ملخص
على رغم التقدم الخطر الذي أحرزته إيران في برنامجها النووي، لا يزال التوصل إلى اتفاق نووي جديد ممكناً إذا تضمن رقابة دولية مشددة وقيوداً على تخصيب اليورانيوم ودعم الوكلاء الإقليميين. مثل هذا الاتفاق، حتى إن لم يكن مثالياً، قد يخفف التوتر، ويمنع اندلاع مواجهة عسكرية واسعة، ويعيد بعض الاستقرار للمنطقة، شرط أن يصاغ بحذر ويمنح الوقت الكافي لإثبات فعاليته.
من بين جميع الخطوات في السياسة الخارجية التي خالف فيها الرئيس الأميركي دونالد ترمب الإجماع، لم يكن هناك ما يثير الدهشة أكثر من إحياء المحادثات النووية مع إيران. فترمب انسحب من الاتفاق النووي لعام 2015، المعروف باسم خطة العمل الشاملة المشتركة (لاحقاً في النص – “خطة العمل”) (JCPOA)، في عام 2018. وبعد أربعة أعوام فشلت خلالها إدارة بايدن في التفاوض على اتفاق بديل، بدت احتمالات التوصل إلى اتفاق جديد ضئيلة. في المقابل، خلال الأعوام السبعة التي أعقبت الانسحاب من الاتفاق، أنتجت إيران ما يكفي من اليورانيوم المخصب بمستويات قريبة من درجة إنتاج الأسلحة لتصنيع رؤوس حربية متعددة.
ومع ذلك وعلى رغم تاريخ العداء بينهما، أبدت طهران وواشنطن اهتماماً متبادلاً ومستمراً بالتوصل إلى اتفاق منذ عودة ترمب إلى البيت الأبيض. وعلى مدار عدة جولات من المحادثات، رسم الجانبان أطراً محتملة، ولكل منهما دوافع واضحة للتوصل إلى اتفاق. فإدارة ترمب تريد استعادة بعض الاستقرار الاستراتيجي في الشرق الأوسط، وترمب مهتم شخصياً بتعزيز صورته كصانع صفقات. أما إيران، التي لا تزال تعاني نظام العقوبات الأميركية، فتطمح إلى تحقيق انفراجة اقتصادية دائمة ووقف الأعمال العدائية بعد إضعاف عدد من وكلائها.
وعلى رغم تصريح ترمب برغبته في معالجة الملف النووي بسرعة وإصراره على أن الاتفاق بات قريباً، فإن القضايا الجوهرية العالقة بين الطرفين ستعوق العملية على الأرجح. فمخاوف الولايات المتحدة من برنامج التخصيب الإيراني وتمويل طهران للمجموعات الموالية لها ستظل نقطة خلاف، وكذلك الأمر بالنسبة إلى إحجام إيران عن تقليص برنامجها النووي ومخاوفها في شأن ديمومة أي اتفاق أميركي، نظراً إلى خرق ترمب للاتفاق السابق. وسيكون من الصعب على إيران تقديم تنازلات كافية تجعل الاتفاق النووي مجدياً للولايات المتحدة ولكن من دون تجاوز الخطوط الحمراء الإيرانية.
ما الذي تريده إيران؟
فحتى الاتفاق الذي يتضمن شروطاً مواتية للولايات المتحدة لن يخلو من الأخطار، وأي اتفاق سيتطلب تنازلات غير مريحة من كلا الجانبين. لكن اتفاقاً يمنح إشرافاً واسعاً على المواقع النووية الإيرانية المعلنة وغير المعلنة، ويحد من تخصيب اليورانيوم، مقابل تخفيف بعض العقوبات، يمكن أن يعيد الفوائد التي حققتها “خطة العمل”. وإذا جرى التفاوض على مثل هذا الاتفاق بعناية، وأعطي وقتاً كافياً لاختمار نتائجه، فهو سيصلح بعض الأضرار التي ترتبت على انسحاب واشنطن من الاتفاق الأصلي، ويمنع حدوث أزمة خلال المدى القريب، ويرسي أسساً لبناء الاستقرار الإقليمي مستقبلاً.
