كان المسؤولون الأتراك من بين أول الواصلين إلى دمشق مباشرة بعد سقوط نظام الأسد آواخر عام 2024، وتم تداول الصورة الشهيرة لوزير الخارجية التركية هاكان فيدان على قمة جبل قاسيون إلى جانب الرئيس السوري الجديد أحمد الشرع، للدلالة على حجم الحضور التركي في الملف السوري، ثم ظهرت تسريبات شبه رسمية تركية لاحقاً عن نية أنقرة عقد اتفاقيات عسكرية واقتصادية مع الإدارة السورية الجديدة، والمساهمة الفاعلة في هيكلة المؤسسة العسكرية.
منذ البداية، حرصت أنقرة على تنسيق الخطوات في الملف السوري مع دول عربية مؤثرة مثل المملكة العربية السعودية، تجنباً لأي تداعيات سلبية. مع مرور الوقت، بدأ الجانب التركي يظهر سياسية تحفظية، وانضباطاً أكبر للخطوات في الملف السوري بحكم المتغيرات وتضارب مصالح الفاعلين الدوليين.
تراجع الحديث عن الدور العسكري
حتى ما قبل بداية شهر نيسان/ أبريل الفائت التي شهدت هجمات إسرائيلية جوية واسعة على مواقع عسكرية وسط سوريا، انتشرت تسريبات مكثفة عن توجه دمشق وأنقرة لإقامة قواعد عسكرية تركية جديدة في حماة وحمص، ستساهم في حماية الأجواء السورية وتقديم الاستشارات الأمنية والتدريبات للجيش السوري.
على إثر التصعيد الإسرائيلي الذي بررته تل أبيب بالمخاوف من النفوذ التركي في سوريا، عقدت إسرائيل وتركيا لقاءاً أمنياً برعاية الحليف المشترك للجانبين المتمثل بأذربيجان، تخللها تأكيدات من الطرفين بعدم الرغبة بالاشتباك في سوريا.
أيضاً، لعبت واشنطن فيما يبدو دوراً مؤثراً في ضبط الموقف بين أنقرة وتل أبيب في سوريا، حيث أكد الرئيس الأميركي دونالد ترامب لرئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو عند استقباله في البيت الأبيض في نيسان/ أبريل الفائت، ضرورة التنسيق مع تركيا لحل القضايا العالقة في سوريا، حيث لا يرغب ترامب فيما يبدو بزيادة منسوب التصعيد بين حليفين رئيسيين له في منطقة الشرق الأوسط، وبالتالي سيستلزم الأمر مراجعة كل من أنقرة وتل أبيب لخطواتهما في الملف السوري.
في المقابل، تستمر تركيا بالتركيز على الأولوية الأمنية في الملف السوري المتمثلة بالحفاظ على وحدة الأراضي السورية، وعدم السماح لمشروع الإدارة الذاتية الكردي بترسيخ نفسه على حدودها، ومن خلال التنسيق مع الإدارة السورية التي تحرص أنقرة على أن تحوز على شرعية كاملة، مع عدم إظهار نزعة تركية لتوسيع دورها ليشمل مختلف المجالات في سوريا كالسيطرة على مشاريع طرق النقل، أو رعاية تأسيس الجيش السوري الجديد.
حرية أوسع للإدارة السورية
من الواضح أن الموقف التركي يتيح حرية أوسع للإدارة السورية في سياساتها الخارجية، حيث تراجع التصعيد الإسرائيلي ضد المواقع الحكومية السورية إلى مستوى منخفض للغاية منذ منتصف نيسان/ أبريل الماضي، كما أن الطلعات الجوية التي نفذتها الطائرات الإسرائيلية فوق دمشق خلال عمليات سيطرة القوات الحكومية على أشرفية صحنايا الخاضعة لسيطرة فصائل درزية لم تكن معيقة لهذه السيطرة، بل بدى لافتاً في البيان الذي أصدرته الحكومة الإسرائيلية، الحديث عن مطالبتها للإدارة السورية بمنع انتهاكات بحق الدروز مما أعطى انطباعاً بأن تل أبيب تجري اتصالات مباشرة مع دمشق.
من شأن السياسة التركية التحفظية تجاه الملف السوري أن تعطي انطباعاً للفاعلين الدوليين بأن الإدارة السورية لا تتحرك فقط من منظور العلاقة مع تركيا، خاصة وأن دمشق تبدي انفتاحاً على تطوير العلاقة مع فاعلين إقليميين ودوليين مهتمين بالملف السوري، ولديهم تنافسية مع تركيا مثل الإمارات وفرنسا، وقد أثمر هذا المسار توقيع اتفاقية بين الحكومة السورية وشركة فرنسية تتضمن استثمار ميناء اللاذقية، مما يعني أن باريس ستصبح دولة فاعلة في خطوط نقل البضائع والطاقة عبر البحر المتوسط باتجاه أوروبا.
على العموم، من المتوقع أن تستمر تركيا بالعمل على حشد الدعم الدبلوماسي للإدارة السورية من خلال الاتصالات مع إدارة ترامب، لأن من مصلحة أنقرة أن تسيطر الحكومة السورية على كامل أراضي البلاد بحكم المصالح الأمنية المشتركة بين الجانبين، والمخاوف من محاولات تقسيم سوريا إلى كيانات متعددة، وأيضاً ستركز أنقرة على علاقات تجارية واقتصادية مثمرة، دون إظهار رغبتها بالهيمنة في الملف السوري.