لاجئو ناغورنو قره باغ لدى وصولهم إلى بلدة كورنيتزور الحدودية الأرمينية، في 29 سبتمبر الماضي (رويترز)

في الـ 19 سبتمبر (أيلول) الماضي شنت أذربيجان هجوماً عسكرياً واسع النطاق ضد شعب ناغورنو قره باغ (آرتساخ) بهدف التطهير العرقي في المنطقة لتفريغها من سكانها الأرمن الأصليين وذلك تحت أنظار قوات حفظ السلام الروسية.

وفي ظرف ساعات، أصبحت ناغورنو قره باغ منطقة أشباح، واضطر أكثر من 99.9 في المئة من سكانها، أي أكثر من 100 ألف أرمني إلى الفرار من ديارهم وأرضهم التي عاشوا فيها لأكثر من 2000 عام إلى الفرار.
وسبق هذه الأحداث 10 أشهر من الحصار والتجويع من قبل أذربيجان، ولم يبق في ناغورنو قره باغ تحت حكم أذربيجان سوى بضع عشرات من الأرمن (السكان الأصليين)، من بينهم كبار السن والمعاقون الذين لم يتمكنوا من مغادرة منازلهم، بينما الحصيلة المؤكدة لقتلى العدوان الأخير تتجاوز 220 شخصاً غالبيتهم من المدنيين.
ما فعلته الحكومة الأذربيجانية في ناغورنو قره باغ يشكل مثالاً جلياً وواضحاً على التطهير العرقي الذي يحمل سمات الإبادة الجماعية في أقل تقدير، وأعدت باكو له منذ فترة طويلة، وعلى رغم أن أذربيجان تدعي باستمرار أنها تقصف أهدافاً عسكرية فقط، إلا أن كثيراً من المباني والمساكن المدنية تم استهدافها وإلحاق الضرر بها وتدميرها عمداً.
وخلال الفترة التي أعقبت البيان الثلاثي في شأن وقف إطلاق النار الذي وقّع عليه قادة أرمينيا وأذربيجان والاتحاد الروسي في التاسع من نوفمبر (تشرين الثاني) 2020، انتهك الجانب الأذربيجاني بنود البيان بصورة متكررة، ولجأ إلى التصعيد العسكري وتعطيل الحياة الطبيعية للسكان المدنيين في الإقليم، وشن هجمات جسدية ونفسية وأعمال عنف ضد المواطنين.
وإضافة إلى ذلك فبدءاً من الـ 12 من ديسمبر (كانون الأول) 2022، وفي انتهاك للنقطة السادسة من بيان التاسع من نوفمبر، أغلقت أذربيجان ممر لاتشين وهو الطريق البري الذي يربط ناغورنو قره باغ بأرمينيا والعالم، فارضاً على جميع سكانه المقدرين بأكثر من 100 ألف شخص حالاً من العزلة التامة والحرمان من الإمدادات الغذائية والطبية الحيوية.
وإلى جانب الحصار المفروض على ممر لاتشين منذ 10 أشهر عطلت أذربيجان عمداً البنية التحتية الحيوية في ناغورنو قره باغ مثل إمدادات الغاز الطبيعي والكهرباء والإنترنت والاتصالات المتنقلة، بهدف زيادة تفاقم الأزمة الإنسانية الأليمة بالفعل والتسبب في معاناة إنسانية مفرطة لشعب ناغورنو قره باغ، وجعل حياتهم في وطنهم صعبة قدر الإمكان.
وأصبح واضحاً أن الحصار المستمر لناغورنو قره باغ وتعطيل البنية التحتية الحيوية من قبل أذربيجان، فضلاً عن الهجمات العسكرية التي شُنّت بصورة منتظمة ومستمرة، كانت تهدف إلى إخضاع ناغورنو قره باغ للتطهير العرقي من خلال الترهيب الجسدي والنفسي الذي اكتمل في الـ 19 والـ 20 من سبتمبر الماضي باستخدام القوة العسكرية المفرطة.
وتعرضت ستيباناكيرت، عاصمة الإقليم، ومعظم المدن والمناطق الأخرى في ناغورنو قره باغ إلى هجوم واسع النطاق من قبل القوات المسلحة الأذربيجانية، استخدمت فيه الصواريخ الإسرائيلية الصنع في الغالب والمدفعية الثقيلة والطائرات القتالية والمسيرات، ولم يسلم الأمر من استخدام الذخائر العنقودية المحظورة دولياً، في انتهاك خطر للقانون الدولي، كما قام هذا العدوان بانتهاكات جسيمة للقانون الإنساني الدولي بما في ذلك استهداف المدنيين المتعمد وقصف المستوطنات غير المحمية والبنية التحتية المدنية التي شملت المدارس، وكل ذلك في وضح النهار وعلى مرأى ومسمع المجتمع الدولي.

