينية تقنية تستخدم بشكل وقائي (مثل متابعة التصوير الشعاعي للثدي)، ولإجراء التشخيص (مثل الأشعة السينية للأسنان)، ولكن أيضًا لأداء عمل علاجي (مثل تصوير المثانة بالغاز). ولقد تطورت كثيرًا، في مجالات استخدامها، وتطبيقاتها، وعوامل السلامة والتقليل من الأخطار التي كانت تسببها، ولذلك يمكن القول إن الخطر المتكبد فيما يتعلق بالفحص الإشعاعي، إن لم يكن صفرًا، سيكون منخفضًا جدًا إذا تم احترام البروتوكولات والتوصيات، وتعويضه إلى حدّ كبير من خلال الفائدة التي تم الحصول عليها، مما يبرر بشكل كبير الاستمرار في استخدام الأشعة السينية.
اليد ذات الخاتم، وانفتاح الآفاق بعدها
أول صورة بالأشعة السينية، والتي أسّست لهذا العلم والمجال التطبيقي الرائد والعظيم في تاريخ البشرية الحالي، هي الصورة التي أطلق عليها اسم “اليد ذات الخاتم”، صورة زوجته بيرثا، كما أسلفنا، لم تكن هذه الصورة الرائدة بمنزلة بداية حقبة جديدة في التصوير الطبي فحسب، بل أظهرت أيضًا الإمكانات المذهلة للأشعة السينية في تصور الهياكل الداخلية لجسم الإنسان بدون إجراءات جراحية.
في الواقع، أحدث اكتشاف الأشعة السينية بداية ثورة في عالم الطب، إلا أن القدرة على “الرؤية” داخل الأجسام الصلبة فتحت أيضًا إمكانيات جديدة في التصنيع ومراقبة الجودة لاحقًا، إذ وفرت الأشعة السينية إمكانية تحديد العيوب الداخلية أو الفراغات أو الشوائب التي كانت غير مرئية بالعين المجردة، فسمحت طريقة الاختبار هذه بمراقبة الجودة بدون المساس بسلامة المنتج النهائي، مما أدى إلى تحسين معايير الموثوقية والسلامة في مختلف الصناعات.
يمكن كتابة مئات الصفحات، إن لم يكن آلاف الصفحات، عن هذا الكشف الثوري في تاريخ البشرية، الذي ما زال إلى اليوم، على الرغم من مرور مائة وثلاثين عامًا على إشهاره، في مركز الاهتمام العالمي، من أجل تطويره ووضعه في خدمة الإنسان في مجالات كثيرة من حياة البشرية.
سلام لروح رونتجن، معلمي، ومعلم الملايين، وصاحب الفضل العظيم على البشرية والذي توفي بسرطان القولون.