في ظلّ التحديات الجيوسياسية التي تواجهها العديد من المناطق المؤثّرة على مستوى الساحة الدولية وفي ظلّ التحديات الاقتصادية التي تواجهها الدول التي تمرّ بمراحل انتقالية وتعاني من اضطرابات وحروب وأزمات وانقسامات، تبرز الفيدرالية كأحد الحلول الجيوسياسية الفعّالة لتعزيز التنمية وتحقيق العدالة.
يُقدِّم النموذج الأمريكي مثالاً حديثاً على نجاح النظام الفيدرالي في دفع عجلة الاقتصاد، بينما يكشف التاريخ الإسلامي عن جذور عميقة لهذا النظام تمّ تطبيقها في إدارة الأقاليم منذ عهد نبيّ الإسلام ثمّ عهدَيْ أبي بكر وعمر بن الخطاب، وهذا هو جوهر الطرح الذي يقدّمه المركز الدولي للدراسات الجيوسياسية والاقتصادية (ICGER) برئاسة العالم السياسي الدكتور محمد وليد يوسف حول الطرح الفيدرالي في سوريا، كحلّ لكافة أزماتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية وتنوّعها الديمغرافي والإثني والديني والقومي، وقد قدّم البراهين والأدلّة الأعلام على أنّ هذا الخيار هو الأصلح لسوريا ولكافة دول المنطقة التي تواجه أزمات وحروبًا وانقسامات.
وقد عرض الدكتور يوسف في مؤتمر “مبادرة الحلّ الفيدرالي في سوريا.. نحو شرق أوسط آمن ومستقر“، نماذج من حكم النظام الأقاليمي في الإسلام والصلاحيات الواسعة التي منحها المركز (المدينة المنوّرة) لولاة الأقاليم والولايات، كما أشار إلى أنّ هذا النظام يسمح لكلّ إقليم الاستفادة من الموارد والثروات التي يملكها ويقدّم فقط ما يتوجّب عليه للمركز مع احتفاظه بالفائض لديه.
وكذلك قدّم الدكتور يوسف الولايات المتحدة الأمريكية كنموذج للفيدرالية الحديثة وكيف أنّ الولايات تستثمر بثرواتها ومواردها الاقتصادية ما يجعلها ذات منفعة متبادلة بينها وبين المركز، بحيث لا تتفوّق هي على المركز وكذلك لا يبخس المركز حقوقها ومكتسابها من الموارد والثروات.
الفيدرالية في النموذج الأمريكي: محرّك للاقتصاد
لقد سمحت الفيدرالية الأمريكية للولايات بإدارة مواردها المحلية وفقاً لاحتياجاتها، وهو ما يعزز الكفاءة ويجذب الاستثمارات. فعلى سبيل المثال، استفادت تكساس من استقلاليتها في قطاع الطاقة لتصبح أحد أكبر المنتجين للنفط عالمياً.
كذلك فإنّ الولايات تتنافس لجذب الشركات عبر تقديم حوافز ضريبية وبنية تحتية متطورة، ما يخلق بيئة أعمال ديناميكية.
كما أنّ توزيع الصلاحيات بين الحكومة الفيدرالية وحكومات الولايات يحدّ من تركيز السلطة، ويُسهل محاسبة المسؤولين، فخلال جائحة فيروس “كورونا” (كوفيد-19) التي اجتاحت العالم، تمكَّنت الولايات من تطبيق سياسات صحية واقتصادية تلائم ظروفها المحلية، مثل ولاية كاليفورنيا التي خصّصت حزم دعم للشركات الصغيرة.
وفي إطار الفيدرالية الأمريكية، أطلقت الحكومة الفيدرالية برامج استثمارية ضخمة لتعزيز البنية التحتية الرقمية، مثل برنامج “Broadband Equity, Access, and Deployment” الذي يهدف إلى توسيع الوصول إلى الإنترنت عالي السرعة في المناطق الريفية. من المتوقع أن يسهم هذا البرنامج في زيادة الناتج المحلي الإجمالي الأمريكي بما يصل إلى 127.3 مليار دولار وخلق نحو 230,000 وظيفة جديدة، ما يظهر كيف يمكن للتعاون بين الحكومة الفيدرالية والولايات أن يؤدي إلى نتائج اقتصادية ملموسة.
