في الثالث من شباط/ فبراير 2019، تُوفي في بيته في كامبريدج (المملكة المتحدة) الناقد والمفكر الموسوعي جورج شتاينر عن سنّ يناهز التسعين عامًا، تاركًا للمكتبة العالمية عشرات الكتب البديعة في مختلف مجالات المعرفة، خصوصًا في الفلسفة والنقد.
وكان جورج شتاينر يتمتّع بجنسيتين: الفرنسية والبريطانية، وبطلاقة يتكلم أربع لغات: الهنغارية، والفرنسية، والألمانية، والإنكليزية. كما أنه ظل طوال مسيرته المديدة يتنقل بيسر بين الثقافات القديمة والحديثة، وبين الأدب والفكر والتاريخ ليبلور أفكاره ورؤاه بخصوص العديد من القضايا المتصلة، بالخصوص، بأوروبا المتحضّرة و”البربرية” في نفس الوقت. أوروبا التي عاشت أهوال حربين عالميتين، وكوارث ومجازر أخرى كادت تقودها إلى الدمار والانقراض.
وُلد جورج شتاينر في فيينا عام 1929. والواضح أن التأثيرات الأولى جاءته من جانب والدته التي تنتمي إلى واحدة من أرقى العائلات في العاصمة النمساوية. وهو يتحدث عنها قائلًا: “عبقرية أمي هي التي حدّدت مسار حياتي. فقد كانت تتكلم لغات عدة مثل الفرنسية والهنغارية والإيطالية والإنكليزية. وكان بإمكانها أن تبدأ جملة بهذه اللغة لتختمها بلغة أخرى من دون أن تعي ذلك. وكان لها كبرياء جنوني خاص، وثقة عالية بالنفس”.
أما والد جورج شتاينر المدعو فريدريك، فقد كان محاميًا لدى البنك المركزي النمساوي. وكانت له علاقات وثيقة بالبعض من مشاهير الفكر والثقافة في فيينا. ويوم حفل زواجه تلقى برقية تهنئة من سيغموند فرويد. كما أنه كان يكنّ إعجابًا كبيرًا بكافكا، بحيث لم يكن يملّ من إعادة قراءة مؤلفاته.
وعندما بدأت النازية تهدّد ألمانيا مطلع الثلاثينيات من القرن الماضي، هاجرت عائلة شتاينر إلى فرنسا لتستقر في باريس. وكانت الحرب الكونية الثانية على وشك الاندلاع عندما شاهد الطفل جورج من شرفة الشقة التي كانت تقيم فيها عائلته تظاهرات شوفينيين فرنسيين كانوا يدعون إلى مناصرة النازيين. وفي لحظة ما، اقترب منه والده ليهمس له بهدوء: “هذا يُسمّى التاريخ… وليس عليك أن تخشى ما أنت ترى!”. وفيما بعد، سيقول جورج شتاينر: “بصفاء ذهني، توقّع والدي كلّ ما سيحدث فيما بعد. ولم يتفاجأ بأي حدث من الأحداث الرهيبة التي عاشها العالم خلال الحرب الكونية الثانية”.
وعندما كان النازيون يُعدّون العدّة لاحتلال باريس، انتقلت عائلة شتاينر للعيش في الولايات المتحدة الأميركية. وفي نهاية الحرب الكونية الثانية، عبّر الفتى جورج عن رغبته في العودة إلى باريس لمواصلة تعليمه، غير أن والده نصحه قائلًا: “انتبه يا ولدي العزيز… المستقبل للغة الإنكليزية… وإذا ما أنت فكّرت في أن تكتب ذات يوم كتابًا مهمًّا فعليك أن تكتبه بلغة شكسبير وليس بلغة موليير!”. وقد استجاب الابن الرصين لنصيحة والده. وأول كتاب ألّفه كان باللغة الإنكليزية، وكان “عن تولستوي ودوستويفسكي”. أما كتابه الثاني “موت التراجيديا” فقد سمح له بأن يحتل مكانة بارزة في مجال النقد الأدبي، لا في أوروبا وحدها، وإنما في الولايات المتحدة الأميركية أيضًا. وفي هذا الكتاب، يبحث، انطلاقًا من أعمال إبداعية قديمة وحديثة، عن الجوانب البربرية في الحضارة الأوروبية التي شعّت على العالم بعد القرون الوسطى.
