اكتفت وكالة “سانا” بخبر الإضراب الذي عمّ الضفة الغربية يوم أمس، ولم تذكر استجابة الأردن ولبنان “على سبيل المثال” لدعوة الإضراب العالمي تضامناً مع الفلسطينيين. بالطبع تتجنب وكالة سانا ذِكرَ ما يدعو إلى التساؤل عن عدم مشاركة مناطق سيطرة الأسد في الإضراب، رغم أن حالها في هذا كحال معظم البلدان العربية، بما فيها تلك التي شهدت في أول أيام العدوان الإسرائيلي مظاهرات تندد به، ثم انتهت فورة التضامن بعدما تم الاكتفاء بالتعبير عنه لمرة واحدة. الحديث هو عن شهرين وبضع أيام لا غير، سرعان ما أصبح فيها خبر المجازر معتاداً.
لا جديد استثنائياً في الحرب الإسرائيلية على غزة، وغالبية التكهنات تشير إلى أن تحقيق الهدف الإسرائيلي المعلن يقتضي شهوراً وربما سنة، إذا استمر الوضع على هذه الوتيرة. قد يتخلل المعارك حدث غير اعتيادي “يحتفي” به الإعلام، كأن تنجح إسرائيل في استهداف شخصية قيادية من كوادر حماس، وقد يغطّي مثل هذا الحدث ليومين أو ثلاثة على أرقام صارت مألوفة ورتيبة، من نوع وصول عدد القتلى الفلسطينيين الآن إلى ما يُقارب عشرين ألفاً وعدد المصابين إلى خمسين ألف.
هناك مثال قريب على ضحايا القتل الذي يصبح مألوفاً، فالسوريون جرّبوا بقسوة أن يلفت مقتل المئات منهم مع بداية الثورة انتباهَ العالم، ثم راح التفاعل مع مأساتهم ينحسر بعدما قتل الأسد عشرات الألوف. أخيراً، توّج ذلك باستخدامه السلاح الكيماوي، وعندما أفلت من العقاب تراجعت الضحية السورية في سلّم الأخبار، وتراجع الاهتمام السياسي بها؛ صارت قضيتهم مملة، وحتى هم أنفسهم مع توالي الزمن لم ينجوا من الإحساس بالملل من أحوالهم. الفلسطينيون اختبروا ذلك أيضاً بالعديد من المواجهات السابقة، وهذه إشارة قد تُستخدم لتعزيز القناعة بعدم وجود ما هو جديد، فالضحية مألوفة والقاتل كذلك!
تنفع، في سياق المقارنات، ملاحظةُ الانحسار شبه التام للمظاهرات في البلدان العربية للمطالبة بإنهاء الحرب، بينما تواصلت على سبيل المثال المظاهرات في مدن أمريكية وإنكليزية وفرنسية. وعلى وسائل التواصل الاجتماعي، حيث التفاعل أسهل، انحسرت إلى حد كبيرة موجة التفاعل العربية الأولى مع الحدث، وانحسر معها الجدال بين مناصرين لحماس والذين ينحون عليها باللائمة لتسبب هجومها بالانتقام اللاحق، ويبدو أن طرفي الجدال لم يعد لديهما جديد للقول، أو لم يطوِّرا جديداً في انتظار أن ترجّح آلة الحرب واحداً من الرأيين. ولعل معرفة حدود الحرب أفقدتها ميزة الترقّب من جمهور المتابعين، خاصة مع استقرار قواعد اللعبة بين حزب الله وإسرائيل.
لا تهدف المقارنة السابقة مع المظاهرات في المدن الغربية إلى توبيخ العرب بوصفهم أصحاب قضية، فالقضية بالمعنى الموروث انتهت مع انقضاء المدّ القومي العروبي. ثمة مبررات أخرى لاهتمام أبناء المنطقة، فمنهم لاعتبارات جغرافية على تماس مباشر أو شبه مباشر مع الحرب، وسيناريوهات تهجير الفلسطينيين تمسّ بلدانهم فوق كونها جريمة كبرى على مختلف الأصعدة، وحتى البلدان العربية الأبعد ليست خارج تأثيرات للحرب على المنطقة ككل. الاعتبار الأهم هو الإنساني، وهو ليس منّةً من أحد على الفلسطينيين، لأن التضامن الإنساني يعبّر عن مصالح أصحابه وعن تطلّعهم إلى العيش في عالم أكثر عدالة وأقل عنفاً.
