كان الآباء المؤسّسون لكيان الدولة السورية يتشاركون في عقليّة أو آلية تفكير سياسي غير ناضجة، ما يعود إلى طبيعة نضالهم ضدّ الاستعمار، ومن مرتكزات هذه العقلية إنكار وجود الأقليات، فمن 1928 وحتى 1939 كانت فرنسا قد ابتزّتهم مستخدمة هذه المسألة. وبهذا؛ بدا طبيعياً، من دون أن يكون مبرّراً، أن تتّسم سياسة الآباء المؤسّسين، سواءً إبّان الانتداب أو بعده مباشرة، بمنحى إقصائي ضدّ الأقليات، وهذا راجع إلى إدراك هؤلاء السياسات الكولونيالية الأوروبية التي استخدمت مسألة الأقليات لتقسيم المنطقة. على أنّ الأقليات في سورية كانت هي المبادرة للسعي إلى دخول حظيرة الوطن، وناضل شبابها المثقف لرفع مستوى وعي جماعاتهم، للوصول إلى الاستنتاج المصيري أنّ لا ضامن لبقائهم سوى الاندماج بالكيان والدولة. في المحصلة، جرى توحيد التراب من دون توحيد القلوب، واستفحلت “مسألة الأقليات”، إحدى العلل الرئيسية في الكيان السوري الحديث، في الوطن المنشود وغير المكتمل.
ومن رحم مسألة الأقليات ولدت “المسألة العلويّة” على يدَي نظام آل الأسد، فكان ما كان من اعتماده على العلويين في المناصب التي تحميه وتضمن أبديّته، ولم يكن ذلك خيار العلويين جماعةً، بل حصيلة تخريب ممنهج قام به آل الأسد. وبمرور سنوات طويلة، تحوّل العلويون إلى رعايا بدرجة مُضاعفة عن غيرهم، فهُم رعايا في دولة تسلّطية لا تعترف بالمواطنة، ورعايا الشريحة الصغيرة من طائفتهم التي تمنحهم مكرمات حياة الكفاف. وفي الوقت ذاته، كان جهل السوريين بأحوال غيرهم من السوريين، وانتشار الأفكار المغلوطة، قد أدّى إلى تنامي الضغينة الشعبية تجاه العلويين، باعتبارهم الجماعة صاحبة الامتياز، وهذا ما استثمر به آل الأسد فجرى تعزيز كراهية السُنّة ضدّ العلويين، وخوف العلويين من احتقان السُنّة، ولابدّ من الاعتراف بأنّ سنوات الثورة لم تفعل شيئاً تجاه هذه القنبلة الاجتماعية الموقوتة، وهذا ما أوجد نبوءةً عند الطرفَين، تقول بحصول مجزرة طائفية رهيبة ضدّ العلويين بعد سقوط النظام، خشيَ منها بعضهم وتمنّاها جمهور عريض للأسف.
وبالفعل، تحقّقت النبوءة، وجرت مذبحة طائفية ضدّ العلويين. نعم، كان هذا متوقّعاً، وربّما محتوماً. لكن، ما هي مخاطر ما حدث على أرض الواقع اليوم وفي هذه المرحلة؟ الخطر في ما حدث يكمن في أنّ المجازر لم تحدث بعد سقوط النظام مباشرة، وردّة فعل على زواله، بل عندما كانت حكومة أمر الواقع هي المسؤولة عن أمن البلاد والعباد، وهناك من يتّهمها بأنها طرف شارك، بطريقة أو بأخرى، في هذه المجازر، فالفصائل “غير المنضبطة” التي أمعنت في القتل هي تشكيلات تتبع للحكومة. وقبل ذلك، كان الغرور قد أخذ بالحكومة في تعاطيها مع العلويين تحديداً، فلم تمتلك معرفة حقيقية بهم، ولا قدّرت أوضاعهم الاجتماعية.
سؤال آخر، نابع عن سؤال المخاطر: هل انتهت المسألة هنا؟ والجواب بالطبع: لا، بل بدأت بداية جديدة. فعدا عن أنّ الثقة قد فُقدت بين الحكومة وجماعة كاملة، فيها أغلبية وازنة من الراغبين بالاستقرار السياسي ومن كارهي آل الأسد، فاستمرار خطاب التبرير والإنكار لوقائع المذبحة، الذي يشمل شريحة غير صغيرة من مثقفين ونُخب، من محسوبين على الحكومة، أو متعاطفين معها، إنما يقول إنّ الضغينة والتمييز ليسا في طريقهما إلى الزوال. وما إنكار أو تسفيه ظاهر اختطاف فتيات علويات أخيراً إلا دليل آخر على ذلك. لقد تكرّس الشّرخ الاجتماعي بالدمّ، وهذا الشرخ هو، بلغة عزمي بشارة، من نُذر أزمة الدولة التي تهُزّ استقرارها، إن كنّا فعلاً في صدد بناء “دولة”.
google newsتابع آخر أخبار العربي الجديد عبر Google News
دلالات
الطا