قبل أن يُرزَق عبد الله الأحمد بابنه خالد، كان عضو القيادة القطرية لحزب البعث قد مَنَح هذا الاسم بطولة روايته الوحيدة، التي ظل يعدّها رؤياه المستقبلية وأبرز أعماله المكتوبة: عندما يتوهج الحلم. بشكل جمع بين الرسالة العربية الخالدة، البعثية، وبين فضاءات خالد بن الوليد في مدينة حمص حيث ولد عبد الله ونشأ، وعاد بعد أن ترك مهامه في القيادة، وقضى بحادث سير.
في حياة عبد الله الأحمد، المفعمة بالمفارقات، ليس مفاجئاً أن تُطبع روايته في بيروت لدى دار الحقيقة التي لا تتفق مع حزب البعث وحكم حافظ الأسد، في العام 1978، ثم يجري منعها في سوريا وسحب نسخها من التداول بعد توزيعها. وبموجب تلخيص نادر للرواية، يبدو أن أطرافاً في السلطة لم تكتفِ بما أعلنه الأحمد في المقدمة من أنه لم يقل فيها ما لا يقبله البعث، ورأت في تخيلاته الاستشرافية عن العام 2030 خطراً. فقد تنبأ بقيام دولة عربية واحدة ستضم إسرائيل التي ستذوبُ في المحيط وستَهبُهُ علومها وتقنيتها ليصنع منها، بالتضافر مع ثروته، بلداً تزدهر فيه التنمية الشاملة.
والحق أن الأحلام لم تغادر مخيلة عبد الله الأحمد منذ أن اشتهر، في مطلع شبابه، بمحاولة اختراع طائرة صارت محط فرجة المارة الفضوليين في حيّ عكرمة القديمة الذي كان يسكنه مهاجرون علويون في الأطراف الجنوبية لحمص. حتى أنه أسَّسَ وترأس الاتحاد الدولي للمخترعين العرب، بمباركة من الأسد الذي أراد لرفيقه القديم أن يستمتع بهوايته، ويستثمر، في تقاعده المبكر.
كان للأحمد، مُدخِّنِ المالبورو المعجب بستالين، والمسؤولِ السوري الذي يكتب في صحيفة النهار اللبنانية؛ عددٌ لا يكاد يُحصى من الأصدقاء المتنوعين الذين لا يخلو منهم مكتبه أو منزله. ولذلك خرجت من هذا الأخير خلطة غريبة من الأبناء؛ مسؤول إعلامي في نظام بشار الأسد، ومعارض أيّد الثورة ضد الأسد وهاجر، وقيادي في أحد أجنحة الحزب القومي السوري الاجتماعي، وناشرة يسارية، ومُنتِجة أفلام وثائقية…
في هذا الجو، تقريباً، ولد ابنه خالد عام 1980، كمولود بِكر لزوجة ثانية، دمشقية، ولم يكن هذا قليلَ التأثير. فقد نشأ دون أن يُعايش آخر آثار الفقر كإخوته غير الأشقاء، وبلا ذاكرة حاضرة عن بؤس تاريخي كان قد دفعَ جدَّ العائلة إلى الهجرة نحو ريف الجفتليك في وسط سوريا بحثاً عن العمل في الزراعة لصالح الإقطاعيين المحليين.
بين دمشق وحمص عاش خالد برخاء لم يقطعه فقدان والده وهو في الثانية والعشرين، ولا حملته ميوله القومية السورية إلى التزام صارم يتجاوز الإشادة بسوريا الكبرى وتأييد مقاومة حزب الله لتحرير جزئها الجنوبي فلسطين. لكن الثورة التي نشبت في بلاده غيّرته، فوضع نفسه تحت تصرف بشار الأسد الذي كان قد تعرَّفَ إليه في أجواء أبناء المسؤولين رغم فارق العمر. وفي الإيميلات المُسرَّبة الشهيرة للأخير ظهر خالد الأحمد ناصحاً «يمون» على استخدامِ الأسماء الأولى لكبار المسؤولين الأمنيين والعسكريين، ونقدِ إجراءاتهم إن لزم الأمر، ورغم ذلك لم يَكُن من الحمائم حين يقترح بدائل عنها. فقط كانت طريقته مختلفة، وهو ما سيتضح خلال السنوات التالية.