وسبق الهجوم نشر معلومات كاذبة من المنصات كافة، بما في ذلك وزارة الخارجية الأذربيجانية، حول نشاطات التعدين والتخريب من قبل الأرمن، مما يشير إلى التخطيط للهجوم وإعداد الحقل المعلوماتي لتبريره، وصرحت الحكومة الأرمينية مراراً وتكراراً بأن القوات المسلحة والمعدات العسكرية لجمهورية أرمينيا غير موجودة في ناغورنو قره باغ، وأن جميع الادعاءات المتعلقة بعمليات التعدين كاذبة وملفقة، كما سحبت أرمينيا جميع قواتها وفقاً للبيان الثلاثي الصادر في التاسع من نوفمبر 2020، ولا تقدم باكو هذه الروايات الساخرة إلا لتبرير سياسة الإبادة الجماعية التي تنتهجها، فمن الواضح أن الأعمال العدوانية المستمرة التي تقوم بها أذربيجان ضد ناغورنو قره باغ والخطابات الدعائية غير الخفية والدعاية الكاذبة والمستهجنة تماماً المتمثلة في وصف السكان وقوات الدفاع في ناغورنو قره باغ بـ “الإرهابيين”، فضلاً عن الحصار غير القانوني المفروض على ممر لاتشين، وهو الطريق الوحيد الذي يربط ناغورنو قره باغ بأرمينيا، تشكل سعياً ممنهجاً إلى تحقيق هدف واحد وهو إخضاع سكان الإقليم للتطهير العرقي من خلال استخدام القوة والعنف، وحرمانهم من الحق في العيش بحرية وأمان في وطنهم الأم.
والآن تدعو باكو السكان الأرمن في الإقليم إلى البقاء وإعادة الاندماج في أذربيجان قائلة إنه سيتم الحفاظ على حقوقهم، لكن الأرمن لا يريدون العيش كجزء من أذربيجان خوفاً من الاضطهاد المستمر والتطهير العرقي، وهو ما حدث بالفعل.

وتنشغل وسائل الإعلام الأذربيجانية بنشر مشاهد تزعم أن هناك أرمناً يريدون الاندماج في أذربيجان، ومن الواضح أن هذه دعاية للسلطات الأذربيجانية التي تحاول التخلص من سمعة دولة ارتكبت تطهيراً عرقياً، وإنه لأمر مثير للسخرية حقاً أن يتم إجبار أكثر من 100 ألف أرمني على الخروج من وطنهم ثم محاكاة اندماج بضع عشرات من الأرمن لا يصلون إلى أكثر من 50 شخصاً، وبخاصة إذا كان “الاندماج” في مصطلحات باكو يعني الاستيعاب القسري، ولقد دان المجتمع الدولي بشدة العدوان العسكري الأذربيجاني، ووصفت كثير من الدول عن حق تصرفات باكو بأنها عمل من أعمال التطهير العرقي.
في الخامس من أكتوبر (تشرين الأول) الحالي، على سبيل المثال، ذكر البرلمان الأوروبي أن الوضع الحالي مع الأرمن الفارين من ناغورنو قره باغ يرقى إلى مستوى التطهير العرقي، ودعا المجلس الأوروبي إلى اعتماد عقوبات مستهدفة ضد مسؤولي الحكومة الأذربيجانية عن انتهاكات وقف إطلاق النار وانتهاكات حقوق الإنسان في ناغورنو قره باغ.

