خفّفت وزارة الخزانة الأميركية العقوبات الأميركية المفروضة على سورية، مساء أول من أمس الجمعة، في خطوة واسعة تندرج ضمن استراتيجية أميركية تهدف إلى دعم الحكومة الانتقالية الجديدة بقيادة الرئيس أحمد الشرع، التي تواجه جملة تحديات ربما يلعب التعافي الاقتصادي دوراً مهماً في تجاوزها، وأصدر مكتب مراقبة الأصول الأجنبية (OFAC) التابع لوزارة الخزانة الأميركية ترخيصاً عاماً يتيح تعليقاً مؤقتاً للعقوبات الاقتصادية المفروضة على سورية، مع الحفاظ على بعض القيود المتعلقة بالأفراد والكيانات المدرجة في قوائم العقوبات. وبموجب هذا القرار، رُفع الحظر عن الشرع ووزير الداخلية أنس حسن خطاب، إضافة إلى الخطوط الجوية العربية السورية، ومصارف، ووزارات، ومؤسسات، ومرافئ. وذكر وزير الخزانة الأميركية سكوت بيسنت، في بيان، أمس الأول الجمعة، أنّ القرار جاء تماشياً مع إعلان الرئيس دونالد ترامب وقف جميع العقوبات الأميركية المفروضة على سورية، مؤكداً أن الترخيص العام الصادر عن مكتب مراقبة الأصول الأجنبية يجيز المعاملات المحظورة بموجب لوائح العقوبات المفروضة على سورية، بما يؤدي فعلياً لرفع العقوبات المفروضة عليها، وكان الرئيس الأميركي أعلن في الرياض في 13 مايو/أيار الحالي قراره الذي وُصف بـ”التاريخي”، رفع العقوبات الأميركية عن سورية، لأن “الشعب السوري عانى بما فيه الكفاية”، ولأن “الوقت قد حان لمنحهم فرصة للنجاح”.
زيدون الزعبي: الخطوة الأميركية سيكون لها بالغ الأثر في تعزيز قدرة الحكومة
ترحيب سوري برفع العقوبات الأميركية
ورحبت وزارة الخارجية السورية، أمس السبت، بقرار أميركا إعفاء سورية من العقوبات المفروضة عليها، مشيرةً في بيان إلى أنها “خطوة إيجابية في الاتجاه الصحيح للتخفيف من المعاناة الإنسانية والاقتصادية في البلاد”، وكانت العقوبات الأميركية على سورية التي بدأت تدريجياً منذ عام 1979 وتوسعت خلال سنوات الثورة على نظام الأسد، تثقل الاقتصاد السوري ما أدى إلى تعميق الأزمات المعيشية للمواطنين السوريين. وتعد خطوة رفع العقوبات خطوة واسعة نحو التعافي الاقتصادي المتدرّج لسورية التي تواجه اليوم جملة تحديات تهدّد السلم الأهلي والاستقرار، وربما سيؤدي رفع العقوبات دوراً في تعزيز قدرة الحكومة الانتقالية على مواجهتها.
كذلك، رحّب وزير المالية السوري، محمد يُسر برنية، بالخطوات الأميركية، معتبراً في حديث لـ”العربي الجديد” أنها تطورات “محورية” في مسار تخفيف العقوبات المفروضة على سورية. وأوضح برنية أن هذه الخطوات من شأنها أن تفتح المجال أمام عودة الاستثمارات الأميركية، وتفعيل خدمات المصارف المراسلة مع نظيراتها السورية، وهو ما سينعكس إيجاباً على عملية إعادة الإعمار وتحديث البنية التحتية وتطوير القطاع المالي، كما أعرب برنية عن تطلع دمشق إلى اتخاذ مزيد من الإجراءات التي تتيح لسورية الوصول إلى التكنولوجيا الحديثة، وتحويل هذه التراخيص المؤقتة إلى وضع قانوني دائم، بما يدعم المسار الاقتصادي طويل الأمد، وشدّد الوزير بالتأكيد على التزام الحكومة السورية بمواصلة تطوير المنظومة المالية وتعزيز مبادئ النزاهة وإدارة المخاطر والحوكمة في القطاع المصرفي والمالي، لافتاً إلى أن “هذه التطوّرات تفتح الباب واسعاً أمام إعادة بناء سورية ومؤسساتها على أسس قوية ومستقرة”.
من جهته، رأى الباحث السياسي زيدون الزعبي، في حديث مع “العربي الجديد”، أن تعليق العقوبات الاقتصادية الأميركية على سورية يحمل دلالات سياسية عدّة، مضيفاً: نحن أمام تشكيل شرق أوسط جديد أميركي بالمطلق، يتطلب دوراً أكبر للسعودية وتركيا بحكم الشراكة الاستراتيجية مع الولايات المتحدة. وأعرب عن اعتقاده أن الخطوة الأميركية تهدف إلى “كسب السعودية وإلى حد ما سورية من خلال هذه الخطوة”، مشيراً إلى أن “ذلك يقع في قلب استراتيجية الولايات المتحدة لمواجهة الصين”، وأشار الزعبي إلى أن الخطوة الأميركية سيكون لها بالغ الأثر في تعزيز قدرة الحكومة على مواجهة التحديات، مضيفاً: الإحساس أن هذه الحكومة مستقرة سيجعل خصومها أقل ثقة في محاولة تغييرها، وسيجعل حلفاءها أقل قلقاً عليها، وتابع: ستؤدي هذه الخطوة إلى استقرار اجتماعي في البلاد، وهي مسألة بالغة الأهمية في ظل الظروف الصعبة التي تمر بها البلاد، ناهيك عن الأثر الاقتصادي الذي سيبدأ برأيي من السعودية وقطر قبل أوروبا والولايات المتحدة، وهناك آثار سياسية واقتصادية واجتماعية هائلة للقرار الأميركي.
