على الرغم من أن مصطلح «الإبادة الجماعية» أصبح سحريا، ومثالا لقوة كلمة واحدة في تحريك سلسلة من العواقب والأحداث والالتزامات الدولية، لكن يمكن ببساطة توظيفه سياسيا وتمويه دلالاته. ولا يزال السياسيون يستعملون المصطلح بحذر بالغ، في حالة ما إذا رتب التزامات على عاتق حكوماتهم أو كان يمس مصالح حلفائهم. يساعدهم في ذلك غموض حجم التدمير اللازم للتدخل، أي غياب تقدير عددي يحدد عتبة الإبادة الجماعية، مئة ضحية، ألف ضحية، عشرة آلاف، مئة ألف. ويعتقد الباحث العراقي سعد سلوم، المتخصص في شؤون التنوع الديني، أن العديد من عمليات الإبادة الجماعية، التي وقعت في القرون الماضية، أو على الأقل في سنوات القرن العشرين، لا تزال تُذكر وتُحيا في جميع أنحاء العالم، فقد تم التغاضي عن بعضها في كتب التاريخ، مع أنها لا تزال حية إلى حد كبير في الذكريات الجماعية للمجتمعات .
يتساءل سلوم في كتابه «الإبادات الجماعية في الشرق الأوسط» عن أسباب تذكر بعض حالات الإبادة الجماعية بشكل بارز، في حين يتم تجاهل بعضها الآخر، أو إخفاؤه أو إنكاره؟ وهل تكشف هذه الدينامية مركزية غربية، وهل تكشف هذه التحيزات المتأصلة، وطرق المعرفة وعلاقتها بالسلطة. وللإجابة عن هذا السؤال، يعتقد سلوم، أن دراسة الذاكرة الجماعية أصبحت أداة مهمة للتحليل. ومع ذلك، فإن عملية قلب السؤال ليس عما تم ترسيخه في الذاكرة الجماعية، بل عما تم نسيانه، فيصبح كاشفا لعمليات التلاعب والتحيز وممارسة هياكل السلطة وكتابة التاريخ من وجهة نظر المنتصر، أو ما يطلق عليه ثلاثية الديكتاتورية والمركزية الغربية وبراديغم الهولوكوست.
إبادة الأرمن
منذ إبادة الأرمن أصبحت عمليات الإبادة الجماعية أكثر اتساعا، وأكثر انتظاما (منهجية) وأكثر دقة. وهي تمثل تتويجا للعنف الواسع النطاق الذي ميز القرن العشرين. لذا، يصنف تدمير المجتمع الأرمني على أنه يمثل الإبادة الأولى في القرن العشرين. ومع أن مؤلفين آخرين، يرون أن إبادة الهيرور 1904 ــ 1907 في جنوب غرب افريقيا سبقت الإبادة الجماعية للأرمن. ولعل النقاش الأساس الذي لا يزال حاميا بين المؤرخين الأتراك، والمتخصصين بالإبادة الأرمنية، يرتبط بديناميات الاعتراف والإنكار، وإثبات أن المذابح الحميدية في تسعينيات القرن التاسع عشر، وعمليات الطرد في الفترة من 1918 إلى 1924، تعد بمثابة إبادة جماعية أم لا؟ وهل تطورت بعض الأفعال من الاعتقالات، والمضايقات، والمذابح غير الممنهجة والترحيل، إلى القتل الجماعي الموجه مركزيا؟
ويرى سلوم أنه بعد نهاية الحرب الباردة كان هناك شعور عام، مع سقوط المنظومة الاشتراكية ونهاية التنافس الأيديولوجي، بإمكانيات تحقيق نمط من الاستقرار العالمي وسيادة القانون، ينعكس على نحو مباشر في منع الفظاعات الجماعية وجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية وجريمة الإبادة الجماعية. وكانت حرب الخليج 1991 وإعلان جورج بوش الأب نظاما عالميا جديدا، لحظة وهمٍ لم تستمر كثيرا، إذ لم تخلُ التحولات في النظام الدولي، ما بعد الحرب الباردة، من الاضطرابات التي ارتبطت بشكل، أو بآخر بتطورات رئيسية للإبادة الجماعية، في مقدمتها عمليات الطرد الجماعي والتطهير العرقي المرافقة.
