في الأحياء الشعبية المزدحمة والأرياف المنسية، تتكرر الحكاية بصيغ مختلفة، موائد فارغة، أدوية مفقودة، وأحلام مؤجلة، لكن هذه المعاناة التي يعيشها السوريون منذ سنوات لم تعد ثابتة، بل تفاقمت مؤخراً مع موجة ارتفاع أسعار غير مسبوقة أعقبت صدور سلسلة من القرارات الجمركية الجديدة في أوائل العام 2025 الحالي، ما عمَّقَ الفقر المزمن وزادَ من هشاشة حياة ملايين السوريين.
صدرت في 11 من كانون الثاني (يناير) نشرة الرسوم الجمركية الجديدة الموحدة التي تسري على جميع الأمانات الجمركية في المنافذ البرية والبحرية والمطارات، وشمل القرار زيادة الرسوم الجمركية على عشرات السلع المستوردة، بما فيها مواد غذائية أساسية كالسكر والأرز والزيوت النباتية، إضافة إلى مواد أولية صناعية وأدوية وقطع تبديل للسيارات والأجهزة الإلكترونية.
وجاءت الإجراءات الضريبية والجمركية الأخيرة التي اتخذتها الحكومة السورية الجديدة لتُثير موجة من الاستياء الشعبي في مختلف المحافظات، في ظل الأوضاع الاقتصادية الصعبة التي تعيشها سوريا منذ سنوات. هذه القرارات، التي تهدف إلى زيادة الإيرادات الحكومية وتقليص العجز المالي، جاءت في وقت يعاني فيه غالبية السوريين من الفقر المدقع وندرة مصادر الدخل، مما زاد من ظروفهم الحياتية القاسية وأثّرَ سلباً على قدرتهم الشرائية وحياتهم اليومية.
ودافعت الحكومة السورية الانتقالية عن القرار باعتباره «خطوة لتعزيز الإنتاج المحلي وتقليص العجز المالي». وقال مازن علوش، مدير العلاقات في الهيئة العامة للمنافذ البرية والبحرية لوكالة سانا في وقت سابق، إن «الرسوم الجديدة خفّضت الرسوم المعمول بها سابقاً بنسبة تتراوح بين 50 و60 بالمئة على المواد الأولية»، معتبراً أن ذلك سينعكس إيجاباً على السوق والمواطنين.
تزامنت القرارات الجمركية مع تجميد الرواتب في القطاع العام، الذي لم يشهد أي زيادات تُواكب التضخم، بالإضافة إلى تراجع المساعدات الإنسانية بسبب خفض التمويل من قبل بعض المانحين الدوليين، وموجة الجفاف التي خفّضت الإنتاج الزراعي إلى النصف في بعض المناطق.
وقال برنامج الأمم المتحدة الإنمائي إن تسعة من كل عشرة أشخاص في سوريا يعيشون في فقر، وإن واحداً من كل أربعة أشخاص عاطلٌ عن العمل، ولا يمكن لاقتصاد البلاد أن يستعيد مستواه كما كان عام 2011 قبل مضي عقد من الزمان في ظل نمو قوي.
وتُظهِر بيانات برنامج الأغذية العالمي (WFP) أن عدد السوريين المحتاجين للمساعدات الغذائية تجاوز 13.5 مليوناً مطلع 2025، مقارنة بـ12.1 مليون في العام السابق، بينما انخفضت قدرة البرنامج على تغطية الاحتياجات بنسبة 30 بالمئة بسبب نقص التمويل الدولي. ففي عهد نظام الأسد كانت الرسوم الجمركية تُقيّدُ عمليات الاستيراد والتصدير وتدفع العديد من التجار للاعتماد على عمليات تهريب البضائع، وسبق أن اشتكى تجارٌ من القيود المفروضة على الاستيراد، والرسوم الجمركية والضرائب المرتفعة التي أثرت على المنافسة في الأسواق الخارجية، بالإضافة إلى البطء في إنجاز المعاملات وعمليات التحكيم الجمركي.
وفي شمال غرب البلاد كانت إدارة معبر باب الهوى (قبل توحيد إدارة المنافذ في سوريا) تفرض رسوماً منخفضة على المستوردات والجمارك، مقارنة بتلك التي يفرضها النظام السابق على المعابر التي كان يسيطر عليها، وفي نهاية عام 2024، أعلنت حكومة دمشق المؤقتة إحداث هيئة عامة للمنافذ البرية والبحرية، وإلحاق الجمارك والمراكز الحدودية ومؤسسة المناطق الحرة بها.
