ما كان مُستبعَدًا بالأمس، بات على طاولة البحث اليوم، وعلى خطِّ العواصم الثلاث: أنقرة، الرياض، ودمشق، حيث تتضاعف جهود دعم القيادة السورية في إعادة بناء الدولة من جديد.
الزيارة الخاطفة التي قام بها رئيس جهاز الاستخبارات التركي إبراهيم كَالِن، إلى دمشق، على رأس وفد أمني رفيع، ولقاؤه بالرئيس السوري أحمد الشرع، ووزير الخارجية أسعد الشيباني، ورئيس جهاز الاستخبارات السورية حسين السلامة، تأتي بالتزامن مع حراك سوري – تركي – سعودي – أميركي مكثف على الخط السوري:
الرئيس الأميركي دونالد ترمب يقرِّر رفع العقوبات عن سوريا فيلحق به العديد من العواصم الأوروبية المؤثرة.
اجتماعات مجموعة العمل التركية-الأميركية في العاصمة التركية أنقرة مع وصول وفد تركي برئاسة نائب وزير الخارجية التركي نوح يلماز إلى واشنطن.
اللقاء الثلاثي الذي تم في تركيا قبل أسبوعين بين وزراء خارجية سوريا وتركيا والولايات المتحدة، والذي ركَّز على رسم خارطة طريق الحوار الأميركي السوري.
تزايد الرغبة العربية التركية الغربية في دعم السلطات السورية على مواصلة المرحلة الانتقالية.
تسريبات عن تقدُّم في الجولة الرابعة من المفاوضات التركية – الإسرائيلية الدائرة في باكو لتجنُّب الصدام بينهما في الأجواء السورية.
مؤشرات إيجابية حول تسجيل اختراق في الحوار غير المباشر بين دمشق وتل أبيب برعاية أذربيجانية ووساطات بعض العواصم العربية.
وهنا يدخل وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو على الخط مُعلنًا في جلسة استماع لمجلس الشيوخ: “نريد مساعدة حكومة سوريا على النجاح، لأن تقييمنا هو أن السلطة الانتقالية، وبصراحة، في ضوء التحديات التي تواجهها قد تكون على بُعد أسابيع وليس عدة أشهر من انهيار محتمل وحرب أهلية شاملة ذات أبعاد مدمِّرة تؤدي فعليًّا إلى تقسيم البلاد”.
يواصل روبيو وهو يبرِّر لرئيسه ترمب قرار رفع العقوبات قوله إن دولًا أخرى أرادت إرسال المساعدات إلى إدارة الشرع، لكنها كانت متخوِّفة من العقوبات. فلماذا يتمسك بسياسة “ضربة على الحافر وأخرى على المسمار” ويعود ليردِّد أن كل يوم لا تقوم فيه الحكومة السورية بوظيفتها، سيكون اليوم الذي يجدِّد فيه عناصر داعش قابليتهم وقدراتهم؟ وما الذي يحاول تمريره: تقدير موقف؟ أم قراءة مبنيَّة على معلومات؟ أو تحذير وتهديد؟
ممَّا دفع كَالِن إلى العاصمة السورية هذه المرة هو:
– التذكير بأن تركيا مستعدة لتقديم كل أنواع الدعم الذي قد تحتاجه إدارة دمشق، خصوصًا فيما يتعلق بتسليم إدارة السجون والمعسكرات التي تُشرف عليها “قوات سوريا الديمقراطية” باسم التحالف الدولي وتضم آلاف عناصر داعش للسلطة المركزية في دمشق.
– وبحث المسار الأمني والسياسي السوري بعد دعوات دمشق الأخيرة الفصائل والمجموعات المسلَّحة لحسم موقفها والالتزام بتسليم السلاح وحل نفسها أو الاندماج ضمن قوّات وزارة الدّفاع.
– ورفض احتفاظ “قسد” بسلاحها وضرورة تنفيذ بنود اتفاقية مطلع آذار المنصرم بين الشرع ومظلوم عبدي. وتقييم نتائج اجتماع القامشلي للقيادات والأحزاب والفصائل الكردية الذي يذهب في كثير من توصياته باتجاه معاكس لتفاهمات الشرع – عبدي.
