تطلّع الأوروبيين نحو شرق المتوسط ليس جديداً طارئاً، بل له تاريخ طويل يمتدّ حتى أيّام الإسكندر المقدوني، ومن ثمّ الرومان، مروراً بالحملات التي رفعت الصليب شعاراً، والصراع العنيد بين الإنكليز والفرنسيين في أواخر القرن الثامن عشر. وقد تبلورت الرغبة الأوروبية في السيطرة على المنطقة بصورة واضحة بعد انهيار الإمبراطورية العثمانية واتفاق الفرنسيين والإنكليز على تقاسم المنطقة. واستمرّ هذا التوجّه في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وهي المرحلة التي شهدت استقلال الدول الحديثة في منطقتنا، ما عدا فلسطين التي كانت بريطانيا قد أعطت وعداً بجعلها وطناً قومياً لليهود، وكان قرار تقسيمها (الذي لم ينفّذ)، واستمر الصراع المزمن المتجدّد بفصوله المأساوية كلّها، ليبلغ ذروته اليوم في معاناة الغزّيين أطفالاً ونساء وشيوخاً، هؤلاء الذين يقاسون الأمرّين نتيجة الحرب الوحشية التي أعلنتها عليهم حكومة بنيامين نتنياهو بحجة الانتقام من حركة حماس.
وفي مرحلة ما بعد الاستقلال، كانت المنطقة ساحةَ صراعٍ وتنافسٍ بين الدول الأوروبية الغربية ومعها الولايات المتحدة، من جهة، والاتحاد السوفيتي، من جهة أخرى، الذي كان يرنو نحو المياه الدافئة، ويرغب في تعزيز مواقعه في الساحلين الشرقي والجنوبي للمتوسّط، وذلك ليكون في موقع يمكّنه من ممارسة الضغط على المعسكر الغربي، والاستعداد لمختلف الاحتمالات، وكان ذلك جزءاً من الاستراتيجية الروسية أثناء الحرب الباردة، وقد استفاد السوفييت/ الروس في هذا المجال من الأنظمة الجمهورية العسكرية العربية، التي كانت تحاول شرعنة نفسها من خلال رفع الشعارات الكبرى. وسورية، باعتبارها الدولة المفتاحية المؤثّرة في جوارها الإقليمي، كانت دائماً في صلب السياسات الأوروبية لأسباب جيوسياسية، لا تخفى حيويتها على أيّ متابع مهتم. فهي ترتبط بحدود برّية مع دول إقليمية مهمة، وتعد في الوقت نفسه بوابةَ الوصول إلى منطقة الخليج ومصر، ناهيك بقربها اللافت من اليونان وقبرص، وسهول الوصول إليها عبر المتوسط.
العلاقات الطبيعية بين سورية والدول الأوروبية ستفتح الآفاق أمام شراكات اقتصادية كبرى مستقرة تراعي المصالح المتبادلة
ولهذه الأسباب وغيرها، كانت مساعي الدول الأوروبية المستمرّة من أجل الحفاظ على الاستقرار في سورية وفقاً لحساباتها، والعمل على بناء العلاقات مع حكوماتها في مختلف الميادين ضمن إطار ضمان المصالح في أجواء الاستقطاب الحادّ الذي كان بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي. وما يؤخذ على الأوروبيين في هذا المجال هو أن شعار أهمية الاستقرار في سورية تحوّل مع الوقت وسيلةً لتسويغ غضّ النظر عن ممارسات سلطة آل الأسد القمعية في عهد الأب والابن ضدّ السوريين، وهي الممارسات التي كانت أداةً لنهب السوريين وإفقارهم، وتحويل سورية الغنية بمواردها الطبيعية والبشرية بلداً فقيراً ينتظر المساعدات. هذا بينما كانت السلطة المعنية تغطّي ممارساتها بشعارات “قوموية” كُبرى، تزعم الإعداد لمعركة تحرير الأراضي، وضرورات التوازن الاستراتيجي مع إسرائيل؛ وغير ذلك من الشعارات التي أجادت سلطة آل الأسد صياغتها وتسويقها، وفرضها على المجتمع السوري، حتى باتت جزءاً من اللاشعور المُوجَّه في أذهان غالبية السوريين، معارضةً وموالاةً.