وعلى الرغم من أن الدور الذي يُنسَب لخالد هو دبلوماسية موازية لتلميع صورة الأسد في الغرب عبر لقاءات غير معلنة مع صانعي السياسات ومستشاريهم؛ فإن الأهم كان اقتراحه داخلياً، بالاشتراك مع صديقه الصحفي المثير للجدل نير روزن، فكرةَ المصالحات. سيسوّقُ الاثنان هذه الاستراتيجية كوسيلة عملية لحقن الدماء، وهو ما أدت إليه جزئياً بالفعل، لكنها كانت حلاً مُنقِذاً للنظام خلال سنوات معاناته الكبرى مع الفصائل المسلحة الثورية والإسلامية، واضطراره للقتال على جبهات عديدة، مع إنهاك قواته وتَوزُّعها الذي أضعف جدواها. فكانت الهدن المحلية في البداية، ثم المصالحات، فدمج المصالحة بالتهجير؛ أداة ممتازة للاستفراد بكل منطقة محررة من سيطرته على حدة. كما أن المقترح تجاوز ذلك إلى استقطاب بعض مقاتلي المعارضة ودمجهم في وحدات تابعة للنظام. وقد أدى كل ذلك إلى نتائج مفيدة جداً للأسد الذي وصل، وقتئذ، إلى الحديث عن انتصاره في العام 2018. وقد ترافق ذلك مع شعوره بتراجع الحاجة إلى مستشاره الذي كان قد دخل في خلاف مع لونا الشبل، المحظية. فخرج خالد من البلاد، التي لم يكن يقيم فيها كلياً، وسكن في جزيرة قبرص، حتى أخرجه من عُزلته رفيقٌ قديم.
خلال نشأتهما كانت المدرسة وحيّ المزة قد جمعا خالد الأحمد وأحمد الشرع الذي كان يشتهر بلقب أبي محمد الجولاني، حين تبادل صديقا الشباب الإشارات إلى الرغبة في لقاء في الظل. فكان اجتماعهما الأول في إدلب في صيف العام 2021 مُقدمةً لتعاون لم تتضح تفاصيله الكاملة بعد، حتى التقى الرجلان مجدداً في دمشق التي كان قد سيطر عليها الشرع، وتناولا المرطبات.
بعيداً عن دورٍ تُبالغ التحليلات في نَسبه للأحمد في المساعدة في إسقاط نظام الأسد؛ يبدو أنه عرض على الحاكم الجديد خطة تفيده في تمكين سيطرته، وتقوم، مرة أخرى، على المصالحات. فمنذ وصول الشرع إلى القصر الجمهوري يسكنه هاجس الثورة المضادة. وبالنظر إلى أن العاصمة ومحيطها تحوي أعداداً كافية لذلك من الضباط وصف الضباط والمقاتلين الموالين للأسد سابقاً، وخاصة من العلويين؛ اقترح الأحمد أن إخراج هؤلاء من جحورهم وتحييدهم ضرورةٌ لتأمين الحكم. كما رأى الشرع أن الحصول من كبارهم على مبالغ مالية معتبرة لقاء الأمان وسيلة، من خارج دفتر الحسابات، لاسترداد جزء من «المال الوطني» الذي حصّلوه بطرق فاسدة متعددة.
وبناء على ذلك تم الاتصال بفادي صقر، القائد الشهير السابق في «الدفاع الوطني»، وطلب منه الأحمد استخدام شبكة علاقاته لتطمين المُستهدَفين ودعوتهم تباعاً إلى لقاءات في فندق الفورسيزنز، حيث أقام المستشار، للاتفاق حول التفاصيل برعاية من كان مسؤولَ أمنِ دمشق عبد الرحمن الدباغ، المنقول مؤخراً إلى جهاز الاستخبارات العامة، وبإشراف أنس خطاب، رئيس هذا الجهاز سابقاً وزير الداخلية حالياً. وحين جرى الصدام الدامي في الساحل، في آذار (مارس) الماضي، تم توسيع مهمة صقر لتشمل تلك المنطقة وحمص، لإقناع مجموعات بتسليم أسلحتها مقابل الأمان والإفراج عن معتقلين. ومن جهة أخرى شكّلَ الشرع لجنة عليا للسلم الأهلي بعضوية الأحمد، وشيخين سنّيين من اللاذقية وطرطوس هما حسن صوفان وأنس عيروط.
في الحقيقة لا يَظهرُ خالد الأحمد علوياً كفاية للقيام بهذا الدور، فهو لا يشبه جمهوره المتعيّن. وينقل مقربون منه أن طموحه في الطائفة هو أن يشكّل نوعاً من «الآغا خان» على الطريقة الإسماعيلية، مَرجِعاً ثرياً وبعيداً. وهو ما لا يبدو مناسباً لسياق مختلف كلياً، ولا سيما في الوقت الراهن الذي يعيش فيه العلويون قلقاً مصيرياً فيما يُمضي الأحمد وقتاً طويلاً في بيته بقبرص أو مسافراً إلى أوروبا.
مقالات مشابهة