أعراض الانسحاب
إن “خطة العمل” التي تفاوضت عليها إدارة أوباما ووقعت خلال صيف عام 2015، فرضت قيوداً مهمة على البرنامج النووي الإيراني. فقد سمحت الخطة بتخصيب اليورانيوم وغيره من الأنشطة النووية، ولكن ضمن قيود صارمة ورقابة دولية مشددة. وبموجب الاتفاق، كان من المفترض إبقاء إيران بعيدة من امتلاك سلاح نووي لمدة لا تقل عن عام واحد في المستقبل المنظور. وعلى رغم أن بعض عناصر الخطة كان محدداً بفترات زمنية تنتهي تدريجاً في مراحل مختلفة على مدى العقدين التاليين، فإن إيران كانت ستتحرر من أهم قيود الاتفاق بحلول عام 2030، مما يسمح لها بالاحتفاظ ببرنامج نووي مشابه تقريباً لما كان لديها عام 2015.
ومع ذلك، واجه الاتفاق انتقادات كثيرة. فقد رأى كثير من المتشددين، وبخاصة داخل الحزب الجمهوري، أن فشل الاتفاق في كبح التقدم النووي الإيراني سيترك لطهران سبيلاً محتملاً نحو امتلاك السلاح النووي إذا تحلت بالصبر. وقالوا إنه من الأفضل أن تواجه واشنطن أزمة نووية عاجلة، بينما لا يزال الاقتصاد الإيراني يعاني العقوبات التي تقودها الولايات المتحدة، بدلاً من الانتظار إلى ما بعد أعوام من تخفيف العقوبات. ووجدت هذه الانتقادات صدى لدى الرئيس ترمب، الذي انسحب من الاتفاق خلال مايو (أيار) 2018، مما دفع إيران خلال مايو 2019 إلى استئناف أعمال البحث والتطوير في مجال أجهزة الطرد المركزي وتوسيع أنشطة التخصيب.
حاول الرئيس جو بايدن التفاوض للعودة إلى الاتفاق طوال فترة إدارته. لكن قادة إيران، الذين كانوا يخشون عودة ترمب إلى السلطة، لم يثقوا في قدرة بايدن على التوصل إلى اتفاق دائم. وعندما تعثرت المفاوضات بين الولايات المتحدة وإيران، امتنعت إدارة بايدن كلياً عن السعي نحو اتفاق جديد، واختارت بدلاً من ذلك تجنب التصعيد. وبرز فشل الإدارتين الأميركيتين في إيجاد بديل لاتفاق عام 2015 بصورة أكبر مع أنباء أفادت بأن إيران أصبحت على بعد أيام فقط من إنتاج ما يكفي من المواد لصنع أول سلاح نووي إذا قررت ذلك.
هناك جوانب لم تكن كافية في نظام التفتيش المنصوص في “خطة العمل الشاملة المشتركة”
لحسن الحظ، لا تزال هناك عناصر من “خطة العمل” من الممكن تطبيقها في اتفاق جديد قد يحظى بدعم من الحزبين. ومن أهم هذه العناصر أدوات الشفافية التي تضمنها الاتفاق الأصلي. فعلى رغم أن معظم النقاشات الدبلوماسية والعامة حول الاتفاق تركزت على مستقبل برنامج التخصيب الإيراني، فإن عمليات التفتيش الدولية باستخدام أحدث التقنيات والمعدات تعد العنصر الأساس الذي يجب أن يبنى عليه أي اتفاق. ويجب أن تمنح إيران الوكالة الدولية للطاقة الذرية حق الوصول لتقييم ما إذا كان برنامجها النووي سلمياً أم يتجه نحو إنتاج الأسلحة. ومن دون تعزيز التفتيش والشفافية، لن يصمد أي اتفاق، سواء طالب بتفكيك البرنامج النووي الإيراني أم لا. بالتالي، ينبغي على الولايات المتحدة إعطاء الأولوية لحمل إيران على الموافقة على نظام تفتيش مكثف وصارم قدر الإمكان، في كل من المواقع المعلنة وغير المعلنة. وإذا لم توافق إيران على الالتزام التام بالمعايير الحالية لـ”اتفاق الضمانات” التابع للوكالة الدولية للطاقة الذرية، والامتثال لـ”البروتوكول الإضافي”، وهو مجموعة من القواعد وضعتها الوكالة عام 1994 كرد فعل على الكشف عن برنامج العراق النووي، فسيتعين على واشنطن الانسحاب من المفاوضات.
