يبدو أنه في لحظات التحولات الجذرية، لا ينهار النظام السياسي فقط، بل تنهار أيضاً توازنات نفسية عميقة لدى الأفراد والجماعات. في الحالة السورية، ومع السقوط المفاجئ لنظام الأسد نتيجة لتوافق دولي غير مُتوقَّع، طبعاً من دون نسيان التضحيات الأسطورية التي قدّمها السوريون، برزت أزمة من نوع آخر، أزمة النخب.
الأزمة بين من شعروا بأنهم “انتصروا أخيراً” بعد سنوات من الانكسار، وآخرون وجدوا أنفسهم فجأة في عالم لا يشبه أي سيناريو توقعوه. تفجّر الانقسام لا على أساس الرؤى أو المصالح فقط، بل على مستوى المشاعر العميقة والهويّة النفسية والطائفية والعرقية. هنا، تبرز الحاجة إلى ما يمكن تسميته “مناطق نفسية آمنة لخفض التصعيد”، على غرار مناطق خفض التصعيد العسكرية التي عرفتها سوريا في السنوات الأخيرة قبل سقوط الأسد. خفض التصعيد، هذه المرّة، ليس بين جهات متحاربة، بل بين نفوس متصارعة، وجراح مفتوحة.
كيف واجه بشرٌ آخرون الصدمة بعد مثل تلك التحولات في بلدان أخرى؟ لم تكن سوريا البلد الأول الذي يشهد نهاية مفاجئة لنظام إجرامي قمعي، لكن الدول التي اجتازت هذه المراحل وجدت أدوات لتفكيك الأزمات النفسية قبل السياسية.
مع لحظة سقوط الأسد، بدا المنتصرون كالسكارى، وظهر عبء النصر على المجتمع والبلد المحطَّم وكأنه يتجاوز النصر. اجتاحت موجة عارمة من النشوة بعض الفئات التي شعرت أن هذا الحدث هو انتصارها الشخصي. هؤلاء لم يعودوا قادرين على تمييز الفارق بين لحظة التحرر، ولحظة الثأر الرمزي. تراهم على وسائل التواصل يسخرون، يُقصون، يُصنّفون الآخرين حتى اليوم، وكأنّ معركة الاعتراف بالنصر لم تنتهِ بعد.
بعض هؤلاء المنتصرين إسلامي متشدد وآخرون إسلاميون معتدلون، لكن هناك حتى يساريون وعلمانيون سيطرت عليهم الموجة، ولم يشذّوا كثيراً عن باقي المنتصرين، وشعبياً هناك مستقلون مُوَجّهون عاطفياً، هم لم يشاركوا في إسقاط النظام ولا معارضته فعلياً. وهو أساساً سقوطٌ أسهمت في تقرير توقيته إرادات دولية معقدة، ومع ذلك يتصرف هؤلاء وكأنّ النصر وليد “حكمتهم” وصبرهم. والنتيجة، عنف رمزي ضد المختلف، توبيخ للمشكك، وسخرية من كل من لم يشاركهم لحظة النشوة.
على الضفة الأخرى، هناك من أصيبوا بما يشبه الفقد الوجودي. ليس لأنهم مؤيدون للأسد بالضرورة، بل لأنهم لم يكونوا يتصورون نهايةً تأتي من خارج سرديتهم. هؤلاء المهزومون المرتبكون يشعرون بألم الخسارة التي انبثقت “بغفلة من الزمن” من داخل الحلم، فلا يجدون مكاناً لأنفسهم في مشهد جديد يرعاه “إسلاميون” حتى لو ادّعوا الاعتدال، ويشعرون بأن النصر لم يكن نصراً لحلمهم عن سوريا، بل صفقة لتسوية لم يُستشاروا فيها. هذه الفئة تعبّر عن نفسها
بصيغ متعددة. انسحاب من الحياة العامة، نزعة تشكيكية، عنف كلامي ضد الجميع، بمن فيهم حلفاء الأمس. ولن نعدم هنا، في المستوى الشعبي، صيغاً وسيناريوهات تفترض أن “الأسد الغائب” سيعود قريباً بنسخة “ماهر الأسد”، عبر تبَنٍّ لصيغ وسيناريوهات مؤامراتية خيالية. وطبعاً هذا كله، في جوهره، ناتج عن صدمة نفسية، من دون أن يستند إلى أية قراءة سياسية.
ولكن، كيف واجه بشرٌ آخرون الصدمة بعد مثل تلك التحولات في بلدان أخرى؟ لم تكن سوريا البلد الأول الذي يشهد نهاية مفاجئة لنظام إجرامي قمعي، لكن الدول التي اجتازت هذه المراحل وجدت أدوات لتفكيك الأزمات النفسية قبل السياسية. في جنوب إفريقيا، المثال الأشهر، شكّلت السلطات الجديدة “لجنة الحقيقة والمصالحة”. فبعد نهاية الفصل العنصري، لم يبدأ مانديلا ببناء الدولة من فوق، بل من القلب. شكَّلَت تلك اللجنة مساحة آمنة، حيث اعترف الجلادون بجرائمهم، واستمع الضحايا، وغُفرت أحياناً الذنوب من دون محاكمات. لم يكن الأمر سهلاً، لكنه حمى البلاد من حرب أهلية نفسية.