ومع بداية الثورة السورية، كان الاعتقاد السائد لدى السوريين الثائرين أن الأوروبيين سيقفون إلى جانبهم بقوة، وسيساعدونهم في التخلّص من سلطة الاستبداد والفساد والإفساد، ليتمكّنوا من رسم ملامح مستقبلهم في ظلّ نظام حُكم ديمقراطي مدني، يحترم التنوّع السوري، ويحرص على وحدة البلاد عبر جعلها ميداناً جاذباً لجميع السوريين من دون أيّ تمييز أو تهميش، وعلى قاعدة احترام خصوصيات المكوّنات وحقوقها، والتعامل مع سائر السوريين مواطنين من الدرجة الأولى، لهم كامل الحقوق المتساوية أمام القانون الذي لا بدّ أن يسري على الجميع. ولكن، لم يتحقّق هذا الأمر، مع كلّ أسف! وربّما كان ذلك نتيجة الموقف الأميركي المتردّد في عهد باراك أوباما، صاحب تصريح الخطّّ الأحمر الشهير، وهو الخطّ الذي سرعان ما تلاشى بعد التفاهمات مع الجانب الروسي، الأمر الذي أعطى الفرصة لسلطة آل الأسد ورعاتها لقتل المزيد من السوريين، وتدمير المدن والبلدات السورية وتهجير أهلها. وكان نصيب أوروبا من جرّاء ذلك قوافل اللاجئين، إلى جانب خلايا المتطرّفين ممّن قاموا بعمليات إرهابية في العديد من الدول الأوروبية. وذلك كلّه أدى إلى أزمات داخلية عميقة في الدول الأوروبية التي استقبلت أعداداً كبيرة من اللاجئين السوريين، خاصّة ألمانيا والسويد وبريطانيا وفرنسا وغيرها من الدول. وكانت الحصيلة تصاعد اليمين المتطرّف فيها، في حين أن المنطق السليم كان يُلزِم السياسيين الأوروبيين مساندة نضال السوريين من أجل التخلصّ من سلطة الاستبداد، وبناء نظام ديمقراطي يفتح الآفاق أمام استقرار البلاد ونهوضها وازدهارها، الأمر الذي كان من شأنه أن يساهم في تعزيز الأمن والاستقرار في المنطقة بأسرها.
كان المنطق السليم يُلزِم السياسيين الأوروبيين مساندة نضال السوريين من أجل التخلصّ من سلطة الاستبداد، وبناء نظام ديمقراطي يفتح الآفاق أمام استقرار البلاد
ومع الجهود كلّها التي بذلت من أجل إمكانية بلوغ صيغة من التوافق، أو بكلام أدقّ، نوعاً من التلفيق، بين السوريين الثائرين وسلطة آل الأسد (ومن بين تلك الجهود بهلوانيات المبعوث الأممي ستيفان دي ميستورا، وأولئك الذين ساعدوه في تخريجاته من السوريين، بكلّ أسف!)، تبيّن مع الوقت أن الآفاقَ مسدودة. فبشّار الأسد كان عاجزاً عن الإقدام على أيّ خطوة حقيقية في طريق الحلّ، كما أن السوريين الثائرين قد وصلوا إلى قناعة راسخة باستحالة الوصول إلى حلّ بوجود الأسد. ومع التغييرات الدراماتيكية التي جرت في المنطقة، سواء في غزّة أو في لبنان، جاءت الضربة الأقوى التي تعرّض لها المشروع الإيراني التوسّعي، وهي التي تمثّلت في هروب بشّار الأسد بمساعدة الروس، وسقوط سلطة آل الأسد، وذلك بعد دخول قوات هيئة تحرير الشام والفصائل المتحالفة معها دمشق. ومع استلام أحمد الشرع مهامّ رئاسة الجمهورية ليقود البلاد خلال المرحلة الانتقالية، كانت هناك متابعة مستمرّة من جانب الأوروبيين لتطوّرات الأوضاع في سورية، ومراقبة توجّهات سياسات الإدارة الجديدة على المستويين الداخلي والخارجي. وقد تجسّدت تلك المتابعة في الزيارات الاستطلاعية والاتصالات الهاتفية، وتوجيه الدعوات إلى المسؤولين في الإدارة، وكانت التصريحات المستمرّة بشأن ضرورة ترجمة الأقوال إلى أفعال. كما كان هناك حديث صريح حول الرغبة الأوروبية في إلغاء العقوبات الاقتصادية المفروضة على السوريين. ولكن الجميع كان في انتظار القرار الأميركي في هذا الميدان، لأن الولايات المتحدة، بما تمتلكه من إمكانات في جميع الميادين، لا سيّما ما يتّصل بالأنظمة المصرفية والمالية، والعقوبات التي ستفرض على كلّ جهة تُقدِم على خرق العقوبات الأميركية، تظلّ هي الآمر الناهي في ميدان العقوبات. ومع إعلان الرئيس ترامب عن قراره رفع العقوبات أثناء زيارته السعودية، حيث التقى مع الرئيس الشرع بوساطة قوية من ولي العهد السعودي محمّد بن سلمان ودعم من الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، كان موضوع رفع العقوبات الأوروبية من باب تحصيل حاصل، ومجرّد مسألة وقت، وهذا ما حدث بالفعل.
