حكاية فضل شاكر هي حكاية مأساة العدالة المكسورة في لبنان. إنها مأساة وطنٍ باكمله، وطنٍ يغنّي لفيروز في الصباح ويتجرّع مرارة الدم في المساء. شخصية فضل شاكر بما تحمله من تناقضات ليست سوى مرآة لهذا اللبنان: فنان حمل في صوته آمال الناس وأحلامهم، ثم وجد نفسه وسط عاصفة من الكراهية والعنف.
فضل شاكر يشبه لبنان. في حكايته سمات محددة للبنان الغارق في تناقضاته. فيه الجمال والحياة وفيه الحقد والموت. فيه عذب الصوت وفيه أزيز الرصاص. سيرة فضل شاكر تشبه سيرة لبنان. بلد هادئ على شاطئ المتوسط، يتميز بالسياحة والفن وحب العيش، ينزلق الى آتون الحروب الأهلية والخارجية، لكن من دون أن يفقد بالكامل عناصر الجمال فيه. وعلى هذا المنوال بقيت حاله، حتى في زمن السلم الأهلي، وفي أزمنة الحروب الإقليمية الكبرى على أرضه.
فضل شاكر هو المثال الصارخ لهذه الثنائيات في الشخصية اللبنانية، ممثلة في شخص واحد، في وجه واحد، تارة يتلوى من الطرب والعشق والعذوبة، وطوراً ينضح بالغضب والحقد والرغبة بالانتقام.
في الفيديو الذي نشره فضل شاكر على حساباته على مواقع التواصل الاجتماعي، والمأخوذ من سيرة “يا غايب” التي عرضتها منصة “شاهد”، يتعزز هذا الشبه العميق بين شاكر ولبنان. حكى بصدق طفولته وفقره وإلحاقه بميتم على رغم أن عائلته موجودة. تحدث عن تلك المرحلة بفيض من الدموع والألم. استفاض بالحديث عن انتقاله من مطرب عاطفي الى شخص مسكون بالغضب بعد الثورة السورية والقمع الذي ألحقه نظام الأسد بشعبه، وكيف كان لذلك أثر بالغ فيه، وهو ما دفعه باتجاهات ندم عليها…
تحدث عن مشاعره المتضاربة، بلغة أيضاً تتناقض بين أدبيات طائفية ومصطلحات إسلامية يستخدمها المتشددون، وبين صوت مظلوم وهادئ استُدرج إلى فخ الصراع المذهبي والانقسام العمودي الذي كان يعيشه البلد. لا شكّ في أن كثيرين شعروا وهم يشاهدون المقطع بالضياع. هل يصدقون فضل؟ هل يكذّبونه؟ ما يقوله يعرفونه جيداً. وربما يكونون قد عاشوه أنفسهم، إلى أي جهة انتموا. هذا الظلم الذي يدفع بالضحية إلى أن تصير تغضب وتكاد تماثل الوحش. والطائفية التي تجرّ الأفكار إلى القعر كما كانت السيارات في الحرب الأهلية تجر الجثث وتسحلها في الطرقات.
في أواخر عام 2012، صدم فضل شاكر محبيه بإعلانه اعتزال الغناء والتوارِي عن الأضواء. اختار طريقاً مغايراً تماماً، مقترباً من خطابٍ ديني متشدّد، ومحيطاً نفسه بجماعة الشيخ أحمد الأسير التي حملت خطاباً طائفياً مضاداً لخطاب طائفي شيعي فرضه “حزب الله” بفائض القوة على كل تفاصيل الحياة السياسية اللبنانية، خصوصاً بعد مشاركة مقاتليه بدعم نظام بشار الأسد في سوريا ضد من ثاروا ضد ظلم البعث.