انطلاقًا من الستينيات من القرن الماضي، وبفضل الشهرة التي أصبح يتمتع بها، عُيّن جورج شتاينر أستاذ كرسي في جامعة كامبريدج، ثم في العديد من الجامعات المرموقة الأخرى، مواصلًا الكتابة في النقد، وفي التاريخ، وفي الفكر الفلسفي. ومحددًا رؤيته الفكرية، هو يقول:
“أنا حتمًا ابن المفكر الفرنسي باندا، صاحب كتاب ‘خيانة المثقفين‘، وكتاب ‘نهاية اللانهائي‘ الذي أعتبره أجمل وأروع من الأوّل. وهم يقولون بأن إصلاح خطأ في مخطوط لباندا أهمّ من الحيلة ذاتها. وغريزيًا، أنا أؤمن بهذه القصة الحمقاء. هناك رجال ونساء يمتلكون عبقرية. وفي الآن ذاته، هم يعرفون كيف يكونون مبدعين أو مفكرين، وكيف يُظهرون قوّة أخلاقية وسياسية كبيرة. أعلم أنه لن يكون باستطاعتي أن أفعل شيئًا لليائسين من الشفاء، وبالتالي ليست لي القدرة على أن أمسك محتضرًا بيدي (…) في مكتبي الخاص، يحتل أرخيميدس مكانًا مفضلًا. وقد حذّروه بأنه يمكن أن يُقتل. وكان باستطاعته أن يهرب، إلا أنه ظل يعمل لحلّ مشكلة لم تُحل إلى حدّ هذه الساعة. وكان يقول: ’اتركوني أعمل في سلام!’. وهكذا قُتل”.
وبعد أن أصدر فوكوياما، المفكر الأميركي من أصل ياباني، كتابه الشهير “نهاية التاريخ”، وذلك عقب انهيار جدار برلين، علّق جورج شتاينر على ذلك قائلًا:
“النظريات بشأن نهاية التاريخ تبدو لي عبثية، وغير مجدية. نحن حيوانات جدّ عنيدة وجدّ صلبة. ونحن نعاني من كوارث، ونتكبّد خسائر في الأرواح. هذا صحيح. لكن الشيء المدهش هو أننا بعد 100 مليون ضحية في أوروبا بين شهر آب/ أغسطس 1914 وشهر أيار/ مايو 1945، ما نزال هنا جالسين مع بعضنا البعض، معافين تقريبًا. وما تزال الحياة متواصلة إلى حين نحن نقول: إنها النهاية. غير أن المؤكد هو أن التاريخ يتقدم بسرعة على المستوى العلمي والتكنولوجي، لكنه بطيء التقدم في النواحي الأخلاقية. مع ذلك، هناك عدد كبير من الناس يموتون بالسرطان وبأمراض أخرى. ولا يزال الزكام شرسًا مثلما هي حاله في عهد يوليوس قيصر، الذي كان يعاني من زكام شبه دائم. ما الذي تغيّر؟ وفي أي وقت؟ مع ذلك، حين أقرأ مع طلبتي نشيدًا من أناشيد هوميروس، أو قصيدة من قصائد باندار، أو مسرحية لأريستوفان، أشعر أنا وهم أننا نعيش نفس الزمن الذي كانوا يعيشون فيه، ومعهم نضحك ونبكي. وإذًا يمكن القول إن هناك تغيّرات حدثت، لكن على مستوى السطح فقط، أما الروح البشرية فلم تتغيّر!”.
