دمشق – “النهار”. أصدر الرئيس السوري الانتقالي أحمد الشرع مرسومين تشريعيين حملا الرقمين 19 و20، يتعلق الأول منهما بتشكيل الهيئة العامة للمفقودين، والثاني بتشكيل الهيئة العامة للعدالة الانتقالية.
ويكتسب المرسومان أهمية خاصة، لارتباطهما بأكثر ملفات الحرب السورية تعقيداً من جهة، وما ينطويان عليه من أبعاد إنسانية عميقة تتعلق بحقوق الضحايا الذين تضرروا من الحرب، وضرورة تعويضهم ومحاسبة المسؤولين عمّا أصابهم من جهة أخرى.
ويرى الباحث القانوني السوري المعتصم الكيلاني، في حديث لـ”النهار”، أن إنشاء هيئتين متخصصتين بهذا الشكل يعكس إدراكاً رسمياً لحجم الملف وتعقيداته. ويعتبر أن هذه المؤسسات تمثّل “نواة أولى لمسار عدالة انتقالية جاد، وتؤسس لمسؤوليات واضحة في التوثيق، والمحاسبة، والإنصاف”.
ويشدد على أن المرسومين نصّا على الشخصية الاعتبارية والاستقلال المالي والإداري للهيئتين، وهو شرط أساسي لضمان حيادهما وفعاليتهما، شريطة أن يُطبق فعلياً بعيداً عن أي تدخل سياسي أو أمني.
وبحسب الكيلاني، فإن “مرسوم العدالة الانتقالية يؤكد على المبادئ الأساسية لهذا المسار: كشف الحقيقة، المحاسبة، الإنصاف، وضمان عدم التكرار، وهي مؤشرات إيجابية نادرة في السياق السوري”.
ومع ذلك، لم يخلُ المرسومان من إشكالات شكلية وموضوعية، قد تكون مفهومة في سياق تعقيدات الحرب السورية وتشابك المسؤوليات فيها، بما يشمل شخصيات لا تزال في السلطة، إلا أنه سيكون من الصعب على الضحايا وأهاليهم تقبّل هذه الإشكالات، خاصة أن المرسومين يبرّئان سلفاً قسماً كبيراً من الجناة، ويستثنيان مشاهد دامية رسمها الإرهاب والتنظيمات المتطرفة خارج إطار العدالة الانتقالية، ما قد يضيّع حقوق كثير من الضحايا ويحوّل العدالة إلى عملية انتقائية، وهو ما يُعدّ انزلاقاً نحو الانتقام لا المحاسبة.
وصدر مرسوم العدالة الانتقالية مخالفاً لتوصيات الخبراء والمختصين، الذين سبق أن أصدروا تقارير وخطط عمل تؤكد على ضرورة تأسيس هيئة العدالة الانتقالية بموجب قانون يصدر عن السلطة التشريعية، محذّرين من مخاطر اللجوء إلى مرسوم تنفيذي بديلاً عن المسار التشريعي، وفق ما ورد في تقرير للشبكة السورية لحقوق الإنسان صدر في 13 أيار/مايو الجاري.
وفي تعليق مقتضب لكنه عميق الدلالة، عبّر الباحث والكاتب السوري الدكتور رضوان زيادة عن استيائه من طريقة إصدار المرسومين، وقال في منشور على حسابه في “فايسبوك”: “طريقة تشكيل الهيئة الوطنية للعدالة الانتقالية والهيئة الوطنية للمفقودين تدعو إلى الإحباط؛ فليس بهذه الطريقة تُؤسَّس أهم مؤسسات وطنية تسعى لتحقيق العدل والإنصاف والحقيقة للضحايا، وما أكثرهم في سوريا”.
من جهته، يوضح المتخصص بالقانون الدستوري الدكتور سام دلة، في حديث لـ”النهار”، أن جوهر العدالة الانتقالية يرتكز على هدفين: إنساني يتعلق بكرامة جميع الضحايا، ووطني يتعلق بمواجهة الماضي من خلال الاعتراف بالانتهاكات التي ارتُكبت من جميع الأطراف دون استثناء، بهدف بناء مستقبل مشترك.
ويضيف: “أسوأ ما يُفرغ هذين الهدفين من مضمونهما هو الاستغلال السياسي من خلال الانتقائية في تحديد الضحايا والانتهاكات”. ويشير إلى أن “مرسوم العدالة الانتقالية حصر عمل الهيئة في الانتهاكات الجسيمة التي ارتكبها النظام السابق، متغافلاً عن انتهاكات فصائل مسلحة متعددة، وتنظيم داعش، وهيئة تحرير الشام، بل وحتى الانتهاكات المرتكبة في سجون إدلب”، معتبراً أن هذا الاستثناء يهدد بتحويل العدالة إلى “عملية موجّهة سياسياً”.
ويتفق الكيلاني مع هذا الطرح، معتبراً أن “حصر العدالة الانتقالية بفترة حكم الأسد وفق الإعلان الدستوري يُحدث تمييزاً ضد الضحايا الآخرين في البلاد، وهو أمر ينبغي مراجعته، إذ لا يجوز أن تقوم العدالة على التمييز”، بحسب تعبيره.
ويضيف أن “العدالة الانتقالية لا يمكن أن تكون أداة بيد أي طرف سياسي. فإذا لم تكن هذه الهيئات محمية من النفوذ السلطوي أو الأمني، فإنها ستتحول إلى واجهة شكلية فقط”.
وينتقد دلة تعيين قيادي سابق في فصيل مسلح على رأس هيئة العدالة الانتقالية، ويقول إن “رئيس الهيئة المُعيَّن (عبدالباسط عبداللطيف) قد يكون شخصاً جيداً، وقد التقيت به، لكن كونه كان قيادياً في جيش ‘أسود الشرقية’ يثير تساؤلات كثيرة بشأن حيادية الهيئة”.
ويستكمل الكيلاني هذه النقطة بالتأكيد على أن “المراسيم لم تنص على شروط صارمة وواضحة لاختيار الأعضاء، مثل النزاهة، عدم التورط في الانتهاكات، الكفاءة القانونية، والتمثيل المتوازن. وهذه ثغرة قد تؤدي إلى فقدان الثقة الشعبية بالهيئات”.
ويطالب عدد من النشطاء السوريين بضرورة سحب المرسوم ومراجعته قبل الشروع في تنفيذه، لتلافي العيوب الواردة فيه. ويقول رئيس المركز السوري للمساءلة والعدالة محمد العبدالله: “يجب إعادة النظر في هيئة العدالة الانتقالية قبل أن تبدأ عملها، احتراماً لجميع الضحايا السوريين”. ويضيف أن “محاسبة طرف دون آخر تُؤسس فقط لما يُعرف بـ’عدالة المنتصر’، وهي نسخة قانونية ملطفة من أعمال الانتقام خارج إطار القانون. وهذا لا يؤسس لعدالة حقيقية، ولا يحترم حقوق الناس، ولا ينهي ثقافة الإفلات من العقاب”.