تلك الأجواء الموغلة في تطرّفها وتخلّفها، انعكست على فضل شاكر. اختفت الابتسامة الوديعة التي كان يرسمها على وجهه ضيفاً على الشاشات، وحلّت محلّها لحيةٌ طويلة ونظرة حادة تعكس احتقان سنوات من الشعور بالظلم والخيبة في وطن تتجاور فيه المتناقضات. من حفلات الطرب إلى ساحات المعارك، وجد شاكر نفسه في قلب مواجهة لم يتخيلها يوماً، مواجهة داخلية، بين من كانه ومن صاره. بين فضل الطرب والفرح وبين فضل التطرف والغضب. لم يكن فضل شاكر حينها يواجه التناقضات في الحالة اللبنانية فقط، بل كان يصارع داخلياً تناقضاته هو نفسه.
بلغ هذا التناقض ذروته في صيف 2013. اشتباكات مسلحة اندلعت بين أنصار الأسير وميليشيات تابعة لـ”حزب الله”، ثم انزلقت الأمور إلى مواجهات بين ميليشيات الأسير والجيش اللبناني، وسالت فيها دماء الجنود والمقاتلين على حد سواء. اختار الجيش أن يواجه الميليشيا ويفرض الاستقرار بالقوة. لكنه أيضاً اختار أن يواجه ميليشيا واحدة لصالح ميليشيا ثانية. كان ذلك الأمر واضحاً إلى حد لا يمكن تصديقه. وكان خطاب القوة الذي يتمتع به “حزب الله” وسطوته الداخلية، يحوّلان المعركة إلى صراع بين الجيش وأحمد الأسير، فيما المعركة طائفية بامتياز بين “حزب الله” وجماعة الأسير، وهي انعكاس لمعركة طائفية تحصل في سوريا أيضاً، حيث يقاتل “حزب الله” ميليشيات سورية سنية دفاعاً عن نظام بشار الأسد. معركة أكبر بكثير من أن تتحملها شخصية فضل شاكر الهشّة. سقط المغني العذب في مستنقع الطائفية اللبناني. وصُوّر في تلك المعركة وكأنه جزء من مشهد العنف. هل حمل السلاح فعلاً أم اكتفى برفقة من حملوه؟ سؤالٌ حيّر الجميع. البعض رأى فيه خيانةً لنفسه أولاً ولماضيه الفنّي، وآخرون اعتبروه ضحية انخداعٍ بلعبة أكبر منه. هل كان بريئاً تماماً؟ لا أظن. لكن مَن القاضي؟ ومَن يحكم عليه؟
حكاية فضل شاكر هي حكاية مأساة العدالة المكسورة في لبنان. إنها مأساة وطنٍ باكمله، وطنٍ يغنّي لفيروز في الصباح ويتجرّع مرارة الدم في المساء.
قبل الخوض في محاكمة فضل شاكر القضائية، تعرض الرجل لمحاكمة أخلاقية عامة. بسبب شهرته، وضع فضل شاكر في موضع الرجم من الجميع. محبّو فنه القديم بقوا على ولائهم في قلوبهم، أثر أغنياته الجميلة وصوته الطروب في البال. أما آخرون فصبّوا عليه جام الغضب، معتبرين أنه تلوّن بلون الكراهية التي أججتها الحرب. صار فضل شاكر شخصاً ذا وجهين في مخيلة اللبنانيين: وجهٌ مضيء بنغمات الماضي، ووجهٌ معتم بطلقات البنادق وصور المسلّحين من حوله. في قصته تمتزج نوازع الإنسان اللبناني نفسه؛ ذلك الإنسان الذي قد يجد نفسه ممزقاً بين ولعه بالحياة والفن، وبين انجرافه إلى موجات الطائفية والعنف.
أما المحاكمة القضائية فتلك معضلة بحد ذاتها. بعد أحداث عبرا، وسجن أحمد الأسير وأنصاره، بدأت المحكمة العسكرية تُصدر بحق فضل شاكر الأحكام الغيابية، واحداً تلو الآخر. حُكم عليه بالسجن خمس سنوات عام 2016، ثم بخمس عشرة سنة مع الأشغال الشاقة في 2017 على خلفية أحداث عبرا. لوهلةٍ تراءى بصيص أمل عندما أُلغي أحد الأحكام وحصل على براءة من دم الجيش في العام 2018، لكن سرعان ما تبدد ذلك الأمل مع صدور حكمٍ جديد قاس بحقه في السنوات اللاحقة، زاد من سنوات سجنه الغيابيّة حتى فاقت العشرين.