“أعتقد أن أوروبا، المجسدة في فلورنسا، وفي سانت بطرسبورغ، وفي فايمار، حملت في طيّات تاريخها السري والعلني بذورًا لاإنسانية عميقة تتوجب دراستها، واستجلاء خلفياتها وتبعاتها”
وفي شأن الجانب البربري في الحضارة الأوروبية، يقول جورج شتاينر:
“إلى حدّ هذا الوقت، لا تزال أوروبا ترفض مواجهة جذورها البربرية. الحديقة الآسرة لغوته تقع بجانب معسكر ’بوخنفالد’ الرهيب، الذي قضى فيه الكثيرون خلال الحقبة النازية. وإذًا علينا أن نتساءل عن العلاقة بين تاريخنا الثقافي الهائل، والكبرياء الذي بلا حدود لحضارتنا، وبين البربرية. وأنا أعتقد أن أوروبا، المجسدة في فلورنسا، وفي سانت بطرسبورغ، وفي فايمار، حملت في طيّات تاريخها السري والعلني بذورًا لاإنسانية عميقة تتوجب دراستها، واستجلاء خلفياتها وتبعاتها”.
وإلى جانب الترجمة واللسانيات، والتلاقح بين الثقافات واللغات، اهتمّ جورج شتاينر بالفلسفة، مركزًا، بالخصوص، على هايدغر، الذي يعتبره من أعظم فلاسفة القرن العشرين، ومن أكثرهم تأثيرًا في التيارات الفلسفية الحديثة. وهو يفسّر خطأ انزلاقه إلى النازية على النحو التالي:
“عندما علم كارل ياسبرس بأن صديقه هايدغر أصبح من أنصار النازية مطلع الثلاثينيات من القرن الماضي، اندهش وصاح فيه: ’كيف يمكن، وأنت صاحب العقل الجبار، أن يحكم ألمانيا هذا الرجل الخشن؟’ (يقصد هتلر). فردّ عليه هايدغر قائلًا: ’دعك من الثقافة… أنظر إلى يديه، كم هما ناعمتان!’. والحقيقة أن تحمّس المفكرين والفلاسفة والمثقفين لمناصرة الطغاة والمستبدين ليس جديدًا. فقد تردّد أفلاطون أكثر من مرة إلى جزيرة صقلية، آملًا في أن يكون في خدمة حاكمها الطاغية، محاولًا أن يعثر على تبريرات فلسفية لسياسته، ولقوانين دولته. وأعتقد أن العديد من المثقفين يطمحون إلى أن يكون لهم نفوذ يتجاوز مجالهم المعرفي، ويحررهم من أبراجهم العاجية… لذا، هم يتحولون إلى خدم للأنظمة السياسية، غاضّين الطرف عن جرائمها ومظالمها. ومسرحية ’الدرس’ ليونيسكو، التي تنتهي بأن يقوم الأستاذ بقتل تلاميذه، تعكس ما أقول. ولعل هايدغر كان يرغب في أن يشعّ خارج المجال الجامعي الضيق. لذا، ارتمى في أحضان النازية، معتبرًا إياها ’انطلاقة’ إلى مستقبل أفضل، وولادة جديدة لألمانيا، التي كانت تعاني من نكبة الحرب الكونية الأولى، ومن هزيمتها المُرّة في تلك الحرب. وعلينا ألا ننسى أن الفلسفة في ألمانيا تحتل مكانة بارزة. لذا، يمكن القول بأنها بلد أفلاطوني، أي أنها بلد يطمح فيه الفلاسفة والمثقفون إلى أن يكونوا فاعلين في السياسة. ولكن، لا بد من أن أشير إلى أن السلطات النازية كانت مرتابة من هايدغر. وفي تقرير لأجهزة المخابرات، أقرأ ما يلي: ’هايدغر يُظهر تحمّسًا للنازية، لكنه ليس صالحًا لها، ولا يمكن أن ينفعها في أيّ شيء!’