وفي ثلاثينيات القرن الماضي، أُقرّ قانون كهربة المناطق الريفية كجزء من “الصفقة الجديدة” لتحفيز الاقتصاد الأمريكي. فقد قدمت الحكومة الفيدرالية قروضًا منخفضة الفائدة لتأسيس تعاونيات كهرباء في المناطق الريفية، وهو ما أدى إلى زيادة الإنتاجية وتحسين جودة الحياة في تلك المناطق. وبحلول عام 1953، تمّ توصيل الكهرباء إلى أكثر من 90% من المزارع والمنازل الريفية، ما ساهم في النمو الاقتصادي بعد الحرب العالمية الثانية.
الفيدرالية في التاريخ الإسلامي: أسس العدالة الاقتصادية
أمّا على مستوى التاريخ السياسي في الإسلام، فيمكن تلخيص الفوائد الاقتصادية لنظام الحكم الأقاليمي الإسلامي بالآتي:
استقلالية الأقاليم في إدارة الموارد: فقد كان لكل إقليم (كخيبر ونجران) حق إدارة خراجه المحلي، مع إرسال الفائض إلى المركز، وهو ما يشجِّع الإنتاجية ويحفّز الأقاليم على تنمية مواردها من دون الاعتماد الكلي على المركز.
العدالة في توزيع الثروة: فقد نصت القاعدة القرآنية ﴿لِتَعَارَفُوا﴾ على الاعتراف بالتنوع كأساس للتعاون، ما دفع إلى توزيع عادل للثروة بين الأقاليم، كما في عهد عمر بن الخطاب الذي أنشأ الدواوين لتنظيم الخراج والجند والعمّال والأعمال.
تقليل النزاعات الاقتصادية: من خلال تفويض الصلاحيات المحلية للأقاليم، تجنَّب النظام الإسلامي الصراعات الناجمة عن التمركز المالي، كما حدث حين رفضت بعض الأقاليم الانفصال في عهد أبي بكر، ما حافظ على وحدة الاقتصاد الإسلامي.
تشجيع التنوع الاقتصادي: اختلفت موارد الأقاليم بين الزراعة (كخيبر) والتجارة (كمكة)، ما خلق تكاملاً اقتصادياً يعزز الاكتفاء الذاتي للإمبراطورية.
الدروس المُستفادة لسوريا: نحو اقتصاد فيدرالي مستدام
وبالتالي، وبناءً على النموذجين الأمريكي والإسلامي، يمكن لسوريا أن تستفيد من الفيدرالية عبر:
تفعيل اللامركزية الإدارية: تمكين المحافظات من إدارة مواردها كالنفط والزراعة، مع ضمان توزيع عادل للإيرادات.
إنشاء دواوين اقتصادية: على غرار ديوان الخراج العُمري، لتنظيم الموارد ومحاربة الفساد.
تشجيع الاستثمار المحلي: عبر منح الحوافز للمناطق الأكثر تضرراً، كحلب وإدلب، لإعادة الإعمار.
تعزيز التكامل بين المناطق: كربط شبكات النقل بين الأقاليم لتنشيط التجارة الداخلية.
في الخلاصة، فإنّ الفيدرالية ليست نظاماً سياسياً فحسب، بل هي ركيزة للنهوض الاقتصادي. فكما نجح النموذج الأمريكي في خلق اقتصاد تنافسي، وكما حقق النظام الإسلامي عدالة اقتصادية عبر التاريخ، يمكن لسوريا أن تبني مستقبلاً مزدهراً باعتماد فيدرالية توازن بين سلطة المركز واستقلالية الأقاليم.