إيران تريد إطارا موحدا تحت رايتها
ما كان متاحا لإيران من تدخلات واسعة وعميقة في الشأن العراقي بما في ذلك تحديد من يقود منظومة الحكم، قد لا يكون متاحا في الوقت الحالي بنفس القدر والفاعلية نتيجة تراجع موقفها الإقليمي وشدّة الضغوط المسلطة عليها وعلى حلفائها في المنطقة، الأمر الذي يذكي هواجسها بشأن مآل حكم حلفائها في البلد المقبل على انتخابات مفصلية في ظروف مختلفة وبمعطيات متغيرة.
بغداد – لا تمثل الانتخابات البرلمانية المقررة في العراق لشهر نوفمبر القادم مبعث ارتياح لإيران التي تسير تطورات المنطقة في غير مصلحة نفوذها الإقليمي الذي تلقّى ضربة قاصمة في لبنان مع حالة شبه الانهيار التي وصل إليها حليفها الأوثق حزب الله، وفي سوريا بسبب سقوط نظام حليفها الآخر بشار الأسد، في وقت يواجه فيه حلفاؤها الحوثيون في اليمن حربا قد تحدّد مصيرهم من قبل القوات الأميركية، لتغدو الساحة العراقية بذلك المعقل الأخير لذلك النفوذ.
ولا تريد طهران أن تكون الانتخابات العراقية سببا في تفريق صفوف حلفائها العراقيين الممثلين بأحزاب وفصائل شيعية مسلّحة وتشتيت قواهم بما قد يضعف موقفهم ويرخي قبضتهم على السلطة وهيمنتهم على مقاليد الدولة، لكنّها لا تريد في نفس الوقت أن تفرز صناديق الاقتراع طرفا سياسيا قويا قد يسلك نهجا سياديا يقود البلد بعيدا عن دائرة تأثيرها.
واعتادت طهران منذ سقوط النظام العراقي السابق قبل أكثر من عقدين من الزمن على وضع بصمتها على منظومة الحكم في العراق وتحديد من يقوم بالأدوار الرئيسية فيها معتمدة في ذلك على حلفاء متنفذين من قادة الأحزاب والفصائل المذكورة، لكن مواصلتها القيام بنفس الدور وبذات الفاعلية لم يعد متاحا بسبب وضعها الصعب وتراجع شعبية هؤلاء الحلفاء وظهور ملامح توجه سيادي لدى بعض السياسيين من داخل العائلة السياسية الشيعية نفسها.
فكرة توظيف جماهيرية الصدر لفرملة صعود السوداني تعود للمالكي الأكثر قلقا من الولاية الثانية
ويمثّل ذلك التوجه حاليا، ولو بشكل جزئي، رئيس الوزراء محمّد شياع السوداني الذي أبان في العديد من سياساته وخصوصا الخارجية منها عن رغبة في التقليل من حجم الارتباط بإيران والانفتاح على مختلف القوى الإقليمية بما في ذلك تركيا والدول العربية وتوثيق التعاون معها على أساس براغماتي-مصلحي مختلف عن الأساس الأيديولوجي-العقائدي الذي قامت عليه العلاقة بين طهران وبغداد خلال العشريتين الأخيرتين.
وعلى هذه الخلفية قد لا تكون إيران راغبة في تجديد ولاية السوداني على رأس الحكومة العراقية، أو على الأقل في حصوله على تفويض شعبي واسع من خلال الانتخابات يتيح له هامشا أوسع من سلطة اتخاذ القرارات وتسطير السياسات خلال ترؤسه للحكومة القادمة.
ولهذا السبب ترغب طهران في إيجاد منافس قوي للسوداني خلال الانتخابات ورقيب وازن على سياساته في حال تمكن من الفوز فيها.
ويعتبر رجل الدين الشيعي مقتدى الصدر زعيم التيار الوطني الشيعي أفضل من تتوفّر فيه شروط القيام بذلك الدور نظرا لشعبيته الكبيرة قياسا بباقي قادة الأحزاب والفصائل الذين احترقت صورتهم بتجربة الحكم المتعثّرة التي تولوا قيادتها بشكل رئيسي، ولم يكن الصدر في واجهتها رغم أنه كان من المشاركين فيها.
وحثت إيران في رسالة قادة الإطار التنسيقي الشيعي على محاولة إقناع زعيم التيار بالمشاركة في العملية الانتخابية.
وجاء ذلك في “رسالة عاجلة” وجهتها إليهم وأكدت فيها على ضرورة الإبقاء على وحدة كتل وأحزاب الإطار ما بعد انتخابات مجلس النواب وعدم تفرقة تلك القوى بسبب الصراع الانتخابي، بحسب ما نقلته وكالة شفق نيوز عن مصادر وصفتها بالمطلعة.