ينبغي على الولايات المتحدة أيضاً أن تطالب إيران بقبول آليات الشفافية التي تتضمنها “خطة العمل” فيما يتعلق بأجهزة الطرد المركزي ومخزونات اليورانيوم. وأتاحت هذه الآليات للمجتمع الدولي الاطلاع على موقع أجهزة الطرد المركزي الإيرانية وعددها (سواء المكتملة أو القطع المصنعة [التي ينبغي تجميعها لكي يصبح الجهاز كاملاً وجاهزاً للتشغيل])، إضافة إلى كمية اليورانيوم لديها. ومن دون هذه الشفافية، يمكن لإيران بسهولة تطوير برنامج نووي سري، حتى خلال وقت تعلن فيه نياتها السلمية. بعد مرور سبعة أعوام على انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق، طورت إيران أجهزة طرد مركزي متقدمة، قلصت بصورة دائمة من وقت تحتاج إليه إيران لكي تجتاز مرحلة التخصيب [وهو الوقت اللازم لتخصيب ما يكفي من المواد الانشطارية إلى مستويات يمكن استخدامها لصنع قنبلة واحدة]. علاوة على ذلك، أصبحت قادرة على بناء منشأة تخصيب سرية ذات إشارات رصد أقل [منشآت تنتج إشارات فيزيائية أو إلكترونية أو حرارية أقل من المعتاد]، مما يصعب اكتشافها وتدميرها، وبخاصة بسبب جهودها لتحصين هذه المنشآت ودفنها تحت الأرض. والأسوأ من ذلك، أنه بعد الهجمات على بنيتها التحتية المرتبطة بأجهزة الطرد المركزي عام 2021، توقفت إيران عن منح الوكالة الدولية للطاقة الذرية حق الوصول إلى مكونات أجهزة الطرد المركزي التي تنتجها أو تقديم أية معلومات عن أماكن تخزينها. وحتى في حال التوصل إلى اتفاق بين إيران والولايات المتحدة يقضي بإزالة منشآت التخصيب المعلنة، فإن غياب التصريحات الشفافة وعمليات التفتيش التي تركز على سلسلة إنتاج أجهزة الطرد المركزي يعني أن إيران يمكنها على رغم ذلك أن تطور برنامجاً نووياً سرياً. وستكون استعادة حقوق التفتيش التي نص عليها الاتفاق الأصلي خطوة كبيرة نحو تصحيح هذا الخلل.
ومن المؤكد أن هناك مواضع في نظام التفتيش الذي تضمنه الاتفاق الأصلي لم تكن كافية، ويجب تعزيزها في أي اتفاق جديد. فعلى سبيل المثال، ينبغي أن يتناول الاتفاق الجديد مسألة التسلح النووي بصورة أكثر وضوحاً مما فعلته “خطة العمل”. في البند “ت” T من الاتفاق الأصلي، وافقت إيران على عدم الانخراط في أنشطة التسلح النووي وعدم استخدام تقنيات معينة قد تمكنها من ذلك، لكن لم يطلب من طهران الإعلان عن المعدات الموجودة لديها التي يمكن استخدامها في عملية التسلح، أو السماح للوكالة الدولية بالوصول المنتظم إليها. ونتيجة لذلك، كان التحقق من التزام إيران أمراً صعباً للغاية. على رغم أن الولايات المتحدة اضطرت إلى قبول هذا البند الضعيف عام 2015، إلا أن الأوضاع تغيرت. فبعدما حصلت إسرائيل على وثائق من الأرشيف النووي الإيراني ونشرتها عام 2018، اكتشف محققو الوكالة الدولية مواقع جديدة كانت إيران تعمل فيها على تطوير الأسلحة في الماضي. ومنذ ذلك الحين، تشير تقارير حكومية أميركية إلى أن إيران تواصل العمل على مشاريع ذات استخدام مزدوج يمكن أن تكون ذات صلة بالتسلح. وفي الواقع، بات قادة إيران حالياً يلوحون بصورة متكررة بفكرة إنتاج أسلحة نووية إذا لزم الأمر. لذلك، يجب أن يتضمن أي اتفاق جديد إلزام إيران بالإفصاح عن أية معدات أو مواد تتعلق بتسليح نووي، وفقاً لتعريف “مجموعة موردي المواد النووية”. ويجب كذلك أن يتيح الاتفاق للوكالة الدولية التحقق من كيفية استخدام هذه المعدات والمواد النووية الإيرانية، مع التأكيد الواضح أن أية محاولة إيرانية لعرقلة عمل المفتشين ستمنح واشنطن الحق في إلغاء الاتفاق. ويجب أن يشمل ذلك، صراحة، الوصول إلى المواقع العسكرية.