واضح تمامًا أن جهود التشاور والتنسيق بين أنقرة ودمشق تتقدَّم بشكل سريع وبأكثر من اتجاه. الترجمة العملية الأولى لذلك هي الزيارات واللقاءات المكثفة بين الطرفين وعلى أكثر من صعيد سياسي وأمني واقتصادي لتسهيل خطوات المرحلة الانتقالية في سوريا.
المؤشر الإيجابي الآخر هو التعاون التركي السوري في ملفات خارجية بطابع سياسي واقتصادي، مرتبطة بالمشهد السوري وتسهيل خروج دمشق من العزلة الإقليمية والدولية التي عانت منها لعقود.
الشريك الثالث لهما هو الرياض التي تحرَّكت منذ انطلاق “ردع العدوان” في أواخر تشرين الثاني المنصرم، وبعد تواصل تركي – سعودي بشكل مبكر لتوحيد الجهود والمواقف والسياسات في سوريا. لافت طبعًا أن تقرِّر واشنطن والرياض أن يكون أردوغان حاضرًا، ولو عن بُعد، خلال نقاشات الملف السوري مع الرئيس أحمد الشرع في أثناء زيارته للعاصمة السعودية ولقائه هناك بنظيره الأميركي. ثم أن يتحرَّك وزير الخارجية التركي هاكان فيدان باتجاه الرياض للقاء وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان بعد مغادرة ترمب بساعات لإجراء تقييم شامل.
المسألة لن تتوقف إذا عند خطوة تسهيل رفْع العقوبات الأميركية عن سوريا، بل هي وصلت إلى مسارعة بعض العواصم الأوروبية لتقليد واشنطن وتفعيل قرارات مشابهة.
فيدان في دمشق من جديد لبحث مسائل سياسية وأمنية عاجلة تُناقش مع واشنطن والرياض ولا بد من تسريع اتخاذ القرارات بشأنها:
سياسة إيران وإسرائيل السورية والتهديدات المحدقة.
موضوع قسد والجمود الحاصل في تنفيذ بنود اتفاقية العاشر من آذار بين الشرع وعبدي.
ملف داعش وضرورة فصله عن ملف الوضع القائم في شرق الفرات.
مسألة الانسحابات العسكرية الأجنبية من سوريا والتي تعني أميركا وتركيا وإسرائيل وروسيا بالدرجة الأولى.
كالِن في دمشق لتقويم نتائج مراجعة واشنطن لسياستها السورية بالشق الأمني والعسكري والتحضير لملف قسد وداعش وسط كل هذه المتغيرات والمقاربات الجديدة. لكنه هناك أيضًا تحسُّبًا لسيناريو التفجير الذي قد تبحث عنه أطراف محلية وخارجية متضرِّرة من المشهد الجديد وعلى رأسها تل أبيب وبقايا فلول داعش وجناح الصقور في “قسد”.
تُعوِّل تركيا على نتائج إيجابية ومرضية في الحوار بين دمشق و”قسد”. لكنها متمسكة بحل الهياكل العسكرية وتسليم السلاح والتراجع عن الشعارات السياسية الانفصالية المرفوعة. تريد أن يُترجَم ما يجري في الداخل التركي لناحية الملف الكردي، في شرق الفرات أيضًا خلال الحوار السوري السوري.
تؤكِّد تطورات المشهد السوري بعد إزاحة نظام الأسد أن الأمر لم يعد رقصة ظلٍّ على جدارٍ متحرِّك. الأدوار تتبدَّل بوضوح، تحت سماء مكشوفة لا تُخفي أسرارها، ولا تترك مجالًا للغموض.
وكَالِن لم يأتِ إلى دمشق لالتقاط الصور التذكارية، ولا لحجز مقعد في الصفوف الأمامية انتظارًا لرفع الستار. فأنقرة، بالتنسيق الوثيق مع الرياض، تقف اليوم إلى جانب القيادة السورية الجديدة لكثير من الأسباب السياسية والجغرافية والأمنية، المصحوبة بفهم عميق لما تعنيه محاولات إعادة ترتيب الخرائط في سوريا ومن حولها.
https://www.syria.tv