ليس مبالغة أن نقول إن المملكة العربية السعودية باتت اليوم قوة إقليمية، وأن ما تفعله الرياض ليس مجرد خطوات سياسية أو اقتصادية منعزلة، بل هو مشروع تحول شامل تقوده المملكة بإرادة تستند إلى قراءة واعية لموازين القوى الجديدة في العالم.
زيارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب الأخيرة للرياض، لم تكن مجرد محطة في أجندة سياسية أو دبلوماسية لزعيم مثير للجدل، بل كانت انعكاسا مباشرا لمكانة السعودية الجديدة في التموضعات الإقليمية المستجدة في الشرق الأوسط والعالم.
تلك الزيارة التي كان من الواضح أنه تم إعدادها بل هندستها بعناية شديدة، وجاءت ضمن برنامج مزدحم بالأنشطة والاجتماعات، عكست بكل وضوح ديناميكية القرار السعودي، في التعامل مع التحولات الدولية.
وفي كل زاوية من هذه الزيارة، كانت الرسالة واضحة، من أن السعودية باتت اليوم تقرر من موقع القوة، ومن موقع الشراكة، لا العلاقات التقليدية التي تُفرض من الخارج. وبرنامج الزيارة يعكس هذه الحقيقة.
الرياض اليوم ترتبط بعلاقات متماسكة مع الصين وروسيا، ومع قوى آسيوية فاعلة مثل الهند واليابان، وتمكنت من تخفيف وطأة الاستقطاب الإقليمي، من خلال تفاهمات هادئة، وأحيانا صامتة، لكنها فعالة، وأهمها المصالحة مع إيران برعاية صينية مطلع 2023.
كل ذلك يؤكد أن السعودية التقطت لحظة التحول مبكرا، والإقليم كله في حالة تغير دراماتيكي والعلاقات الدولية نفسها أيضا في مرحلة تغيير حاسم نحو عالم جديد. ويمكن الاستنتاج أن الرياض أرادت من الزيارة أن تبقى خليجية–أميركية، وأن تترك القضايا الكبرى لمراحل لاحقة، تُدار برؤية ناضجة وليس تحت ضغط اللحظة.
بيد أن الملف السوري حظي بنوع من الاستثناء أذ رتبت دعوة سريعة إلى الرئيس السوري أحمد الشرع، ليتم رفع العقوبات عن سوريا، في لقاء ثلاثي بين ترمب وولي العهد الأمير محمد بن سلمان والشرع، رعته الرياض بهندسة إعلامية تتناسب وحجم الحدث.
وحسب مصادر موثوقة، هذا لا يعني أن الرياض لا تركز على القضية الفلسطينية، بل العكس حسب المصدر الذي أضاف أن كل ما في الأمر أن السعودية باتت تُهيئ الأرضية لتحريك الملف وفقا لمبادرة “التحالف الدولي لحل الدولتين”، وهي مبادرة لا تزال في بداياتها، لكنها تعكس نية حقيقية لكسر الجمود لا بالخطابات، بل ببناء أدوات تفاوضية جديدة ومختلفة.
وما ينطبق على فلسطين، ينطبق على لبنان، فالسعودية التي رعت “اتفاق الطائف”، تُعيد اليوم تموضعها كضامن للحل اللبناني، لا من باب المساعدات المالية فقط، بل من زاوية الدور السياسي المتوازن والفاعل.
وهذا يطرح التساؤل عن عمان، والعلاقة الأردنية-السعودية التي يبدو أنها تسير بتوازن ضمن أدوار تكاملية بين البلدين، خصوصا مع أهمية الجغرافيا السياسية للأردن بين السعودية وسوريا.
من جانب آخر يمكن من خلال متابعة الأخبار، ملاحظة التنسيق الضمني والتكاملي بين الرياض وعمان، فبعد أقل من أسبوع على زيارات ترمب إلى الرياض والدوحة وأبوظبي، يقوم وفد أردني برئاسة وزير الخارجية أيمن الصفدي بزيارة دمشق، والوفد كانت عضويته تنفيذية ضمت وزراء تنفيذيين متخصصين حسب وزاراتهم، بترسيم تلك العلاقات الاقتصادية البينية بين عمان ودمشق والموصولة بالرياض.
السعودية وبالتكامل الموضوعي مع بعض عواصم الإقليم تعيد صياغة التموضعات في الإقليم والعالم، برؤية لا تعتمد على “الوضع الراهن”
وتحدث الشرع مع الملك عبدالله الثاني في عمان لترسيخ هذا التكامل الإقليمي الجديد، وكان لافتا إشارة الملك الأردني نفسه إلى أهمية دور مجلس التنسيق الأعلى، بين الأردن وسوريا في مأسسة وتعزيز التعاون في قطاعات حيوية كالمياه والطاقة والتجارة، وهي القطاعات التي توليها الدولة الأردنية الأولوية القصوى في ظل وضع اقتصادي سيئ.
وفي المقابل، كانت إشارة الرئيس السوري المعلنة تتعلق بمواقف الأردن الداعمة لسوريا، لاستعادة حضورها الدولي، وهو ما كانت عمان تمارسه “بتنسيق مشترك مع عواصم الإقليم وعلى رأسها الرياض” في جولات ملكية مكوكية في الاتحاد الأوروبي.
خلاصة القول، إن السعودية وبالتكامل الموضوعي مع بعض عواصم الإقليم تعيد صياغة التموضعات في الإقليم والعالم، برؤية لا تعتمد على “الوضع الراهن” الذي يُصر كثيرون على التشبث به، وكأن في الثبات راحة، وفي الجمود نجاة، بينما في الحقيقة، لم يعد هناك مكان لمن لا يغير أدواته، ولا يعيد النظر في منظوماته، ولا يُراجع طريقة تفكيره. فالعالم يتغير بسرعة هائلة، ومن لا يواكب تلك السرعة، يُصبح هامشيا في حركة التاريخ، أو ببساطة يتم إلغاؤه.
+ / –
font change
حفظ
شارك
استمع
05:42
مواضيع مشابهة