يبدو الفن كأنه محدِّد أكثر مما هو محدَّد، فهو كاشف للثقافة التي يساهم في صياغتها بقدر ما هو انعكاس لها. وكل أثر فني يحمل في طياته ذاكرة تبني جسراً بيننا وبين الماضي، ذاكرة لا تكتمل إلّا بإعادة إحياء هذا الأثر، الذي لا يُكتب له البقاء ولا الحياة إلا عبر فعل التفكيك والنقد والترحال، وصولاً إلى “غرفة الصدى” بتعبير جاك دريدا.
في 18 مايو/ أيار 2025، يوم المتاحف العالمي، شهد المتحف الوطني في دمشق افتتاح فعالية بعنوان “معتقلون ومغيّبون: الفن يوثق والأرشيف يتحدث”، المستمدّة من عنوان كتاب أطلقته مؤسّسة “ذاكرة إبداعية”، بالتزامن مع اليوم العالمي للمفقودين والمخفيين قسراً، وتستمر الفعالية حتى السادس من حزيران.
تأسست “ذاكرة إبداعية” عام 2013 بصفتها منصةً رقميةً في طور بناء دائم، تهدف إلى توثيق وأرشفة أشكال التعبير الفكري والفني خلال الثورة والحرب السورية. وتوضح مديرة المؤسّسة سنا يازجي أن “ذاكرة إبداعية” هي: “كتابة وجمع وتوثيق حكايات السوريين في تجربتهم، معكوسة في الفن والإبداع، إذ أعادوا من خلالها إنتاج معاني وجودهم الاجتماعي والسياسي والثقافي، واستعادوا الفضاء العام، ومارسوا فعلَ ومسؤوليةَ الانتماء إليه”.
تبرز أهمية الأرشفة الفنية للثورة السورية بكل أشكالها؛ التشكيلية، والكاريكاتورية، والغرافيكية، والفوتوغرافية، والنحتية وغيرها، من دورها في رصد التحوّلات العميقة التي شهدتها البلاد خلال خمسة عشر عاماً، وقد جرى هذا التوثيق وفق منهجية علمية تُراعي التسلسل الزمني وتحديد الهوية وحقوق النشر والحفظ، ما يجعل من هذه المواد وثائق قابلة للاعتماد مستقبلاً في دراسة الواقع السوري، وفي مسار العدالة الانتقالية.
في السياق السوري، لعب الفن دوراً محورياً في إبراز انقسام السوريين إلى ثلاثة فضاءات جغرافية. ففي مناطق النظام، كان الفن مشوّهاً ومختزلاً، لا يتجاوز القصاصات والجداريات المرتبكة. بينما في المناطق الخارجة عن سيطرته، تنفّست الجداريات والرسوم بحرية أكبر. أما في المنفى، فقد عبّر الفن عن اغتراب الإنسان السوري وحنينه، ممزوجاً بجغرافية جديدة.
يستحضر بول ريكور في كتابه “الذاكرة- النسيان- التاريخ” قوله: “كل ذاكرة فردية هي وجهة نظر على الذاكرة الجماعية، وهذه الوجهة تتغير بتغيّر المكان والعلاقات”، ومن هذا المنطلق، حرصت “ذاكرة إبداعية” على توثيق النتاج الفردي والفني الجماعي، خاصة تلك التي أبدعتها مجموعات شبابية جعلت من الفن ملاذاً وحاملاً لقول المقموع.
تشير يازجي إلى أن الدافع لتأسيس المؤسّسة كان الخوف من ضياع هذا الإرث الفني، خاصةً بعد الكم الهائل من الإنتاج في عام واحد هو 2012، في ظل سياسة النظام بمسح كل أثر فني مناهض له.