وقد كشفت الأزمة في البلقان عن أن الإبادة الجماعية أصبحت تهديدا متزايدا للنظام الدولي، في ظل حروب الإثنيات أو الحروب الجديدة، لاسيما أن التفكك العنيف ليوغوسلافيا في 1991 ــ 1992 والفظائع التي ارتكبت على نطاق واسع أدت إلى أسوأ أزمة لاجئين في أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية. ترافقت فظاعات البلقان مع بروز مصطلح جديد هو «التطهير العرقي» لتوصيف هذه الفظاعات، بما ينطوي على تقنيات تهجير للسكان تتضمن القتل المنظم، والتطهير العرقي ـ أي طرد السكان بالقوة ـ وجعل المناطق غير قابلة للسكن عبر الحصار والتجويع ونشر الألغام، وغيرها من الأمور. ويرى سلوم أن التدخل في كوسوفو لمنع الإبادة الجماعية، بات يضرب كمثال جديد على حرب شنت عام 1999 باسم «القيم وليس المصالح»، على حد تعبير رئيس الوزراء البريطاني السابق توني بلير، لاسيما بعد فشل المجتمع الدولي في منع الإبادة في البوسنة والهرسك.
مذبحة كوسوفو
من الأشياء المفيدة في كتاب سلوم، هي محاولته التأريخ للإبادات الجماعية التي وقعت في العقود الأخيرة، ما يوفر للقارئ العربي فرصة للتعرف أكثر على هذه الأحداث. يقف عند المذبحة التي تعرض لها الكوسوفيون في العقود الأخيرة. اذ كانت كوسوفو جزءا من الإمبراطورية العثمانية حتى عام 1912 عندما احتلتها صربيا، ثم ضُمت إلى دولة يوغوسلافيا الاتحادية كجزء من جمهورية صربيا، بعد ذلك حصلت على الحكم الذاتي بموجب الدستور اليوغسلافي لعام 1974 إلى إن قام_ميلوسيفيتش بإلغاء هذه الاستقلالية الإدارية الذاتية عام 1989 فارضا هيمنة صربيا المباشرة عليها. وقد تطور النزاع المسلح في كوسوفو من 28 فبراير/شباط 1998 حتى 11 يونيو/حزيران 1999.
وفي ما يتعلق بقصة الإبادة الجماعية في رواندا، يعتقد سلوم أن إرث الحكم الاستعماري البلجيكي، هو الذي غذا جذور الإبادة الجماعية، التي وقعت في البلاد عام 1994، وذلك بخلق هويات إثنية متصارعة. كما شكل الإرث الاستعماري ديناميات المركز والأطراف في السودان، فشكل الشمال مركز الدولة التاريخي، في حين ظلت بقية الأجزاء أطرافا مهمشة. وأعيد إنتاج التقسيم الإثني في الواقع السوداني المعاصر، ولا يمكن فهم هذا النمط من أزمة الإبادة الجماعية، من دون تحليل مجموعة معقدة من الديناميات السياسية الإقليمية والعالمية، التي تم فيها انتاج الاستقطاب العرقي وبلورة ثنائية المركز والأطراف المهمشة.
في معظم حالات الإبادة الجماعية كان تدخل المجتمع الدولي مشلولا على الأغلب، أو يحدث بعد فوات الأوان، وهو ما جرى مع الإيزيديين في العراق، قبل غزو داعش لسنجار في صيف 2014 كان عدد السكان الإيزيديين قرابة 550 ألف شخص. وفي أعقاب الهجمات الأولية، هُجر ما يقرب من 360 ألف شخص، وقُتل 1293 شخصا، ويُتِم 2745 شخصا، واختُطف أكثر من 6500 شخص (بينهم قرابة 3500 سيدة). تشير هذه الأرقام إلى الاستهداف الشرس والمتعمد للجماعة، أكثر من أي أقلية أخرى، على الرغم من أن المسيحيين والمسلمين الشيعة والأقليات الأخرى، مثل التركمان والشبك والكاكائيين وحتى المسلمين السنة الذين عارضوا المجموعة عانوا أيضا من فظائع مروعة. لم يكن الهدف من خطف النساء، مجرد الاعتداء عليهن، رغم فظاعة هذا المشهد، أو استعمالهن كسلعة للبيع في القرن الحادي والعشرين. فقد كان استعمال النساء في الحرب بهدف الترويع والإذلال الجماعي لأقلية دينية والحط من كرامتها، وأيضا بهدف التأثير على التكوين العرقي لهذه الأقلية الدينية. والأفعال التي تكون أركان هذه الجريمة تستخدم في سياق مقارن لما فعله الأتراك بالأرمنيات، ولما فعله الصرب بالبوسنيات، والهوتو بالتوتسيات.
وتبين لأحداث الأخيرة في العراق بعد اجتياح تنظيم الدولة (داعش) لمحافظة نينوى 2014 وقبلها في يوغوسلافيا ورواندا وتيمور الشرقية ودارفور وميانمار، كيف أن تهديد الإبادة الجماعية لا يزال قضية رئيسية في السياسة العالمية، ولعل مشهد غزة اليوم يعتبر أكبر دليل على ظهور فصول جديدة من تاريخ المذابح الجماعية في هذا العالم، ونرجو الله أن تكون الأخيرة في هذه المنطقة.