خطابات وزيري التعليم والثقافة أثناء إعلان التشكيل الحكومي لم تشِ بأيّ تغيّر في عقل الدولة السوريّة، فبدلًا من أن يُبشّر وزير الثقافة بانفتاح وزارته على كل لغات سوريا وثقافاتها، والوعد بإبراز كلّ هذا التنوّع، انطلق بِشِعرٍ يرمز إلى التملّك الأبديّ، كما أسماه، إلى “يوم القيامة” لدمشق.
في ثمانينات القرن العشرين، دخل رجلٌ مبنى وزارة الثقافة السوريّة في دمشق، حاملاً بيده مخطوطةً كان ترجمها من العربيّة، لغة البلاد الرسميّة، إلى اللغة الكُرديّة، متقدّماً بطلب طباعة المخطوطة على حساب الوزارة.
الرجل كان السياسيّ الكُرديّ ابن مدينة عفرين رشيد حمو (1925–2010)، أمّا المخطوطة فكانت عبارة عن خطاب قسمٍ طويل للرئيس السوري حافظ الأسد.
كان غرض رشيد حمو من مغامرته تلك حفرَ ثُقبٍ بإبرة في جبل النكران بين اللغة الكرديّة ومؤسّسات الدولة السوريّة الرسميّة، محاولة لنزع الاعتراف الرسميّ بلغته الأم، حتى لو كان عبر ترجمة خطاب لحافظ الأسد. فالرجل لم يكن مُعجباً به حتماً، ولا بسياساته الإنكاريّة.
ولأنّ الخطاب كان خطاب الرجل الأوّل في سوريا، طلب موظّفو الوزارة بضعة أيّام لدراسة المخطوطة، قبل أن يأتي الرّفض الرسميّ على نقل أقوال الأسد في “جمهوريّة الصّمت” إلى الكُرديّة.
تذكّرتُ الحادثة تلك مع تشكيل الحكومة السوريّة الجديدة، والتي من المفترض أنّها ستعكس وجهة “الجمهوريّة الجديدة”، وإن كان الحديث حول الوزارات السياديّة حاضراً، فأكثر الوزارات التي يمكن أن تعكس تغييراً جوهريّاً في تعاطي مؤسّسات الدولة مع الكُرد وغير العرب ستكون وزاراتي الثقافة والتربية والتعليم، الى درجة يمكننا إطلاق مصطلح “وزارات غير العرب السياديّة في سوريا”.
من خلال عمل هاتين الوزارتين تحديداً، وقراراتهما، سيكتشف الكُرد وغيرهم مدى تغيّر عقل الدولة السوريّة وفهمها تنوّع مجتمعها بلغاته وثقافاته.
وإن كانت خطابات الوزيرين أثناء إعلان التشكيل الحكومي لم تشِ بأيّ تغيّر في عقل الدولة السوريّة – بافتراض أنّ الثورة السوريّة قامت على هذا العقل، وليس فقط بغرض تغيير السّلطة – فبدلًا من أن يُبشّر وزير الثقافة بانفتاح وزارته على كل لغات سوريا وثقافاتها، والوعد بإبراز كلّ هذا التنوّع، انطلق بِشِعرٍ يرمز إلى التملّك الأبديّ، كما أسماه، إلى “يوم القيامة” لدمشق. وهنا نحن نتكلّم عما سُمِّيَ بـ”الحقوق الثقافيّة للكُرد وغير العرب من السوريّين”، لا عن مطالب سياسيّة للجماعات غير العربيّة. تلك الحقوق التي من المفترض أنّها ليست نقاط خلاف من حيث المبدأ، بعدما تطوّعت السلطة لمراعاتها وإحقاقها في الإعلان الدستوري.
ما يزيد تأكيد أنّ معالي الوزير الشاعر يريد أن يكون وزير اللغة العربيّة والثقافة العربيّة فقط في سوريا، هو تداول تصريحات قديمة له، يعتبر فيها اللغة السريانيّة مجرّد لهجة من لهجات العرب، ما يعكس نقصاً معرفيّاً كبيراً بالتنوّع اللغوي والثقافي للمجتمع السوري. هذا التنوّع الذي من المفترض أن تفتح وزارته أبواب مسارحها ومطابعها له، بعدما بقيت هذه الأبواب مغلقة لعقود.
كذلك، وعلى رغم أصول وزير التربية والتعليم الكُرديّة، فإنّه لم يُقدِّم، أو ربما لم يُسمَح له بالإعلان – إلى الآن – عن خطّته، إن وُجدت، لحلّ معضلة التعليم باللغة الأم، التي هي مطلب كُرديّ أساسي، وهي ردّ اعتبار لأجيال من الكُرد السوريّين الذين فشلوا في دخول الجامعات، بسبب اعتبار اللغة العربيّة لغةً مرسِبة، بخاصة الأجيال الأولى منذ تأسيس الدولة السوريّة، حيث كان معظم الكُرد لا يُتقنون يومها العربيّة إلا بالحدّ الأدنى، ربما ما يكفي لأداء الصلوات، أمّا الدخول الكُرديّ المُكثّف للجامعات فلم يبدأ إلا ابتداءً من ثمانينات القرن الماضي وتسعيناته.
في حادثة شخصية، وصل في نهاية خمسينات القرن العشرين أستاذ للغة العربية قادماً من الساحل السوري إلى قرية جدي في عفرين، فسكن في بيت مجاور. وللصداقة التي تشكلت بينه وبين جدي وتكريماً له، أطلق اسمه على ابنه الذي هو أبي، قبل أن يكبر أبي ويفشل لثلاث سنوات متتالية في اجتياز شهادة الثانوية، بسبب رسوبه في مادة اللغة العربية.
في لقاء تلفزيوني على إحدى القنوات الكُرديّة، قال وزير التربية والتعليم بالكُرديّة إنّه سيجد حلاً لكلّ الـ “Pizikan” – وكان يقصد في السياق “Pirsgirêk” – ربما لم تُسعفه لغته الكُرديّة الأم، التي حُرِم التعلّم بها، في النطق السليم، وكان ذلك ظهوره الإعلاميّ الأوّل بالكُرديّة.
أمّا الفرق بين الكلمتين، فالأولى تعني “الدمامل”، والثانية تعني “المشاكل”، ولا نعلم: هل يريد الوزير إيجاد حلٍّ لمشاكل سوريا التعليميّة، أم فعلاً قصد علاج الدمامل الموجودة على وجه سوريا وجسدها؟