. والمؤكد أنه – أي هايدغر – فقد أمله في النازية في فترة وجيزة لا تتجاوز التسعة أشهر. غير أنه لم يتحلّ بالشجاعة لانتقادها علنًا. وحتى بعد انهيارها، لم يشأ أن يتدخل في الجدل الذي اشتعل بخصوص انتمائه للنازية”. ويضيف شتاينر قائلًا: “على أية حال، هايدغر ليس الوحيد الذي أخطأ. فقد التقيت في الصين مثقفين وجامعيين كانوا يعانون من تشوهات وعاهات جسدية بسبب ما تعرضوا له من تعذيب خلال ما يسمى بـ’الثورة الثقافية’ التي أطلقها ماو تسي تونغ. وكانوا قد وجّهوا في ذلك الوقت رسالة إلى سارتر يطلبون منه التدخل لدى السلطات الشيوعية لكي تكفّ عن المظالم المُسلطة عليهم. غير أنه لم يفعل ذلك. بل إنه اعتبر التقارير والشهادات التي دانت فظائع ’الثورة الثقافية’ ومجازرها، مزورة ملفقة، بل ومن وحي المخابرات الأميركية! لذا، يمكنني أن أقول إن أخطاء سارتر كانت أشنع من أخطاء هايدغر!”.
هنا مقتطفات من حوار أجرته “المجلة الأدبية” الفرنسية (“ماغازين ليتيرير”) مع جورج شتاينر في عددها رقم 427 الصادر في شهر كانون الثاني/ يناير 2004:
(*) جذورك اليهودية لعبت دورًا أساسيًا في حياتك، وهي التي حدّدت اختيارك لمسارك، إذ إنّ والدك كان قد قرّر أن تكون أستاذًا ومُعلّمًا احترامًا للتقاليد.
جورج شتاينر: كلمة “حاخام” ليس لها مدلول مقدّس أو طقوسيّ… هي تعني فقط: أستاذ. وفكرة التدريس، والتي هي أجمل مطمح بالنسبة لرجل أو امرأة، مُنغرسة عميقًا في اليهودية. وأنا دفعتُ غرامة ثقيلة من أجل هذا المبدأ. فقد رسمتُ، ونشرتُ قصائد. ولولا هذا الحلم الذي سكنني منذ طفولتي المبكرة، حلم التدريس، لكنتُ فشلتُ في حياتي بمحاولتي أن أكون مبدعًا. وكنتُ قد نشرتُ قصصًا، لكنها قصص أفكار، وقصص حجج وبراهين متقاربة إذا ما أنا سمحتُ لنفسي بأن أنتهج المنهج نفسه الذي اتّبعه بول فاليري في مؤلّفه “السيّد تاست”. ومطمح التدريس وفّر لي سعادة عظيمة. والآن لديّ عائلة في جميع القارات، عائلة تتغيّر في كلّ فصل خريف إلى أن بلغتُ سنّ التقاعد. وقد أبقيتُ على صلتي بطلبتي، والبعض منهم أصبحوا أساتذة كرسي. وأنْ أُدعى إلى درس افتتاحيّ يقدّمه واحد من طلبتي القدماء، فإنّ ذلك يكون بمثابة المكافأة الجليلة. لكن لا بدّ من أن أعترف بأنّ الجامعة همّشتني دائمًا، وكنتُ مرفوضًا من قبل المُتنفّذين فيها، إذ إنني أظهرتُ منذ البداية اختلافًا جوهريًا، معلنًا أن أعظم أستاذ في الجامعة لا يمكن أن يكون مبدعًا بالمعنى الحقيقي للكلمة. هو مجرّد ساعي بريد مثل ذاك الذي في فيلم ميكائيل رادفورد الجميل عن بابلو نيرودا. هو يحمل رسائل، لكنه لا يكتب. ونسيان هذا الاختلاف يُعتبر خيانة يرتكبها أساتذة الجامعة. وأنا لا أقبل أن يذهب الغرور بهؤلاء، ومعهم النقّاد، بعيدًا حدّ أنهم يسمحون لأنفسهم بالتشبّه بالمبدعين. واستعمال كلمة “ذريعة” كان من بين عناصر معركتي ضد تفكيكية جاك دريدا. السيّد راسين، والسيّد فرلين، والسيّد شكسبير ليسوا ذريعة لقراءة سيّد صغير يُدعى شتاينر، لأنّه باستطاعتهم أن يستغنوا عنه بكامل اليسر والسهولة. ويقول فالتر بنيامين إنّه توجد في مكتبة العالم أعمال لم تُقرأ منذ ألف عام، وبإمكان هذه الأعمال أن تنتظر. العمل الأدبي أو الفكري له زمن معيّن، لا يكون بالضرورة زمن القارئ. وذات يوم، سوف يفتح قارئ ما تلك الكتب، وعندئذ يُنفض غبار النسيان عنها، وتعود إليها الحياة. ولن يتمّ ذلك بفضل النقّاد، باستثناء بعض التجارب الرائعة.