أمام بقايا متجره الصغير في حي الفردوس بحلب، حيث كان ذات يوم يبيع المواد الغذائية، يقف الأربعيني يوسف الجلوم لا يملك سوى ذكريات عن أيام مضت. «نباتيون رغماً عنا»، يقول بنبرة يأس، ويضيف: «عائلتي المكونة من عشرة أفراد لم تذق طعم اللحم منذ شهور، حتى الدجاج أصبح رفاهية».
وفي مشهد آخر في دمشق، تكافح سميرة البكري، الأم لطفلة مصابة بالانسداد الرئوي المزمن، من أجل توفير الدواء لابنتها. «الدواء أصبح رفاهية»، تقول والدموع تملأ عينيها، وتضيف: «علبة الدواء التي كانت تكلفتها 50 ألف ليرة، أصبحت اليوم 180 ألفاً. كيف أختار بين علاج ابنتي وطعام الشهر؟». اضطرت سميرة إلى تقليل جرعات الدواء، مما زاد من تدهور صحة ابنتها؛ تشكو قائلة: «القرارات الجمركية قد تُصلِح ميزانية الدولة، لكنها تدمر حياة الملايين، نحن بحاجة إلى سياسات ترحم معاناتنا».
تختصر كلمات سميرة المشهد العام، انحدار اقتصادي حاد، ومعاناة إنسانية تتجذر يوماً بعد يوم، وبينما تسعى الحكومة إلى تقليص العجز المالي، فإن عجز المواطن عن تأمين قوت يومه بات هو الأشد وضوحاً.
أما رائد البكور، وهو ممرضٌ كان يخطط للزواج، وجد حلمه يتحول إلى سراب: «إيجار شقة صغيرة يساوي ستة رواتب، وسعر الثلاجة والغسالة يعادل راتب سنتين»، ويضيف بيأس: «لم أعد قادراً على الزواج، اضطررت لتأجيله إلى أجل غير مُسمّى». حال رائد يعكس وضع شريحة واسعة من الشباب السوريين الذين لم تعد لديهم القدرة على تحقيق أي استقرار اجتماعي، في الوقت الذي شهدت فيه الأسعار ارتفاعاً كبيراً وبقي فيه متوسط الرواتب في حدود 350 ألف ليرة (أقل من 40 دولاراً).
وجاءت القرارات الجمركية الأخيرة ثقيلة الوطأة على مروة عبد الرحمن، وهي أم لخمسة أطفال من ريف دمشق، التي تقول: «لم أَعُد أستطيع شراء حتى الأرز والزيت بكميات كافية لعائلتي. الأسعار ارتفعت بشكل جنوني، ودخلي كعاملة نظافة في إحدى المشافي العامة لم يطرأ عليه أي زيادة. أعتمدُ على المساعدات الإنسانية التي تصل بشكل متقطع». يعاني أطفال مروة الذين تتراوح أعمارهم بين 6 و14 عاماً، من سوء التغذية، بينما لا تستطيع الأم شراء الأدوية أو المكملات الغذائية بسبب ارتفاع أسعارها، وتقول: «كل يوم نقترب أكثر من الهاوية، لا أعرف كيف سنستمر في العيش بهذه الظروف». وأردفت: «أمام هذه التحديات، تتضاءل قدرة السوريين على مواجهة الأيام القادمة، ولا شيء يشير إلى تحسن قريب، فلا زيادة مرتقبة في الأجور، ولا دعم مباشر للمواد الأساسية، ولا حتى خطة حكومية واضحة لمعالجة الفقر المتفاقم».
لم تقتصر تأثيرات القرارات الجمركية على الجانب الاقتصادي فقط، بل امتدت إلى الجانب الاجتماعي، حيث تفاقمت مشكلة الفقر وازدادت معاناة الأسر محدودة الدخل، والعديد من العائلات اضطرت إلى تغيير عاداتها الشرائية، والاعتماد على بدائل أقل جودة أو التخلي عن بعض السلع تماماً.
