الحرب هي أقدم مرض فتاك عرفته البشرية ولا تزال تعاني منه، وما خلقته الحروب من ضحايا أكبر بكثير مما خلّفته كل الأوبئة والجائحات التي ضربت البشر على هذه الكرة الأرضية منذ أقدم العصور، من الطاعون إلى “كوفيد” مروراً بالكوليرا والحمى الإسبانية وغيرها.
لا منطق للحرب إلا منطق الجنون.
للمعتدي سلاحه وللضحية بكاؤها.
لكل زمن حربه، ولكل حرب لونها، ولها رائحتها ولها جنونها ومجانينها.
تظل الحروب الأكثر دموية هي الحروب التي وقودها الدين، كلما كان الدين هو دافع الحرب بين البشر إلا وتكون شرسة، وتخلّف آثاراً رهيبة على أجيال كثيرة متلاحقة.
الحروب الدينية حروب شمولية، تضع على رأس أولوياتها الدفاع عن الله لا الدفاع عن الإنسان كقيمة جوهرية في الوجود.
كل الحروب ملعونة وقبيحة ولكن بدرجات، بهذا المنطق تبدو حروب التحرير الوطنية عاقلة في جنونها لأن الذي يحرّكها هو رغبة الدفاع عن الحرية والاستقلال والتحرر، وهي حروب تشارك فيها عادة قوميات وديانات مختلفة التي هي مكوّن هذه الأمة أو تلك، ولأنها الحرب التي تدافع عن فلسفة القيم الإنسانية الكبرى، فهي في المقام الأول تحترم إنسانية الإنسان وكرامته، وبذلك، فهي لا تجعل من الخصم عدواً مطلقاً، بل تؤمن بأنه، ومع نهاية الحرب، وعودة الأمور إلى نصابها واسترجاع ما قامت لسببه، وهي الحرية والعدالة والاستقلال، فإن هذا الخصم قد يصبح مشروع صديق.
الحروب التي تقوم على النزعات الدينية تخلّف ثقافة الكراهية لدى الغالب والمغلوب، وهي حروب تفكر في الآخرة وفي الاستيلاء على الجنة والسيطرة عليها، على قاعدة “موتانا في الجنة وموتاهم في النار”، أما الحروب التحررية القائمة على الوطنية فهي حروب تخلّف دروساً في التاريخ وتفكيراً في صناعة المستقبل الأفضل.
الحروب فصول، وحروب اليوم تختلف عن حروب الأمس في حجم الدمار وحجم الجحيم وبشاعة فنون التقتيل، هي حروب تستعمل الذكاء الاصطناعي والخيرات العلمية الكبرى من أجل الخراب الأكبر والفتك الأعظم.
لكل زمان حروبه، من حرب “الأسطورية، إلى “داحس والغبراء” الفروسية، إلى حروب القنابل الذرية، كتلك التي حدثت في هيروشيما وناغازاكي مروراً بحروب التحرر الوطنية الكلاسيكية في أفريقيا وأميركا اللاتينية، إلى حرب الخليج وحرب الروس والأوكرانيين، وآخرها حرب “حماس” وإسرائيل.
هل هناك منتصر في الحرب؟ لا أعتقد، في الحرب هناك من يبكي وهناك من يخفي بكاءه إلى حين، هناك من يموت وهناك من ينتظر الموت، وفي الحرب هناك من يتفرج بحيرة أو بحسرة، وهناك من يقتل وهناك من يُقتل.
في الحرب يفكر المحارب في القتل من أجل الحفاظ على الحياة، في منطق المحارب الحياة تخرج من الدم ومن الموت.
الحرب عمياء حتى ولو كانت عادلة.
سهل أن تشعل حرباً فتاكة ولكن من الصعب جداً أن تبني سلاماً، التأسيس للسلام أصعب بكثير من الذهاب إلى جبهة الحرب، شجاعة السلام أعمق من شجاعة الحرب.
الحروب الفتاكة يقودها قادة النياشين والسلام يصنعه الأنبياء والحكماء.
لكل حرب جيوش كثيرة، كل جيش يشتغل على جبهة معينة، جيش النار وجيش الإعلام وجيش المال وجيش الفنون.
جيش على ظهور الدبابات وحاملات الصواريخ والطائرات المرعبة والرادارات، وهو الجيش الواضح المعالم، هو من يحدد سلّم القوة المباشرة، وجيش آخر يشتغل على جبهة الإعلام.
واليوم، تعرف الحروب الوحشية الحداثية مكوناً آخر في جبهاتها، إنهم جيش نجوم كرة القدم، إذ يكفي أن ينشر نجم كروي منشوراً صغيراً على حسابه الإلكتروني يقف فيه مع هذا الطرف أو مع ذاك، حتى تقوم الدنيا ولا تقعد، ومثل ذلك مع نجوم الفن من الموسيقيين والمغنين والممثلين، فتدوينة واحدة كافية لهزّ الرأي العام، وهو ما حدث مثلاً مع ما نشره اللاعب الدولي كريم بنزيما والذي أبدى فيه موقفه من الحرب بين إسرائيل و”حماس” في غزة.
الأديب حين يكون ملتزماً فهو في حالة حرب على طريقته الخاصة، يذهب إلى الجبهة مدججاً بسلاحه الخاص: اللغة والنص. لقد كان محمود درويش الذي ربما لم يكن يعرف لا طريقة حشو البندقية ولا طريقة تفكيكها وربما لم يطلق رصاصة واحدة في حياته كلها، وهو الذي عبر الحياة كلها في حرب مفتوحة، فكان فيها، ولوحده، جيشاً جراراً، ومثله كان الرسام الكاريكاتوري ناجي العلي.
لا ذكاء في الحروب جميعها، لا خير في الحروب جميعها.
حين نرى اليوم حجم القتل وجحيم الدمار الذي يلحق بالإنسان وبالأرض وبالحيوان فما علينا إلا التسريع في الدعوة لتجميع أصدقاء السلام وحكمائه في كل مكان، في أوروبا وأميركا وآسيا وألا نفقد الأمل، ورصّ مزيد من صفوف أصدقاء الشعب الفلسطيني المتواجدين في أركان العالم الأربعة والعمل على فك الارتباط بين هذه القضية التحررية العادلة والعالم العربي الذي خنقها ووضعها في سياقها الإنساني التحرري العالمي، فاستقلال فلسطين ليست قضية العرب وحدهم إنها قضية عدالة إنسانية، وهي ليست قضية المسلمين وحدهم، إنها قضية احترام حقوق الإنسان، بهذه المقاربة نفتح الطريق الأمثل لتحقيق استقلال فلسطين وحل الدولتين.
هل سيكون هذا الدمار هو الأخير والذي سيوقظ ضمير العالم للتعجيل بحل نهائي؟ ربما.
إن بناء السلام أصعب بكثير من إشعال الحرب.