(*) إذًا، العمل الإبداعي له حضور في ذاته…
بالتأكيد. هل يمكن أن توجد موسيقى من دون أن يكون هناك مستمعون لها؟ إنها مُفارقة فلسفية شديدة التعقيد. وعلى أية حال، نقطة الاشتباك، وشرارة العمل الإبداعي الكبير الذي يُغيّر المشهد الداخلي والخارجي، تظلّ غامضة وغير متوقعة بطريقة بديعة. واستكشاف وجوده أمر نادر وهام. وقد حدث ذلك مثلًا في مخيّم انتظم بالقرب من مدينة بارن السويسرية مع فتيان صغار. والمعلمة طلبت من التلاميذ أن يرسموا القناة التي كانت أمامهم. أحد التلاميذ -واسمه باول كلي- رسم الأعمدة بأحذية تسير، ومنذ ذلك الحين أصبحت كل قناة تسير. وقد صُدمت المعلمة حين اكتشفت أنّ أحد تلامذتها عبقري. وكان حظًا نادرًا بالنسبة لباول كلي، إذ إنّ البيداغوجيا تسحق الشرارة. لذا، علينا أن نتحلّى بالتواضع دائمًا، لأنّنا نكون عاجزين أغلب الوقت عن معرفة، لا نقطة انطلاق العمل الإبداعي، ولا سبب نجاحه وشهرته. والكاتب الوحيد الذي تجاوزت مبيعات كتبه المليار، هي السيدة راولينغ. أطفال الصين يقفون في الصف طوال الليل لكي يقتنوا الجزء الرابع والخامس من “هاري بوتر”، ذلك الكتاب البريطاني جدًا، والذي يروي قصة مُستنْسخة من الحياة في المبيتات المدرسية البريطانية، وتركيبه اللغوي معقّد، ولغته غنيّة، لكنها تنتسب إلى اللعب اللغوي القديم. أبناء الكرة الأرضية جميعهم يلتهمون كلّ كلمة من هذا الكتاب، ويطلبون من آبائهم أن يطفئوا التلفزيون لكي يتمكنوا من قراءة “هاري بوتر” ومن إعادة قراءته. ولا أحد له تفسير مقنع لمثل هذه الظاهرة. والسيدة راولينغ نفسها لا تفهم شيئًا من كل هذا. وهذا ما يجعل الأمر مثيرًا للغاية.
