لا يوجد مبرر، لا سياسي ولا أمني، لحرب الإبادة الوحشية التي تشنها إسرائيل ضد الفلسطينيين في غزة، منذ 600 يوم، ولا للاعتداءات التي تشنها ضد لبنان وسوريا، إذ لا يوجد، أو لم يعد، ما يهددها في هذين البلدين، أقله في المدى المنظور، لشن ما قد تعتبره حرباً استباقية أو وقائية.
القصد من كل ما تقدم التوضيح أنه لا يمكن إحالة العدوانية الإسرائيلية المتوحشة إلى رغبة رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو في التملص من المحاكمة والمحاسبة، أو إطالة عمره السياسي، في الفوز بأي انتخابات قادمة، كما أنه ليست لذلك علاقة بالضغط لتحرير الرهائن، فهؤلاء لم يعودوا ورقة ضغط منذ أشهر عديدة، لأن كل ذلك استنفد منذ زمن طويل، بعد أن بات نتنياهو بمثابة الزعيم اللامنازع للإسرائيليين، بدليل انحسار المعارضة وأفول نجم كل قادة الأحزاب المعارضة.
على ذلك، فإن تفسير وحشية إسرائيل، وما تقوم به، في ظل حكومة المتطرفين (نتنياهو، سموتريتش، بن غفير)، يكمن في أننا إزاء حكومة أيديولوجية تضم اليمين القومي والديني، أي أن لديها تصوراً معيناً لإسرائيل، ولمكانتها في محيطها، وهي حكومة متطرفين أيديولوجيين حتى ضد اليهود فيها المختلفين معها.
من الواضح أن إسرائيل تحاول، عبر تلك العدوانية، استعادة دورها، كقوة إقليمية وحيدة في الشرق الأوسط، وربما أكثر، على حساب العالم العربي، والقوى الإقليمية الأخرى، أي إيران وتركيا، وهو الدور الذي كرسته بعد حرب 1967، بهزيمتها جيوش أنظمة عربية عدة، بعد أن تضاءل هذا الدور، نتيجة التداعيات الناجمة عن حرب الخليج الثانية، وغزو الولايات المتحدة العراق (2003)، الذي نجم عنه تسهيل صعود دور إيران في المنطقة، الذي تم توظيفه أو استثماره، أميركياً وإسرائيلياً، لتخريب بلدان المشرق العربي، وإحداث تصدعات دولتية ومجتمعية فيها.
ما عزز من ذلك التوجه لدى إسرائيل حالياً أنها تلقى الدعم اللامحدود من الولايات المتحدة، في ظل إدارة الرئيس دونالد ترمب اليمينية المتطرفة، والتي تحارب العالم، بوسائل الاقتصاد والتكنولوجيا والديبلوماسية، لفرض مصالحها وقيمها عليه، بما يشمل حتى الدول الصديقة لها، لذا حصل هذا التلاقي في الأهواء والمصالح والسياسات، الأمر الذي يشجع نتنياهو على شن كل حروبه وهو في غاية الارتياح، على رغم كل ما يقال من خلافات أو تعارضات بينه وبين سياسة ترامب.
كل ما تقدم يفيد بأن ما يفعله نتنياهو هو في صلب التفكير الأمني الإسرائيلي، وأنه فقط كان ينتظر الحكومة التي تتبناه، والظرف الذي يساعد عليه، إذ إنه تبنى التفكير ذاته منذ مجيئه رئيساً لحكومة إسرائيل أول مرة (1996 ـ 1999)، عقب اغتيال اسحق رابين، وهو ما تمثل بسعيه لتقويض اتفاق أوسلو، ووأد فكرة الكيان الفلسطيني، وإخراج الفلسطينيين من المعادلات السياسية نهائياً.
هكذا، فإن إسرائيل لا تقوم بحروبها ضد الفلسطينيين، ولبنان وسوريا، فقط على سبيل وأد أي إرادة للمقاومة مستقبلاً، مهما كان شكلها أو مستواها، ولا على سبيل حرب استباقية وقائية، علماً أنه لم يعد ثمة ممكنات لها في المدى المنظور، لا على صعيد دولتي ولا على صعيد ميليشيوي، كما ذكرنا، إذ هي تتوخى، أيضاً، فرض مجال حيوي جغرافي في محيطها قدره عشرات الكيلومترات، وضمن ذلك منع وجود أي قوة عسكرية إقليمية وازنة، ليس إيران فقط، وهي باتت تحت التهديد، أميركياً وإسرائيلياً داخل حدودها، وإنما ينطبق ذلك أيضاً على تركيا، أي عدم إتاحة أي دور لتركيا في سوريا، في ظل النظام الجديد، باعتبار أن إسرائيل هي القوة الإقليمية الوحيدة في المنطقة، في إطار الهندسة الجديدة للشرق الأوسط.