تتكثف الأجواء الضبابية المحيطة بمسار المفاوضات المباشرة الروسية الأوكرانية، ومكانها والوسطاء فيها. الضبابية تحيط بالنتائج التي ستفضي إليها المفاوضات، خصوصاً بعد تلك الهزيلة التي تمخضت عنها الجولة الأخيرة في اسطنبول، واقتصرت على الاتفاق على استمراريتها وتبادل عدد من أسرى الحرب بين الطرفين. ولا يساور الشك أحد في استمرارية المفاوضات، إذ أن ترامب الساعي وراء نوبل للسلام، لن يسمح لأي من الطرفين الحريصين على إرضائه، بالتراجع عن مواصلتها.
رأي الكرملين والإعلام الذي يدور في فلكه، لا تزعجه الضبابية المحيطة بالمفاوضات، بل يجيد استخدامها في عدة اتجاهات: إطالة أمد المفاوضات التي لم يقبل بها إلا كمساحة للتفاوض المباشر مع الإدارة الأميركية؛ ترسيخ ما يلقنه للداخل الروسي بأن زيلينسكي دمية أميركية أوروبية؛ زيادة عدد الأوراق الرابحة بين يديه، وأهمها تطور جبهة القتال لصالحه في السنة الأخيرة؛ توسيع شقة التباين بشأن أوكرانيا بين أوروبا وإدارة ترامب.
يعتبر الكرملين أن المفاوضات أتاحت له فرصة فتح جبهة دبلوماسية، إضافة إلى جبهة الحرب، على أوكرانيا وأوروبا من ورائها. فقد شرّعت المفاوضات باب التواصل المباشر مع الولايات المتحدة، وأخذ الرئيس الأميركي يبادر إلى التواصل مع بوتين، بعد انقطاع لسنوات. حِرصُ ترامب على استمرار عملية التفاوض الروسي الأوكراني، منح الكرملين إمكانية واسعة للمناورة في الحوار مع الأميركيين، الذي يحرص بشدة على استمراره وتوسيعه، حتى خارج المسألة الأوكرانية. ليس من صالح روسيا الآن وقف إطلاق النار أو هدنة مهما كانت قصيرة، في ظل تطور جبهة القتال لصالحها. وقد ضمنت حتى الآن موافقة ترامب على ضم المناطق الأوكرانية الأربعة، وتطمح للحصول على المزيد من الأراضي الأوكرانية. وهي متأكدة من أن ترامب سوف يستمر في التساهل معها وزيادة الضغط على أوكرانيا، تفادياً لخروجها من عملية التفاوض.
آخر ما استخدمته روسيا للمماطلة في تمديد فترة المفاوضات، كان مكان عقدها في الفاتيكان الذي اقترحه ترامب. ورفض وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف اقتراح الفاتيكان الكاثوليكي مكاناً لحل نزاع بين دولتين أورثوذكسيتين، حسب الخدمة الروسية في دويتشه فيله DW الألملنية في 23 الجاري. وأوجزت في 26 الجاري قناة التلفزة الأوكرانية 24، أسباب رفض روسيا منصة الفاتيكان للمفاوضات. فأشارت إلى أن السبب ليس كاثوليكية الفاتيكان فحسب، بل لوجوده في إيطاليا، العضو في حلف الناتو. والسبب الآخر، هو أن العقوبات الأوروبية على روسيا تعقد حركة المسؤولين الروس في الفاتيكان.
وحسب قناة التلفزة، تبحث روسيا في إمكانية العودة إلى تركيا مكاناً للمفاوضات، أو أي من بلدان الخليج، عدا البحرين.
موقع bloknot المولدوفي الناطق بالروسية، والموالي للكرملين كما يبدو، خلافاً للتوجه الأوروبي الرسمي لجمهورية مولدوفا، نشر في 19 الجاري، إثر اتصال ترامب الهاتفي بالرئيس الروسي، نشر نصاً بعنوان ” من إنذارات بايدن إلى إلتماسات ترامب الهاتفية: كيف نجح بوتين في وضع الولايات المتحدة عند حدها”.
استهل الموقع نصه بالقول إنه منذ أربعة أشهر فقط، كان من الصعب أن نتخيل أن زعيم البيت الأبيض “يمكن أن يتوسل روسيا لإجراء مكالمة هاتفية”. لقد كان بايدن يتعامل مع روسيا بلغة الإنذارات فقط، وقطع كل الاتصالات المباشرة معها. أما ترامب فقد بدأ بالبحث عن مقاربة للتعامل مع روسيا، يتصل هاتفياً من أجل “إلتماس هدنة”، ويكرر باستمرار بأن لديه “علاقات جيدة” مع بوتين.
أشار الموقع إلى أن بعض المحللين يرى أن الأمر لا يتعلق فقط بالاختلاف بين نهجي بايدن وترامب في السياسة الخارجية. فخلال “العملية العسكرية الخاصة” برهنت روسيا على أنها قادرة على مجابهة حلف الناتو بنجاح، ويستحيل عدم الاعتراف بذلك. ويشير الخبراء إلى أن لغة الإنذارات الأميركية تحولت إلى لغة الإلتماس والإقناع. ويرجع هذا إلى حد كبير إلى فلاديمير بوتين، الذي لم يظهر قط أي ضعف سياسي أو يقدم تنازلات لخصمه.