“حن نُعاين أن الصناعات الأكثر انتشارًا هي البورنوغرافيا والمخدرات. وإذا ما أدّت العلمانية، والتسامح الغنوصي، والليبرالية على طريقة فولتير إلى كلّ هذا، فإنّ هذا مؤشّر خطير للغاية”
(*) هل تعتقد أن الحضارة الغربية فقدت دورها الريادي القديم؟
هناك نماذج حضارية أخرى في طور التكوين. لهذا السبب يمكن القول إنّ مسألة التربية والتعليم في الصين هي الآن الأكثر إثارة للاهتمام. ولا بدّ أن يكون هناك أناس لتعلّم اللغة الصينية المعقّدة جدًا. وكانت الولايات المتحدة قد تجاوزت أوروبا في المجال التكنولوجي والعلمي والاقتصادي. وميزانية جامعة هارفارد تتجاوز مجمل ميزانيات كلّ جامعات أوروبا الغربية.
(*) إذًا، أنت تعطي أهمية كبيرة لميزانية التربية والتعليم…
باستطاعة أميركا أن تكون ماديّة بشكل فظ، لأنّها تولي عناية كبيرة للثقافة والتربية. وفي بريطانيا، الأزمة على وشك الانفجار، لأنّ الحكومة لا تدري ماذا عليها أن تفعل لكي تظل الجامعات محافظة على وجودها وعلى دورها. وفي فرنسا، البحث، والمعاهد، والمختبرات تواجه مصاعب مادية هائلة. وكان بول فاليري قد أعلن عام 1919 بأنّ كلّ الحضارات مآلها الموت. وإذن، ليس هناك أي نظام له عقد مع الأبدية. الأشياء تتغيّر. منذ ما سمّاه هنري فوسيّون بـ”هلع السنة الألف”، والحضارة الغربية تشعر بموتها وبنهايتها، حتى ولو أن أحدًا لم يتوقّع حجم الكارثة التي شهدها القرن العشرون. وكان مونتاني واعيًا بهذه النهاية. فقد كتب في عصر لم تترك فيه الحروب الدينية أملًا كبيرًا للإنسان. مع ذلك، نحن نستشفّ شيئًا من الأمل في “رسائل” مونتاني: ففي النصّ الافتتاحي تثير الفضيلة الشفقة، والمحاربون المهزومون يتوصّلون إلى إيقاف سيف المنتصرين. وكان مونتاني غير مدرك لما هو تراجيدي. لذا لم يفهم جيدًا وحشية الإنسان، ولم يكن يرغب في ذلك. وكان مسكونًا بنوع من التسامح، ومن الحنان بخصوص ما هو إنساني، والذي لا يتطابق إلاّ قليلًا مع وضعنا. أمّا باسكال، فقد أدرك كلّ شيء، قائلًا: “أنا يهودي جنسينيّ”.
(*) وهذا ما ينطوي على إيمان بالله…
لي تقدير واحترام لملحد واثق تمامًا من إلحاده، إلاّ أنّني نادرًا ما التقيت بواحد من هؤلاء. بعض العلماء يقولون إنّ القلق الشخصي ليس له أيّ معيار، ولا مدلول له حول الحياة. غير أنّ الهاتف يرنّ في الثالثة صباحًا لكي يعلن عن موت طفل في حادث سيارة، وأغلب أهالي الطفل يشرعون في النحيب والصراخ: “يا إلهي… يا إلهي… ساعدني”. وهم يفعلون ذلك، حتى ولو كانوا ملحدين أو غنوصيين. نادرون هم الذين يصمتون، ويواصلون التأكيد على أنّ هذه الفاجعة ليس لها معنى أكثر اتساعًا من الألم الذاتي. ما يعنيني هو أنّ وجود الله أو عدم وجوده يظل مسألة جدّية وهامة للغاية بالنسبة للفكر الفلسفي، والجمالي، والسياسي، والأخلاقي. وأنا أراهن على أنّ هذه المسألة إن هي تحوّلت إلى مزحة بائخة، أو إلى كلمة مهجورة من قاموس فرويد، فإنني على يقين بأنّ بعض مجالات الابتكار الفني والفلسفي سوف تختفي. وهل يكون هناك، ما كنتُ قد أشرت إليه في الفصل الأخير من كتابي “نحو الابتكار”، أعمال عظيمة إلحاديّة مثل “الإخوة كارامازوف”؟ إنّ مسألة وجود الله تسكن كل بيت من أبيات باول تسيلان، الذي أعتبره قمّة الشعر الحديث. وهو يسكن أيضًا كبار الكتّاب والشعراء والموسيقيين.