احتواء برنامج التخصيب الإيراني
الشفافية الدولية شرط أساس لأي اتفاق نووي جديد. لكنها وحدها لا تكفي. يجب على الولايات المتحدة أيضاً أن تطالب بتعديلات على البرنامج النووي الإيراني نفسه.
سيكون من السهل على إيران القبول ببعض هذه التعديلات. ففي “خطة العمل”، وافقت إيران أساساً على إنهاء أية إمكانية قريبة المدى لصنع قنبلة تعتمد على البلوتونيوم، من خلال تعديل مفاعلها القادر على إنتاج البلوتونيوم الصالح للاستخدام في الأسلحة، والامتناع عن أي أنشطة لمعالجة الوقود المستنفد.
لكن بعض التعديلات الأخرى، خصوصاً تلك المتعلقة بالبرنامج الإيراني لتخصيب اليورانيوم، سيكون تقبلها أصعب على طهران. إلى حد ما، إن التقدم النووي الذي أحرزته إيران منذ مايو 2018 جعل بعض القيود المفروضة في “خطة العمل” من دون جدوى. ففي تلك المحادثات، كانت الولايات المتحدة تتعامل مع أجهزة الطرد المركزي الإيرانية من الجيل الأول، وهي أجهزة يمكن تشبيهها بسيارة المراهق الأولى، قادرة على إيصال المستخدم إلى وجهته [أي إنها تؤدي الغرض]، ولكن بكفاءة منخفضة. وكان تقييد البحث والتطوير في أجهزة الطرد المركزي إنجازاً مهماً للولايات المتحدة عام 2015. أما اليوم، فبإمكان إيران تحقيق نتائج أكبر باستخدام عدد أقل من أجهزة الطرد المركزي.
يمكن لإيران أن تطمئن المجتمع الدولي بأنها لا تنوي صنع سلاح نووي سراً من خلال تفكيك برنامجها للتخصيب بالكامل، وإخضاعه لرقابة دولية، مما يسهل اكتشاف المشاريع السرية. وفي ضوء الاتفاق الذي أبرمته طهران مع روسيا لتزويد مفاعل بوشهر النووي الإيراني بالوقود، وفي ظل غياب مفاعلات جديدة قيد الإنشاء تتطلب إمدادات محلية من وقود اليورانيوم المخصب، فإن البرنامج النووي الإيراني الحالي لا يحمل قيمة اقتصادية تذكر. وعلى رغم أن إدارة ترمب تسيء باستمرار تفسير أسباب تخصيب الدول لليورانيوم (فهناك دول عدة تفعل ذلك لأغراض الطاقة، وليس لبرامج الأسلحة)، إلا أن إيران قد تجد مصادر أخرى تمدها باليورانيوم المخصب دولياً، إذا لزم الأمر.
كثيراً ما أكدت إيران أنها لن تفكك برنامجها للتخصيب، على رغم من كل الضغوط والتهديدات والمناشدات الدبلوماسية من الولايات المتحدة وشركائها، مدعية أنها استثمرت الكثير، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، مما يمنعها من التخلي عنه. ويمثل اليورانيوم المخصب أيضاً أفضل فرصة تمتلكها إيران إذا أرادت الاحتفاظ بخيار امتلاك الأسلحة النووية مستقبلاً.