لم تطرح “المدن” على الخبراء الروس الدائرين في فلك الكرملين أي سؤال عن الوضع الذي بلغته المفاوضات الروسية الأوكرانية المباشرة بعد جولة إسطنبول، وذلك لأن آراء غالبيتهم لا تبتعد كثيراً عن رأي المطبوعة هذا. بل طرحت على عدد من الخبراء الأوكران سؤالاً وحيداً: لماذا تتمكن روسيا من استغلال الوضع الضبابي المحيط بالمفاوضات الأوكرانية الروسية لتتحايل على الجميع وتبقى عند رأيها برفض أي هدنة أو مجرد وقف لإطلاق النار المؤقت.
رئيس مركز التحليل “السياسة” oleg lisny، رأى أن من المعروف عن الدبلوماسية الروسية أنها تجيد “إغراق” التحديات التي تواجهها بالتفاصيل وسلسلة من التوضيحات والشروط. والوضع الراهن ليس استثناءً. فعلينا أن نتذكر أن وقف إطلاق النار غير المشروط ليس فكرة أوكرانية، بل هو مبادرة من الإدارة الأميركية. وقد رفض الجانب الروسي مراراً وتكراراً، وبشكل غير مباشر، مبادرة ترامب هذه، وقام بتشويهها تدريجياً حتى أصبحت غير قابلة للتعرف عليها. وبلغت هذه المسرحية ذروتها باقتراح بوتين إجراء محادثات مباشرة مع أوكرانيا في اسطنبول، حيث حاول، من دون جدوى، الزعم بأن المفاوضات هي استئناف لمحادثات العام 2022. أما الجانب الأوكراني فقد أعلن بوضوح أن ليس للمفاوضات الحالية أي علاقة بتلك السابقة، بل تجري حول قضية جديدة تماماً. لكن بوتين تمكن مرة أخرى من التحايل على ترامب خلال التواصل الهاتفي الأخير، وأقنعه بأنه مستعد للتحدث بشأن السلام في ظل ظروف معينة. وبالنتيجة تمكن بوتين من كسب الوقت من أجل الحملة الصيفية في أوكرانيا وتأجيل العقوبات الأميركية.
إن محاولة روسيا إقناع العالم وأوكرانيا بأن عملية المفاوضات إنطلقت من اسطنبول العام 2022، سوف يجعلها ترفض أي مكان آخر للتفاوض، بما فيه الفاتيكان. ويمكن الإستنتاج من كل ما تقدم بأن روسيا ستحاول إطالة أمد المفاوضاـت إلى الحد الأقصى، ومن دون أي نتائج.
مدير شبكة الأبحاث الجيوسياسية Mikhail Samus رأى أن الوضع المحيط بالمفاوضات ليس ضبابياً، بل كلي الوضوح. وقال إن ترامب يواصل محاولات “صنع السلام” من دون اللجوء إلى الضغط على موسكو، مما يؤدي إلى المزيد من التصعيد في الصراع.
ورداً على تعبير “المدن” بأن أوكرانيا تريد “ولو مجرد وقف لإطلاق النار”، قال الخبير بأن أوكرانيا سبق أن أعلنت رسمياً في مفاوضات مدينة الرياض بأنها تؤيد إنهاء الحرب، ومن ثم تسوية جميع القضايا بالوسائل الدبلوماسية.
يشير الخبير إلى أن روسيا موقنة تماماً بأن حملة الصيف ستمكنها من توسيع رقعة الأراضي الأوكرانية المحتلة، ومن ثم المجيء إلى المفاوضات بموقف أقوى. ويقول أنه، على خلفية مواصلة تقليد المفاوضات، ستواصل روسيا الضغط على جبهة القتال، لكن من دون نجاح يذكر. ومع اقتراب فصل الخريف، وتحت ضغط الاتجاهات السلبية في الاقتصاد وانزعاج إدارة ترامب، قد يوافق بوتين على وقف إطلاق النار الذي سيبقى طويلاً غير مستقر، ويُستخدم لمزيد من الضغط على أوكرانيا.
البوليتولوغ ورئيس مركز التحليل والاستراتيجيات Igor Chalenko قال إن رغبة أوكرانيا في التوصل إلى وقف مؤقت لإطلاق النار، لا ينبغي الخلط بينها وبين الاستعداد للاستسلام، أو المساومات التي تقوض أسس الدولة. ومن الواضح الآن أنه يتعذر تجنب حملة الهجوم الصيفية من جانب روسيا.
ويقول إن روسيا تحاول تصوير أوكرانيا بأنها دولة ضعيفة مكرهة على الموافقة على أي شروط من أجل التوصل إلى هدنة. ويرى أن رفض روسيا للفاتيكان كمكان للمفاوضات، ليس مسألة تكتيكية، بل تعبير عن عدم الرغبة في إجراء حوار نزيه.
increase