غير أن مشهد العدالة في لبنان معقد بقدر تعقيد قدر فضل شاكر نفسه. فالقضاء العسكري الذي يحاكمه هو ذاته موضع جدل وخوف. كثيرون يتهامسون عن تلك المحاكم الاستثنائية كأنها عالمٌ تحتاني له قوانينه الخاصة. هناك في ظلال القاعات المغلقة، يُحاكم المدني أمام قاضٍ ببزّة عسكرية، حيث الخوف سيد الموقف. يتحدث من مرّوا بذلك الطريق عن اعترافاتٍ انتُزعت تحت وطأة الألم، عن صرخاتٍ مكبوتة خلف الجدران، وعن محاكمات تفتقر الى أبسط مقومات العلنية والإنصاف.
وثقت “هيومن رايتس ووتش” الكثير من هذه الانتهاكات التي ترتكب في القضاء العسكري، حيث يتحول المتهم إلى رقم، وتصبح الحقيقة مشوّهة بأثر التعذيب والخوف. فضلاً عن تسييس الأحكام، وسطوة “حزب الله” على المحكمة في كثير من المواضع.
من يطالب بمحاكمة شاكر وتسليمه للعدالة؟ حزب الله المحكوم من محكمة دولية بقتل رئيس حكومة لبنان رفيق الحريري؟ هل قدم الحزب المتهمين الخمسة للعدالة؟ أم احتفى بهم “شهداء” سقطوا في حربه من أجل بشار الأسد في سوريا؟
زاد من شعور شاكر بالمرارة هذا النوع من المفارقات الصارخة في مشهد العدالة اللبنانية. فهو يرى- ككثير من اللبنانيين -ميزاناً مختلاً تكال به الأحكام. ويرى في السلطة رجالاً يتباهون بأدوارهم في الحرب الأهلية، ومسؤولين يتحدثون بخفة عن جر البلاد إلى حروب خارجية على مذبح إيران، من دون أي مراجعة أو محاسبة أو اعتراف بالذنب. رأى مثلما رأينا جميعاً كيف عرقل حزب الله ومعه باقي المنظومة، عمل القاضي طارق بيطار في ملف المرفأ. رأى كيف أقفل القضاء ملف اغتيال لقمان سليم بضغط سياسي قبل أن يعاد فتحه بعدما تراجعت سطوة حزب الله، مع تلقيه ضربات قاسمة من إسرائيل.
في المقطع الذي نشره على صفحته على إنستغرام، قال فضل في معرض تفنيد مظلوميته أنه مواطن لبناني، وأنه يريد أن يمثل أمام قاض لبناني مدني. وهذا بيت القصيد. هذه عودة من تشرّد الطائفية إلى سقف البلد. هو يطرق بيد مدماة وقلب محطّم باب العدالة في بلاد مفككة، ويسأل أن يُسمع من قاض عادل، لا من قاض مسيّس يخضع لمزاج القوي.
حكاية فضل شاكر هي حكاية مأساة العدالة المكسورة في لبنان. إنها مأساة وطنٍ باكمله، وطنٍ يغنّي لفيروز في الصباح ويتجرّع مرارة الدم في المساء. شخصية فضل شاكر بما تحمله من تناقضات ليست سوى مرآة لهذا اللبنان: فنان حمل في صوته آمال الناس وأحلامهم، ثم وجد نفسه وسط عاصفة من الكراهية والعنف. حكايته التي رواها لمنصة “شاهد”، تشبهنا جميعاً، لكنها تمثّل الحد الأقصى لاختبار لبنان اللئيم لنا كأفراد. وفي هذا الاختبار المؤلم، يبحث فضل شاكر عن خلاصه، تماماً كما نبحث جميعاً عن خلاص لبنان.