إن المقترحات المعقدة لتفادي هذه المسألة قد تحافظ في نهاية المطاف على آلاف أجهزة الطرد المركزي في حوزة إيران، سواء من خلال إنشاء مشروع مشترك للتخصيب بين إيران والسعودية، أو تشكيل تحالف مع دول أخرى في الشرق الأوسط، أو ربط القيود الصارمة على تخصيب اليورانيوم الإيراني بوتيرة بناء مفاعلاتها النووية [فرض قيود مشددة على تخصيب اليورانيوم تتناسب مع قدرات مفاعلاتها النووية المدنية]، أو وضع ترتيبات سرية لتوريد الوقود تمكن إيران من تحويل اليورانيوم إلى غاز وتصديره للتخصيب في مكان آخر ثم استيراده. وقد تؤدي هذه المقترحات إلى وجود مجموعة من المراقبين الدوليين في المواقع النووية الإيرانية، مما قد يجعلهم دروعاً بشرية بحكم الواقع ويمنع أي هجوم دولي في حال شرعت إيران في إنتاج أسلحة نووية بصورة غير قانونية.
واستطراداً، يمكن للأطراف المتفاوضة التوصل إلى ترتيبات أكثر عملية. لكن في نهاية المطاف، قد تضطر واشنطن إلى تقبل مستوى معين من الأخطار. مع ذلك، فإن اتفاقاً على تخصيب اليورانيوم سيظل يخدم غرضاً بالغ الأهمية لكل من إدارة ترمب وطهران، إذ يمكن للولايات المتحدة قبول بعض التخصيب من جانب إيران مقابل فرض قيود أقوى، ويمكن لإيران الموافقة على هذه القيود من دون أن ينظر إليها على أنها رضخت بالكامل لعدوها اللدود.
مال أكثر مشكلات أكبر
إن رغبة إيران في الحصول على تخفيف أكبر للعقوبات مقارنة بما وفره الاتفاق النووي تفسح المجال للمفاوضات. لذا، ينبغي على الولايات المتحدة أن تبني إطار تخفيف العقوبات الخاص بها على أساس تدريجي يربط تخفيف هذه العقوبات بقيود التخصيب المحلية.
على سبيل المثال، إذا أصرت الولايات المتحدة على وقف طويل الأمد أو دائم لعملية تخصيب اليورانيوم في إيران، فيمكنها أن تعد طهران ليس بتخفيف العقوبات الثانوية فحسب (التي تستهدف الأجانب المتعاملين تجارياً مع إيران) بل أيضاً بإنهاء بعض عناصر الحظر الأميركي. قد يؤدي هذا الاتفاق، على سبيل المثال، إلى رفع العقوبات عن التجارة في مشاريع التصنيع التجارية والطاقة مع الإبقاء على العقوبات المفروضة على التكنولوجيا العسكرية أو ذات الاستخدام المزدوج، وأنشطة الحرس الثوري الإيراني، ووكلاء إيران. ستكون هذه خطوة جريئة، مماثلة لقرار ترمب بتعليق جميع العقوبات الأميركية على سوريا على أمل أن تفي الحكومة السورية الجديدة بوعودها حول الشمولية والإصلاح. وفي الواقع، تتمتع إدارة ترمب بمرونة سياسية أكبر لتقديم مثل هذا العرض مقارنة بإدارتي أوباما أو بايدن، وذلك بفضل دعم الحزب الجمهوري لمبادرات ترمب في السياسة الخارجية.
شن ضربة ضد البرنامج النووي الإيراني قد يؤدي إلى صراع أوسع بكثير
إيران ستجني فوائد كبيرة من رفع العقوبات بصورة ملموسة. فقد ألحقت العقوبات الأميركية أضراراً جسيمة بالاقتصاد الإيراني، وقيدت قدرة طهران على التجارة أو والتعاملات المصرفية الدولية، وقوضت قطاعاتها الحيوية وبنيتها التحتية. وصعبت استمرار تدفق الكهرباء والغاز الطبيعي، مما أضر بصورة بالغة بالقاعدة الصناعية الإيرانية. لذا، فإن تخفيف العقوبات من شأنه أن يزيد القدرة التصنيعية لإيران، ويفتح الباب أمام الاستثمار المالي والتكنولوجي الأجنبي اللازم لإخراج البلاد من دوامة الانحدار.