في رواندا، بعد الإبادة الجماعية، تم تشكيل ما عُرف بمحاكم “الغاشاتشا” الشعبية. اختارت الدولة هناك أن تعالج الجراح الجماعية عبر القضاء المجتمعي، لا القانوني فقط. جلس القتلة أمام عائلات الضحايا في ساحات القرى، واعترفوا، وبكوا، وسُمح للضحايا بالكلام والرد. لم يكن حلاً كاملاً، لكنه كان وسيلة لتطهير النفس الجمعية من سموم الكراهية.
في تشيلي والأرجنتين، احتاج الأمر سنوات من العمل السياسي الشاق مسنوداً على الضغط الاجتماعي حتى بدأت محاسبة تدريجية لرموز الحكم العسكري. للمفارقة، وبما يشبه حالتنا، لعب المثقفون خلال ذلك، دوراً خطيراً في إذكاء الخلافات والتوترات الطويلة أو التهدئة. من هنا، تبدو مسؤولية النخب الثقافية والسياسية لدينا حاسمة.
إذاً، ما الذي يمكن فعله في سوريا؟ شخصياً أرى، أن سوريا تحتاج، من بين الكثير، إلى “مناطق نفسية آمنة”، هل بدا لكم التعبير ساذجاً، بينما على الأرض هناك كثير من التجاوزات والانتهاكات والجرائم؟ معكم بعض الحق. لكن للتوضيح أنا أعني هنا أن على السلطات والنخب المتوازنة خلق وتعزيز فضاء ثقافي وسياسي وإعلامي، تُعلَّق فيه الأحكام القطعية. فضاءٌ يُشجّع فيه التفهّم بدلاً من مشاعر الانتصار أو الهزيمة. منطقة تُسفّه الشتم أو التشكيك بالنيات، ومحاولات التدمير النفسي للمختلف، والأهم ألا يُفرض فيها الصمت أيضاً. منطقة هي أقرب إلى مساحة علاج جماعي، لا مناظرة سياسية لهزيمة الآخر.
بداهةً، السقوط السياسي لنظام قمعي لا يُنتِج تلقائياً شفاءً مجتمعياً. بل في أحيان كثيرة، يُطلق العنان لأمراض كانت مكبوتة، كما نشهد حالياً في سوريا. وإذا لم نفهم أن ما يجري اليوم هو صراع نفسي أكثر من كونه سياسياً، فقد يودي بنا هذا إلى أن نستبدل نظاماً ديكتاتورياً ضبط المجتمع على إيقاعات سلطته، بنظام آخر مشابه لكن تختلف إيقاعاته كثيراً أو قليلاً عمن سبقه، بما يتناسب مع التصدّعات الجديدة.
سوريا تحتاج إلى خفض تصعيد، ليس في جبهات القتال، بل في جبهات اجتماعية ونفسية وحتى عاطفية.
طبعاً كل ذلك، إن لم يُشفَ المجتمع من تلك الأمراض ويخلق ضوابطه الذاتية، وليس خافياً أننا نعيش اليوم بنظام نفسي جماعي إن لم يكن أكثر تعقيداً مما كان عليه في السابق، فهو معقد بدرجة قريبة مع تجلّيات مغايرة.
السوريون اليوم يحتاجون إلى اعتراف جماعي بالشرخ، وهو شرخ لا يمكن رأبه وتضميده دون أن نعترف بوجوده. نحتاج إلى ما يشبه ميثاقاً اجتماعياً وسياسياً تواصلياً جديداً، يتضمّن قواعد جديدة لخطاب النخب في الحياة العامة وعلى وسائل الإعلام والتواصل. قواعد إن لم تكن تمنع بالقانون العنف الرمزي والتصنيف الأخلاقي، فعلى الأقل يجب أن تدين وتسفِّه مرتكبيه، بما يجعله من بين السلوكيات والقيم المرذولة. ربما تأتي بعد ذلك حلقات نقاش تُخاض فيها حوارات داخلية بين أطراف سياسية وثقافية مختلفة، لا تُبَث، ولا تُعلن، ولكن تُبنى فيها الثقة. قد تكون الأصوات غير المؤدلجة قادرة على لعب دور الوسيط النفسي والرمزي في هذا الموقع الذي يحتاج إلى كثير من الوقت والجهد والصبر.
سوريا تحتاج إلى خفض تصعيد، ليس في جبهات القتال، بل في جبهات اجتماعية ونفسية وحتى عاطفية. المنتصر الحقيقي اليوم، ومن يحق له ادّعاء البطولة، هو من ينتصر على رغبته في الإذلال، فيبتعد عن كل ما يشبه سلوكيات نظام الأسد وجرائمه، ويتطلّع إلى سوريا جديدة ومختلفة. والمهزوم الحقيقي هو من يختار الغرق في أوهام وأحلام وسيناريوهات ستقلب الأوضاع قريباً، بدل الاعتراف بالحقيقة، بأن هناك سوريا جديدة ولدت. بلدٌ إن لم يسهم كامل مجتمع السوريين في تشكيل وجهه، فإن ديكتاتورية جديدة، مدعومة دولياً، ستشكل لها الوجه الذي يناسبها. فاستيقظوا.