خشية أوروربية من عودة خطر تنظيم الدولة الإسلامية في حال انهيار السلطة الجديدة في دمشق
ما تنتظره أوروبا من سورية راهناً، أو ترغب في الحصول عليه، يتوزّع بين ميدانين يتكاملان مع بعضهما، ليرسما ملامح الاستراتيجية الأوروبية تجاه المنطقة عامة، وتجاه سورية تحديداً. الأول يتجسّد في الهاجس الأمني بابعاده المختلفة. فهناك خشية أوروربية عامّة من عودة خطر تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) في حال انهيار السلطة الجديدة في دمشق، واندلاع حرب أهلية في سورية تكون من نتائجها زعزعة استقرار المنطقة بأكملها، الأمر الذي سيؤثّر بصورة مباشرة في المجتمعات الأوروبية، عبر انتقال مجموعات المتطرّفين إليها، إلى جانب قوافل اللاجئين، وانعكاسات ذلك على الأوضاع الأوروبية الداخلية، والموازنات المالية التي تعاني أصلاً كثيراً من الصعوبات نتيجة الحرب الروسية على أوكرانيا. أمّا الثاني، فهو يتشخّص في النزوع الأوروبي نحو بناء شراكات اقتصادية مع سورية، تكون بمثابة رافعة لدور أوروبي مستقبلي في المنطقة، يكون بالتنافس الضمني، والتنسيق الممكن مع الجانب الأميركي. دور يكون بمثابة حاجز أمام التمدّد الروسي بأسمائه وأشكاله المختلفة.
بقي أن نقول إن قرار الاتحاد الأوروبي الخاصّ برفع العقوبات الاقتصادية عن سورية يُعدّ واعداً على صعيد فتح الآفاق أمام الاقتصاد السوري للتعافي والنهوض والازدهار، وذلك كلّه سيؤثّر بصورة إيجابية في موضوع الاستقرار والأمن داخل المجتمع السوري، وسيمنح الجيل السوري الشاب جرعةً من التفاؤل والثقة بالمستقبل. كما ستكون لهذا القرار انعكاسات إيجابية مباشرة، وأخرى بعيدة المدى. فعلى الصعيد المباشر، يمثّل هذا القرار انفتاحاً دولياً مهمّاً على الإدارة السورية الجديدة، يتيح لها فرصة القيام بواجباتها على صعيد تخفيف معاناة السوريين من خلال تأمين فرص العمل وتقديم المساعدات الإسعافية.
أمّا في المدى البعيد (وحتى في المتوسّط المنظور)، فإن العلاقات الطبيعية بين سورية والدول الأوروبية ستفتح الآفاق أمام شراكات اقتصادية كبرى مستقرة تراعي المصالح المتبادلة. والجدير بالذكر، في هذا السياق، هو ضرورة اعتماد مبدأَي النزاهة والشفافية في عمليات إبرام العقود مع الشركات الراغبة في الاستثمار في سورية، وسنّ التشريعات والقوانين التي تضمن حقوق المستثمرين، وتسمح بالمساءلة والمحاسبة بموجب قوانين واضحة. هذا بالإضافة إلى ضرورة التركيز على التعليم ليكون داعماً في طريق النهوض والازدهار.
هذه الخطوات شكّلت الحجر الأساس في التجربة السنغافورية، التي أسّس لها لي كوان يو في ستينيّات القرن المنصرم. وهي التجربة التي يمكن استلهامها والتعلم منها سورياً.
google newsتابع آخر أخبار العربي الجديد عبر Google News