 

وبالإشارة إلى أحداث ناغورنو قره باغ فقد صرحت وزيرة الخارجية الفرنسية كاترين كولونا بأنها في الواقع “تطهير عرقي”، موضحة أن “الناس مجبرون على مغادرة أرض أجدادهم وأجبروا على تركها بعد الأعمال العدائية الأخيرة أو تحت تهديد أعمال عدائية جديدة، فمغادرتهم ليست مغادرة طوعية”.
وحاولت أذربيجان لأعوام عدة إعطاء سياق ديني لصراع ناغورنو قره باغ، وكثيراً ما يزعم المسؤولون الأذربيجانيون أن الأرمن يحتفظون بالخنازير داخل المساجد وأنهم دمروا مساجد قره باغ، وهي بالطبع كذبة ودعاية أخرى لأذربيجان، ومن الحقائق المعروفة أن الاتحاد السوفياتي كانت لديه أيديولوجية ملحدة، وقد تم تدمير أكثر من 1500 مسجد في أذربيجان خلال فترة الاتحاد السوفياتي، وأرمن ناغورنو قره باغ ليسوا مسؤولين عن سياسة الاتحاد السوفياتي، كما دمر الشيوعيون أيضاً في تلك المرحلة آلاف الكنائس، بما في ذلك الكنائس الأرمنية في جميع أنحاء الاتحاد، ومن الكذب المطلق أيضاً أن الأرمن احتفظوا بالخنازير في الضريح الإسلامي، وفي الواقع فقد قام الأرمن بترميم مسجد يوخاري جوهر آغا في شوشي، وعلاوة على ذلك فهناك المسجد الأزرق في يريفان الذي تم بناؤه في القرن الـ 18 الميلادي وهو قائم اليوم.

من ناحية أخرى تتمتع أذربيجان بخبرة كبيرة في القضاء على الأحرام الأرمنية وتدمير أي أثر تاريخي وثقافي أرمني في الأراضي الخاضعة لسيطرتها، ومن الأمثلة الصارخة على ذلك تدمير أذربيجان عشرات آلاف المنحوتات الحجرية القديمة المحمية من قبل منظمة “يونيسكو”، مثل أحجار الصليب في منطقة جلفا بإقليم ناخيجيفان خلال الفترة ما بين عامي 1997 و2006، وشكّل ذلك مذبحة ثقافية واسعة النطاق نظمت على مستوى الدولة، ونتيجة لذلك دمرت 28 ألف قطعة ثقافية بالكامل، 89 منها كانت كنائس وحوالى 6 آلاف حجر صليب من العصور الوسطى.

إن الاستهداف والتدمير المتعمد لمئات الكنائس والمقابر والأضرحة الأرمنية في ناغورنو قره باغ خلال وبعد الاعتداءات الأخيرة يشكلان أمثلة أخرى على هذه السياسة التي تتبعها أذربيجان وتثبتها أدلة عدة نشرها الأذربيجانيون أنفسهم.

وبعد الهجوم العسكري الذي وقع في الـ 19 سبتمبر الماضي وتهجير الأرمن من الإقليم، دمرت القوات المسلحة الأذربيجانية الصليب الموضوع قرب ستيباناكيرت وقامت بمحاولات لتشويه هوية غاندزاسار، أحد أشهر الأديرة الأرمنية في العصور الوسطى، وتظهر الخطوات المذكورة مرة أخرى نية أذربيجان تدمير أي أثر أرميني في ناغورنو قره باغ.
يذكر أن السلطات الأذربيجانية القلقة للغاية في شأن المساجد في ناغورنو قره باغ لم تعرب عن أي قلق أو انتقاد بصدد تعرض المساجد والمقدسات الإسلامية للهجوم والتدمير في مختلف دول أوروبا والشرق الأوسط، ومن الواضح أن الدعاية الأذربيجانية المناهضة للأرمن المذكورة أعلاه، والتي يحاولون تنفيذها هنا في مصر، تهدف بوضوح إلى تشويه سمعة الأرمن في عيون أصدقائهم المسلمين والعرب، ولكننا نأمل ألا يصدق ذلك الشعب المصري الذي يعرف الأرمن جيداً ويعيش معهم منذ قرون، ومن المعروف أن الأرمن الذين عاشوا في مصر وغيرها من الدول العربية والإسلامية لفترة طويلة جداً لعبوا دوراً ملموساً في بناء المساجد وغيرها من المواقع الثقافية الإسلامية، وحتى اليوم لا تزال هناك أسوار أو بوابات قائمة في القاهرة بناها مهندسون أرمن.

وعلى أي حال فإن حقيقة أن الجانب الأذربيجاني يحاول نشر الكراهية تجاه أرمينيا والأرمن في أرض مصر، الدولة والأمة الصديقة لنا، أمر مقلق للغاية ويشكل تهديداً خطراً للجالية الأرمنية الموجودة في مصر منذ قرون، كما قد يكون لذلك تأثير سلبي على الانسجام العام والاستقرار في المجتمع المصري.