على صعيد متصل، يبقى من المستغرب ذلك الدأب على لوم الغرب أو العالم على تدنّي الحساسية الإنسانية، بينما لا يبادر الذين يشتكون من ذلك إلى البرهنة على حساسية أعلى بدءاً من التضامن مع الأقرب. الفكرة القديمة الراسخة هي أن شعوب المنطقة خوفاً من حكامها لا تنزل إلى الشوارع لتعبّر عن آرائها، وهذه الفكرة تحتمل الصواب من جانب، لكنها من جانب آخر تبرر غياب تقاليد التضامن الإنساني وغياب تقاليد التعبير عن الرأي في عموم المنطقة. ولا يندر أن يُقابَل الانتقاد الأخير بالسؤال عن الجدوى، والمتضمن أن شعوب المنطقة لا وزن ولا فعالية لها بخلاف شعوب الغرب التي يأخذ حكامه رأيها في الحسبان.
هكذا يحضر سؤال الجدوى من الفعل قبل الشروع فيه، يحضر كمانع للفعل، أيّ فعل كان. أما الذين ما زالوا ينزلون للتظاهر في مدن الغرب، تضامناً مع الفلسطينيين، فهم أناس يعيشون حيواتهم الطبيعية، ومن ضمنها إحساسهم الاعتيادي بالواجب الإنساني. وعندما يواصل الواحد منهم التظاهرَ دفاعاً عن قناعاته فهو لا يفعل ذلك ظهراً أو عصراً وينتظر مردود فعله مساءً، أي أنه لا يربط على هذا النحو المباشر بين انتصاره لقناعاته والجدوى من فعل ذلك. وهناك بين المتظاهرين من هم ضد حماس، ويرون هجومها في السابع من أكتوبر إرهابياً، ولا تمنعهم قناعتهم هذه عن التضامن مع أهالي غزة. أي أن عنصر الانسجام يدعم فعاليتهم، فلا يستخدمون السياسي غطاء للتقاعس عن الإنساني.
ليس مطلوباً من شعوب المنطقة التفرَّغ للتضامن مع غزة، ولا التفرّغ للندب والنواح على وسائل التواصل الاجتماعي. المشكلة هي في تعاطي نسبة كبرى مع المجزرة بوصفها حدثاً اعتيادياً، ثم في التعاطي معها بوصفها حدثاً مملاً. يمكن تأويل المستوى الأول منهما بقلّة الحساسية إزاء الضحايا في غزة، وهي تصدر عن ضحايا من نوع آخر يملؤون المنطقة، لكن هذا التأويل ينتهي بقبولهم موقع الضحية واعتيادهم عليه، وإن أوحى ظاهرياً بانغلاقهم على همومهم في بلدانهم. أما في المستوى الثاني فيأتي التململ من الانعدام التام للفعالية، مع الترويج للعجز عن الفعل، ومع عدم احترام الفعالية بمعناها الصغير، البسيط والتراكمي، لتكون ترجمة سؤال الجدوى: إما أفعالٌ بنتائج ملموسة سريعاً أو لا فعل.
هي مفاضلة مُصاغة أصلاً لترجِّح الإجابة عليها عدم فعل شيء، ومن هذه الجهة “جهة المتفرجين” تبدو الحرب مملة ولا شيء يحدث فيها. هو شعور مختلف حتى عن الإحساس مؤقتاً بالشلل بسبب وحشية الحرب ووطأتها الشديدة، فإحساس الملل هنا نابع من انعدام فعالية أصحابه، من التقاعس الواعي مع مطالبة الآخرين باجتراح ما هو غير معتاد. وقد لا يكون جديداً أن من لا يفعلون شيئاً، ولا يؤمنون بجدوى الأفعال “الصغيرة” للآخرين، هم أفضل من يتململ من الضجر.