من أبرز رموز الثورة كان “الرجل البخاخ”، الشاب المُلثّم الذي جاب ليلاً شوارع دمشق يكتب شعارات ضد النظام على الجدران. في أحد الأيام كتب على جدار في الحجر الأسود عبارة: “يسقط بشار الأسد ابن بائع الجولان”، فما كان من الأجهزة الأمنية إلّا أن أضافت حرف “لن” في بدايتها. ورداً على ذلك، صدر مرسوم بوجوب توثيق بيانات كل من يشتري عبوة بخاخ.
حتى المنشورات لم تسلم من القمع، كانت تلقى ليلاً من أسطح البنايات، فيما كانت ردود فعل الناس تتراوح بين الابتسام الصامت والخوف من الاعتقال. وفي حدث بالغ الرمزية، صُبغت بحيرات دمشق بالأحمر للتذكير بدماء الشهداء، مشهَد لم يُمحَ من ذاكرة أهل العاصمة.
في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، كانت لافتات كفرنبل ذروة التعبير الواعي، إذ حملت رسائل موجهة للسوريين والعالم أجمع، وكان وراءها ثوريون مثقفون، أبرزهم الشهيد رائد الفارس. تكرّرت نماذج التعبير الثوري في سراقب، ودير الزور، وعامودا، وداعل، ودرعا، وحماة، وقامشلو، والسويداء وغيرها، عبر الجداريات واللافتات والأهازيج والرقصات الشعبية، حتى النكات الحمصية والقصص الساخرة التي وثّقت جرائم النظام بطريقتها.
امتدت المعركة إلى منصات التواصل، إذ مارس جيش إلكتروني تابع للنظام سياسة التبليغ، واصطدم المحتوى الثوري بسياسات الحذف بحجة أنه “مؤذٍ للمشاعر”، في وقت كان فيه الفنان يعيش في قلب المجزرة. وكأن الرسالة كانت: “اقتُلوا بصمت، دون صور أو صوت”.
لذلك، أدرك السوريون أهمية إنقاذ أدوات المقاومة، وفي مقدمتها “الكلمة”، من المصير ذاته، فكان تأسيس “الأرشيف المواطني” خطوةً ضرورية بسبب غياب أرشيف رسمي. واستطاعت “ذاكرة إبداعية” خلال عشر سنوات جمع نحو 13 ألف مادة فنية.
تعتمد المؤسّسة في عملها على ترجمة لغة الثورة، وتسليط الضوء على الفن بصفته خطّ المواجهة الأول ضد سرديات النظام وبروباغندا الإعلام، فالفن ليس موضوعاً فحسب، بل إنّ طريقة التعبير عنه هي التي تشكّل معناه الحقيقي.
لم يعِ السوريون في بدايات الثورة كثافة اللحظة التي عاشوها، فكل يوم كان كفيلاً بتغيير الواقع. ومع تراكم القهر والمعرفة، تطورت حركة الفن الثوري، واستطاع الإنسان السوري تطويع تراثه، من الأغاني إلى الشعارات، في سياق الحدث الثوري. ومن هنا ولدت ثورة اللغة، ثورة على لغة ممتهَنة قُتلت أحرفها في دهاليز الاستعباد.
في مخيم اليرموك جنوب دمشق، 29 يناير 2025 (أسعد الأسعد/ Getty)
سينما ودراما
مستقبل الدراما السورية: توسع المسكوت عنه؟
طوال عقد من الزمن، راكمت “ذاكرة إبداعية” أرشيفاً حياً، وكما يقول ريكور: “الشهادة لا تنتهي مع إنشاء الأرشيف، بل تُولد من جديد في لحظة تمثيل الماضي سردياً”، والشهادة في هذا السياق هي صوت كل معتقل ومغيّب، سُطّر في ذاكرة الثورة الحية، والذاكرة هي التي تتجه نحو “الذاكرة العادلة”.
ويُنهي دريدا برؤية مفارقة: “من جهة، الفن وعدٌ بإنصاف الضحايا، ومن جهة أخرى، لا يستطيع ترميم الماضي بمجرد استحضاره في الأثر الفني”.
google newsتابع آخر أخبار العربي الجديد عبر Google News