كما أدّت هذه الإجراءات إلى نُدرة بعض المنتجات في الأسواق، حيث أصبحت تكلفة استيرادها مرتفعة للغاية بالنسبة للتجار. التاجر علي عز الدين، الذي يدير محلاً لبيع وتجارة المواد الغذائية في حلب، يقول: «بعض المنتجات لم تعد متوفرة في السوق لأن تكلفة استيرادها أصبحت أعلى من سعر بيعها، الناس لا يستطيعون شراءها، والتجار لا يستطيعون تَحمّل خسائرها». ويضيف أن بعض السلع لم تعد تدخل السوق: «الأرز التايلندي، السكر الأبيض، الزيوت، لم يعد بإمكاننا تأمينها بسبب ارتفاع الكلفة، وغياب الاستقرار في الإجراءات الجمركية». وأوضح أنه قبل تنفيذ القرارات الجمركية الجديدة، كانت الرسوم المفروضة على السلع المستوردة أقل نسبياً، مما كان يسمح بوجود تنوع أكبر في السلع المعروضة في الأسواق بأسعار معقولة نسبياً، لكن الحكومة كانت تعاني من عجز كبير في الإيرادات، ما دفعها إلى اتخاذ إجراءات أكثر صرامة لزيادة الدخل.
وبالمقارنة مع القرارات القديمة، يرى عز الدين أن القرارات الجديدة أكثر تَشدُّداً وتأثيراً على حياة المواطنين، خاصة في ظل الأوضاع الاقتصادية الصعبة التي تعيشها البلاد، فبينما كانت الزيادات السابقة في الرسوم الجمركية محدودة وتستهدف سلعاً غير أساسية، فإن الزيادات الأخيرة طالت سلعاً أساسية لا غنى عنها للمواطنين.
وبعد امتناع الهيئة العامة للمنافذ البرية والبحرية عن الإدلاء بأي تصريح، أرجعَ الخبير الاقتصادي أحمد العلي قرارات الحكومة السورية الجديدة للسعي إلى تحقيق عدة أهداف، أهمها تقليص العجز الجمركي، ذلك أن الحكومة تعاني من عجز كبير في الميزانية بسبب انخفاض الإيرادات وارتفاع النفقات، خاصة في ظل الأزمة الاقتصادية الطاحنة. ذلك إضافة إلى دعم الإنتاج المحلي من خلال جعل السلع المستوردة أكثر تكلفة، حيث تأمل الحكومة تشجيع المواطنين على شراء المنتجات المحلية، ما قد يعزز الصناعة الوطنية. وأشار العلي إلى رغبة الحكومة في تعزيز إيراداتها، في ظل انخفاض قيمة العملة المحلية وتراجع الدخل القومي، من خلال زيادة الرسوم الجمركية ودعم الإنتاج المحلي في ظل العقوبات الاقتصادية الدولية التي تفرضها بعض الدول على سوريا.
وأوضح العلي للجمهورية.نت أن القرارات الجمركية ربما تستهدف الأغنياء، غير أن الأكثر تَضرُّراً هم الفقراء والطبقة المتوسطة التي انهارت تماماً، «فالزيادات تزيد التضخم، مما يفقر من لديهم دخل ثابت. الموظف الذي كان راتبه بالكاد يكفيه، أصبح عاجزاً عن تلبية أبسط الاحتياجات».
صحيح أن الفقر ليس ظاهرة جديدة في سوريا، لكن الجديد هو انتقال شرائح كانت تُصنَّف ضمن الطبقة المتوسطة إلى حالة العجز التام عن تلبية حاجاتها الأساسية، حيث تشير تقارير الأمم المتحدة إلى أن نحو 90 بالمئة من السوريين يعيشون تحت خط الفقر، وأن أكثر من ربع السكان يعيشون في فقر مدقع، أي أقل من 1.25 دولار في اليوم، فيما يعاني نحو 70 بالمئة من انعدام الأمن الغذائي بدرجات متفاوتة. لكن الاقتصادي أحمد العلي يرى أن «الفقر اليوم ليس نفسه فقر الأمس»، ويضيف في حديثه للجمهورية.نت: «ما كان يعد فقراً قبل ثلاث سنوات، أصبح يعتبر وضعاً معيشياً جيداً اليوم. دخل الناس ثابت، والأسعار تتضاعف».