وتلتقي طهران في منظورها إلى الصدر وضرورة مشاركته في الانتخابات مع منظور بعض كبار منافسي السوداني ومعارضي ولايته الثانية وفي مقدمتهم رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي الذي كان من أوائل من أثاروا موضوع تلك المشاركة، متحدّثا بإيجابية غير معهودة عن غريمة الذي سبق له أن خاض ضدّه معارك سياسية وحتى عسكرية ضدّ الميليشيا التابعة له عندما كان المالكي رئيسا للوزراء قائدا عاما للقوات المسلّحة.
وسبق لمصادر سياسية أن تحدّثت عن رغبة المالكي في التحالف مع زعيم التيار الوطني الشيعي للاستفادة من قاعدته الجماهيرية العريضة في مواجهة السوداني الذي تشير بعض المعطيات إلى تزايد شعبيته بفعل السياسات المعتدلة التي اتّبعها ونجاحاته النسبية في إعادة تحريك عجلة التنمية التي كانت شبه متوقفة بالكامل في عهد الحكومات السابقة لحكومته.
ويعرض الصدر نفسه كزعيم شعبي مختلف عن باقي أعضاء العائلة السياسية الشيعية التي ينتمي إليها والذين كثيرا ما كان يصفهم بالفاسدين وينعت الميليشيات التابعة لبعضهم بالوقحة.
كما يُصوَّر الصدر من قبل أتباعه باعتباره أبعد عن طهران من باقي القادة السياسيين الشيعة وأكثر استقلالا عن دائرة تأثيرها.
ومع ذلك لم يثبت عمليا أن زعيم التيار في خصومة معلنة ضدّ طهران، كما أنه يظل عمادا من أعمدة حكم الأحزاب الشيعية في العراق.
وقد اضطلع سنة 2019 بدور منقذ ذلك النظام من الانهيار تحت ضغط الشارع الذي شهد آنذاك انتفاضة شعبية غير مسبوقة انخرطت الميليشيات الشيعية المدعومة من الحرس الثوري الإيراني في قمعها بعنف بينما تولّى الصدر مهمّة ضبط الشارع والتحكّم فيه وتوجيهه نحو التهدئة والتخلّي عن مطلب إسقاط النظام.
طهران لا تريد أن تكون الانتخابات العراقية سببا في تفريق صفوف حلفائها العراقيين الممثلين بأحزاب وفصائل شيعية مسلّحة
ورغم القرار المعلن في وقت سابق من قبل الصدر بعدم المشاركة في الانتخابات إلاّ أن المسألة لم تحسم بشكل نهائي حيث عاد سيناريو العدول عن ذلك القرار إلى التداول داخل الأوساط السياسية والإعلامية العراقية، وكشف مصدر مقرب من زعيم التيار الوطني الشيعي، مؤخرا عن وجود “خطة بديلة” للصدر للمشاركة في الانتخابات.
وشارك التيار في الانتخابات السابقة التي أجريت في أكتوبر 2021 وحصل على ثلاثة وسبعين مقعدا من مقاعد مجلس النواب ما جعله مؤهلا للحصول على امتياز تشكيل الحكومة قبل أن تتحالف ضدّه عدّة قوى من داخل عائلته السياسية الشيعية ومن خارجها ما جعل زعيمه مقتدى الصدر يقرّر سحب نوابه من البرلمان ويعلن انسحابه من العملية السياسية وعم المشاركة في أي استحقاق انتخابي قادم.
وفي شهر مارس الماضي جدّد زعيم التيار تأكيد قراره عدم المشاركة في انتخابات نوفمبر القادم قائلا في منشور تداولته حسابات على منصّة إكس “ليكن في علم الجميع، ما دام الفساد موجودا فلن أشارك في أي عملية انتخابية عرجاء،” معتبرا أن الانتخابات “بعيدة عن معاناة الشعب وعمَّا يدور في المنطقة من كوارث كان سببها الرئيسي هو زج العراق في المحارق،” ومتسائلا “أي فائدة تُرجى من مشاركة الفاسدين والعراق يعيش أنفاسه الأخيرة، بعد هيمنة الخارج وقوى الدولة العميقة على كل مفاصله.”
وتخشى شخصيات وأحزاب أخرى من أن تؤدي مقاطعة الجمهور العريض للتيار الصدري للانتخابات إلى حالة عزوف انتخابي كبير ينتقص من شرعية نتائج الانتخابات وبالنتيجة من النظام السياسي ككل.
ووصف المصدر قرار الصدر بشأن مقاطعة انتخابات مجلس النواب بغير النهائي قائلا إنّه من الممكن “أن يكون هناك تراجع حسب التطورات السياسية داخل البلاد خلال الشهرين المقبلين.”
وبشأن الرسالة الإيرانية لقوى الإطار التنسيقي قالت المصادر إنّها تضمنت تشديدا “على ضرورة عدم تفرق كتل وأحزاب الإطار التنسيقي إلى قوائم كثيرة والحفاظ على وحدة الفصائل المسلحة ضمن قائمة انتخابية كبيرة في انتخابات مجلس النواب لمنع تفرقة تلك الفصائل.”