(*) وهذا ما أنت حاولت أن تُبيّنه في كتابك “حنين المطلق”: مسألة الله ظلّت حاضرة عند ماركس، وعند فرويد، وعند ليفي شتراوس…
هم ترجموها فعلًا بصيغ مختلفة. وهذه المسألة تختفي حقًا أمام التشخيص على الكرة الأرضية، حيث تداول المال أصبح أساسيًا. إذ نحن نُعاين أن الصناعات الأكثر انتشارًا هي البورنوغرافيا والمخدرات. وإذا ما أدّت العلمانية، والتسامح الغنوصي، والليبرالية على طريقة فولتير إلى كلّ هذا، فإنّ هذا مؤشّر خطير للغاية. إن لم يكن هناك إله، فإنّ التحرّش بطفل -وهذا يُمثّل ذروة الفظاعة بالنسبة لي مع التعذيب- يمكن أن يصبح فعلًا عاديًا، وبلا أيّ قيمة. وأنا لا أرغب في أن أرى أمامي مثل هذا العالم… ثقافتنا حزينة. أين الفرح؟ هناك بلدان فيها ما يزال الشبان يضحكون بأعداد وفيرة: أيرلندا، حيث هناك انفجار في مجال الأدب والمسرح، وإسبانيا بعد الفترة الفرانكية المديدة. أمّا بالنسبة لبقيّة البلدان الأوروبية، فإنّ الأمر مثير للحزن والخوف.
(*) في قصتك “عند الساعة الخامسة بعد الظهر”، تدور الأحداث في “ميديلين”، مدينة المخدرات في كولومبيا. وفيها أنت تشير إلى أنّ الشعر يمكن أن يُستعمل كوسيلة ضدّ العنف، حتى ولو مات الشعراء.
بما أنّني لا أملك موهبة الابتكار، فإنّ هذه القصة مقتبسة من حادثة واقعية: شعراء شبان مقرّبون من أوكتافيو باث ذهبوا إلى “ميديلين”، مُخاطرين بحياتهم، لكي يوزّعوا قصائد. ومعنى ذلك أنّ الأمل ما يزال قائمًا. والموسيقى تمثّل أملًا بالنسبة لي، ربما بعد الكلمة. في المجال الأدبي، أنا أعيد قراءة كتب قديمة عوضًا عن قراءة كتب جديدة. أمّا في مجال الموسيقى، فأنا أتوق لسماع الجديد دائمًا. وأنا أعتقد أنّ عصرنا الآن مهمّ في المجال الموسيقي أكثر من المجال الأدبي (…) نحن نعيش ثقافة عدم التحفّظ بشكل كامل. الناس يلتهمون كتب السيرة، لكنهم لا يقرؤون العمل الأدبي لصاحب السيرة. وفي فرنسا، تنشر النساء تجاربهن الجنسية التي قد تكون مختلقة. في قصيدة شهيرة نشرها عام 1914، يتحدث إزرا باوند عن صراحة غير مسبوقة قد تؤدي إلى تدمير العالم. وأظنّ أنّ حدسه كان صائبًا. القيم الأساسية مثل الصمت، والتحفّظ، تفقد أهميتها شيئًا فشيئًا. لكن علينا أن نواصل النضال، لأنّ النضال قد يقودنا إلى الخلاص. كلّ واحد منّا يحافظ على حياته بفضل مزحة من المزح. كلّ صباح، حين أستيقظ، أتذكّر مزحة تساعدني على مواجهة نهاري.
المترجم: حسونة المصباحي
شارك هذا المقال