إلى جانب الضرائب الجمركية، يشير العلي إلى عوامل أخرى ساهمت في هذا التدهور، مثل عدم تعديل الرواتب منذ أكثر من تسعة أشهر، وغياب أي زيادات على الأجور رغم ارتفاع التضخم، كما أن موجة الجفاف التي ضربت مناطق واسعة من سوريا هي الأسوأ منذ عام 1970، ما أدّى إلى تفاقم سوء الأوضاع خاصة في المناطق الزراعية التي كانت تعتمد على إنتاج محاصيل مثل القمح والشعير. ولفتَ العلي إلى أن ما يحتاجه السوريون اليوم هو سياسات اقتصادية أكثر توازناً تأخذ في الاعتبار ظروفهم المعيشية الصعبة، وتعمل على دعم الإنتاج المحلي دون أن تثقل كاهل المواطنين برسوم جمركية تزيد من معاناتهم، ويرى أن هذه الإجراءات إذا لم تُقرَن بسياسات تعويضية واضحة كالدعم المباشر، أو زيادة الأجور، أو حتى إلغاء الرسوم على السلع الأساسية، فإنها ستظل عبئاً يثقل كاهل المواطن الضعيف.
وأدت الزيادة في الرسوم الجمركية إلى ارتفاع كبير في أسعار السلع الأساسية، مما زاد من معاناة السوريين الذين يعيش أغلبهم تحت خط الفقر. وفقاً لتجّار تحدثوا للجمهورية.نت، فإن أسعار المواد الغذائية مثل الأرز والسكر ارتفعت بنسبة تصل إلى 30 بالمئة، في حين شهدت الأدوية ومواد البناء زيادات مماثلة.
وأبرز ملامح التعرفات الجمركية الجديدة كانت زيادات على السلع الكمالية، كالأجهزة الإلكترونية التي ارتفعت الرسوم الجمركية عليها بنسبة تتراوح بين 50 بالمئة و80 بالمئة، وتشمل الهواتف المحمولة والشاشات وأجهزة الكمبيوتر المحمولة. كذلك ازدادت التعرفات الجمركية على السيارات المستوردة بنسب تصل إلى 100 بالمئة على بعض الفئات، لا سيما السيارات الحديثة أو ذات المحركات الكبيرة، وفُرضت زيادات تصل إلى 60 بالمئة على الملابس الجاهزة المستوردة والعطور ومواد التجميل.
وشهدت السلع شبه الأساسية زيادات أيضاً، حيث ارتفعت الرسوم على الأجبان المستوردة والشوكولا والمعلبات بنسبة تراوحت بين 20 بالمئة و35 بالمئة. ورغم وعود الحكومة بدعم الصناعة، شملت الزيادات الجمركية بعض المواد الصناعية الأولية غير المُنتَجة محلياً، ما أثار انتقادات من الصناعيين حين سجلت بعض المواد زيادات جمركية بنسبة 15-25 بالمئة.
وبعد توجيه انتقادات للحكومة بسبب ما وصفه البعض بـ«القرارات العشوائية» التي لم تراعي القدرة الشرائية للمواطنين، وطرح التساؤلات حول وجود دراسات جدوى قبل فرض هذه الرسوم، جرت مراجعة جديدة في آذار (مارس) 2025 شملت تعديل بعض البنود بناء على شكاوى وردود فعل من التجّار والمواطنين، وتم إصدار إعفاءات أو تثبيت رسوم لبعض السلع الأساسية، كالقمح والأرز والسكر والزيت. كما استثنت الحكومة الأدوية من أي تعديل جمركي، لكن مواد غذائية ومعدات طبية محددة ما تزال تباع بأسعار مرتفعة.
هذا الارتفاع في الأسعار أدى إلى تراجع كبير في القدرة الشرائية للمواطنين، وأصبحت العديد من الأسر تعتمد على الحد الأدنى من السلع الأساسية، بل إن بعضها اضطر إلى الاستغناء عن بعض المواد الغذائية أو الأدوية بسبب ارتفاع أسعارها. وفي النهاية، تُظهِرُ الإجراءات الجمركية الأخيرة للحكومة السورية التحديات الكبيرة التي تواجهها في إدارة الأزمة الاقتصادية، وفي حين أن هذه الإجراءات قد تكون ضرورية لتعزيز الإيرادات الحكومية، إلا أن تأثيراتها السلبية على حياة المواطنين، خاصة الفقراء، تظل كبيرة ومؤلمة.
مقالات مشابهة