من جهته، اعتبر الباحث السياسي رضوان زيادة، في حديثه لـ”العربي الجديد”، أن هناك الكثير من “الدلالات السياسية” للخطوة الأميركية، مضيفاً: لا يمكن رفع العقوبات إلّا بقرار سياسي ومن ثم فإنّ هذه الخطوة تفتح الباب أمام تطبيع العلاقات الأميركية السورية، وتابع: سورية وُضعت على قائمة الدول الداعمة للإرهاب منذ عام 1979، ورفعها عن هذه القائمة يفتح الباب أمام فرص جديدة لجهة قدوم الاستثمارات الأميركية إلى سورية بحرية، فضلاً عن تعزيز العلاقات الاقتصادية والثقافية. وعن الانعكاسات الإيجابية على الداخل السوري، رأى زيادة أن رفع العقوبات “يعني عودة سورية إلى المجتمع الدولي والنظام المصرفي العالمي”، مضيفاً: كان يُنظر إلى سورية طيلة عقود على أنها دولة مارقة، والآن تغيرت هذه النظرة تماماً، ما يفتح أمام المغتربين السوريين للاستثمار في بلادهم من دون عوائق قانونية أو عقوبات.
محمد يُسر برنية: هذه التطورات تفتح الباب واسعاً أمام إعادة بناء سورية
وكانت العقوبات الأميركية على سورية اشتدت أكثر واتّسع نطاقها خلال العقد الأول من الألفية الجديدة، إذ فرضت الولايات المتحدة عقوبات أخرى على نظام بشار الأسد، لعلّ أبرزها الأمر التنفيذي 13399، الذي جاء رداً على اغتيال رئيس وزراء لبنان السابق رفيق الحريري في عام 2005 وفرض عقوبات إضافية ضمن حالة الطوارئ المعلنة. ومع بدء الثورة السورية في ربيع عام 2011، ورفض النظام التعاطي مع كل مبادرات الحل السياسي سواء الدولية أو الإقليمية أو العربية، ولجوئه إلى استخدام القوة لقمع معارضيه، صدرت أوامر تنفيذية جديدة قضت بفرض عقوبات تُضاف إلى ما سبقها، وهو ما أدى إلى فرض حظر اقتصادي شبه شامل، مَنَع أي صفقات أو تعاملات مالية مع النظام المخلوع، وحظر استيراد النفط السوري، ومنع أي استثمار أميركي في سورية.
عقوبات ما بعد اندلاع الثورة
في 29 إبريل/نيسان 2011، فُرضت أولى العقوبات على سورية بعد اندلاع الثورة في 15 مارس/آذار من العام عينه بإصدار الرئيس الأميركي (السابق) باراك أوباما أمراً تنفيذياً بتجميد ممتلكات المتورطين في الانتهاكات. ثم توالت العقوبات الأميركية المشدّدة على سورية، وصولاً إلى عام 2020 حين دخل “قانون قيصر” لحماية المدنيين السوريين حيّز التنفيذ، بعدما استغرق إنجازه نحو ستّ سنوات، ونص على فرض عقوبات على الأسد وأركان حكمه، وعلى أي جهة تقدم الدعم أو تتعامل مع النظام المخلوع. وجاء هذا القانون عقاباً لنظام الأسد جرّاء الانتهاكات الإنسانية التي ظهرت في 55 ألف صورة مسربة وثقت جرائمه في السجون والمعتقلات في سورية. وصدرت حزم عقوبات عدّة بموجب هذا القانون استهدفت النواة الصلبة للنظام، ما أدى إلى إنهاكه ومحاصرته اقتصادياً، وصولاً إلى الثامن من ديسمبر/كانون الأول الماضي، الذي شهد سقوط هذا النظام الذي بقي في السلطة نحو 54 سنة. وأدت دول عربية أبرزها السعودية وقطر، إلى جانب تركيا دوراً في إقناع الإدارة الأميركية برفع العقوبات المفروضة على سورية، وهو ما يشكل بداية جديدة للدولة السورية على الصّعد كافّة، خصوصاً أن البنية التحتية في البلاد متهالكة إلى حد بعيد، وفي ظلّ انكماش الناتج المحلي الإجمالي السوري، وتراجع قيمة العملة المحلية إلى مستويات دنيا، ما ترك ملايين السوريين غير قادرين على تأمين احتياجاتهم الغذائية الأساسية.