ولكن حتى تخفيف العقوبات بصورة محدودة سيأتي على حساب الجهود الأميركية الأخرى الرامية إلى احتواء نفوذ إيران في الشرق الأوسط. ستستخدم إيران بعض الإيرادات الجديدة للمساعدة في إعادة بناء “محور المقاومة” التابع لها، الذي تعرض لضربات إسرائيلية خلال الأشهر الثمانية عشر الماضية. يمكنها أيضاً تعزيز قدراتها على العمل السري وقواعدها العسكرية المحلية، بما في ذلك برامجها الصاروخية وقواتها البحرية (التي يمكن استخدامها لمضايقة حركة الملاحة في جميع أنحاء المنطقة). وعلى رغم أن العقوبات الأميركية بعد الانسحاب من “خطة العمل” لم تمنع إيران من تمويل وكلائها، الذين ينجزون نتائج كبيرة بأدوات وإمكانات محدودة، فإن الولايات المتحدة ستضطر إلى تقبل إمكانية أن تخفيف العقوبات بصورة يتناسب مع تنازلات إيرانية كبيرة قد يؤدي إلى إعادة تسليح المنظمات التي سعت واشنطن جاهدة إلى تفكيكها.
ومن أجل تجنب هذه النتيجة، ينبغي على الولايات المتحدة الإصرار على أن يتضمن أي اتفاق مع إيران قيوداً على تصدير طهران للصواريخ والطائرات المسيرة وغيرها من المركبات الهجومية البعيدة المدى، أو نشرها خارج أراضيها. كما يمكنها مطالبة إيران بعدم التدخل في الشؤون الداخلية لدول المنطقة الأخرى. ومن شبه المؤكد أن إيران لن تحترم هذا الالتزام، لكن أية انتهاكات مستقبلية قد تشكل تبريراً لردود فعل مستقبلية.
تحقيق الأفضل
منذ انسحاب الولايات المتحدة من “خطة العمل”، حقق البرنامج النووي الإيراني تقدماً كبيراً وخطراً. فطهران باتت الآن على عتبة التحول إلى دولة تمتلك أسلحة نووية، وقد تشعر، بعد تدمير جزء كبير من قوات المجموعات التابعة لها، أنه لم يعد أمامها خيار سوى تجاوز هذا الأمر. على مدى عقود، في عهد رؤساء ديمقراطيين وجمهوريين على حد سواء، سعت السياسة الأميركية على نحو صحيح، لمنع حصول هذا الاحتمال، باستخدام القوة إذا لزم الأمر. والآن، تقترب واشنطن من لحظة الحسم.
لكن مجرد ضرورة استعداد واشنطن لاستخدام القوة من أجل منع إيران من امتلاك أسلحة نووية، لا يعني أن العمل العسكري هو الخيار الأمثل. فشن ضربة ضد البرنامج النووي الإيراني قد يؤدي إلى صراع أوسع بكثير، تطارد فيه الولايات المتحدة وإسرائيل المواقع النووية الإيرانية السرية، وترد فيه طهران في الشرق الأوسط وخارجه. بدلاً من ذلك، ينبغي على الولايات المتحدة أن تستغل ما لديها من أوراق ضغط، إضافة إلى القبضة الحديدية التي يتمتع بها ترمب على الحزب الجمهوري، لإبرام اتفاق، حتى لو لم يكن مثالياً، ما دام ذلك لا يزال ممكناً. وقد يتمكن ترمب حتى من الوفاء بالوعد الذي قطعه عام 2018 بالتوصل إلى اتفاق أفضل من “خطة العمل”. كان من شأن الاتفاق الذي يسعى إليه أن يوسع صلاحيات التفتيش، ويفرض قيوداً على الأعمال المتعلقة بتصنيع الأسلحة النووية، ويقيد دعم إيران لوكلائها. وبصورة غير متوقعة، تمتلك الإدارة فرصة ذهبية للتوصل إلى اتفاق وعليها أن تغتنمها.
ريتشارد نيفيو باحث بارز في مركز سياسات الطاقة العالمية في جامعة كولومبيا. وزميل مساعد في برنامج برنشتاين في معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى. شغل منصب نائب المبعوث الأميركي الخاص بإيران خلال إدارة بايدن، وكان عضواً في مجلس الأمن القومي ووزارة الخارجية خلال إدارة أوباما.
مترجم عن “فورين أفيرز”، 26 مايو، 2025