ملخص
ولد الأديب الكيني نغوغي وا ثيونغو عام 1938، بينما كانت كينيا تحت الحكم الاستعماري البريطاني، وكان واحداً من 28 طفلاً لأب متزوج من أربع زوجات.
لئن لم ينل الأديب الكيني الراحل نغوغي وا ثيونغو (87 سنة) جائزة نوبل التي رشح لها مرات عدة، فقد نال جائزة النزاهة والشجاعة في التعبير الأكثر مهارة ومأسوية عن آلام القارة الأفريقية وأشواقها، فضلاً عن كون كتاباته اشتملت على نقد عميق وجذري للاستعمار بوجوهه المتعددة، الشائهة بطبيعة الحال.
وتكمن أهمية نغوغي وا ثيونغو الذي رحل في أتلانتا بالولايات المتحدة، في الثورة ليس فقط على الاستعمار والطغيان والقمع، بل أيضاً في العودة إلى ينابيع التعبير اللغوي، حين قرر بصورة شجاعة ألا يكتب بلغة المستعمر الإنجليزية، بل بلغته الأم (الكيكويو)، ثم أعقب ذلك التحرر من الاستعمار اللغوي، بتغيير اسمه الأول (جايمس) وجرت هذه القطيعة عام 1977، بعدما كان أنجز روايات بالإنجليزية، معيداً إلى المحلية حضورها قولاً وفعلاً، وكاشفاً عن مجابهة ثقافية عنيدة تضحي بالانتشار والرواج لمصلحة الحفاظ على الروح الأصلية في التعبير وصيانة الذاكرة وتخليق الوعي وبث الثقة في الهوية.
كان وا ثيونغو، الذي غيبه الموت أواخر مايو (أيار) الجاري، في هذا النظر العميق يتصرف بوحي من المفكر الثائر الذي في داخله، وقد أدرك آليات الهيمنة، بعدما أنجز المهمة الأصعب، أي المطابقة بين التنظير والتطبيق، فتحرر وحرر تصوراته، لأن “من أعظم مآسي أفريقيا الانفصال التام للنخبة عن قاعدتها اللغوية”، كما قال.
ولد نغوغي، كما تقول سيرته، عام 1938، بينما كانت كينيا تحت الحكم الاستعماري البريطاني، وكان واحداً من 28 طفلاً لأب متزوج من أربع زوجات. عاصر الفتى، الذي تزوج في ما بعد مرتين، وأنجب تسعة أبناء (أربعة منهم مؤلفون هم تي نغوغي، وموكوما وا نغوغي، وندوكو وا نغوغي، ووانجيكو وا نغوغي) انتفاضة الماو ماو (1952 حتى 1960)، وأثرت في حياته بصورة مدمرة، إذ سجنت السلطات عشرات، بل مئات الآلاف من شعبه، وأساءت معاملتهم وعذبتهم. في غضون ذلك أجبر والد نغوغي، وهو من قبيلة الجيكويو، التي تعد أكبر جماعة عرقية في كينيا، على ترك أرضه، وقتل اثنان من إخوته.
وشكل هذا الصراع، كما تقول “الغارديان” خلفية لرواية نغوغي التي صنعت شهرته: “لا تبك أيها الطفل”، التي نشرت عام 1964، بعد سنة واحدة فقط من استقلال كينيا، وتروي قصة تعليم نغوغي، أول فرد في عائلته يلتحق بالمدرسة، وكيف انقلبت حياته رأساً على عقب بسبب الأحداث التي أحاطت به. وأصبحت الرواية جزءاً أساساً من التراث الأدبي الأفريقي.
بعد ذلك، تسببت مشاركة نغوغي في تأليف مسرحية مكتوبة بلغة الكيكويو، “سأتزوج متى شئت” عام 1977، التي قدمت نظرة لاذعة للصراع الطبقي في كينيا، وأدت المسرحية إلى اعتقاله في سجن ماميتي الشديد الحراسة، بقرار من حكومة الرئيس جومو كينياتا لمدة عام من دون محاكمة.
ومن “فضائل” ذلك الاعتقال أن نغوغي كتب روايته الأولى باللغة الكيكويو “الشيطان على الصليب”، أثناء وجوده في السجن، ويقال إنه استخدم ورق التواليت للكتابة.
وبعد إطلاق سراحه عام 1978، نفي إلى بريطانيا، ثم استقر في الولايات المتحدة، حيث عمل أستاذاً للغة الإنجليزية والأدب المقارن في جامعة كاليفورنيا. وبقي يكتب بلغته الأم، ويترجم بنفسه رواياته إلى الإنجليزية، كي يسمع العالم الصوت الغائب عن السجال السياسي والأدبي في بلاده وقارته المنسية. ورشح لجائزة بوكر العالمية عام 2021 عن روايته الشعرية الملحمية “التسعة المثاليون”، وكان أول مرشح للجائزة يكتب بلغة أفريقية أصلية.
المشاغل الفكرية
يعرف نغوغي بأنه من أبرز دعاة الأدب المكتوب باللغات الأفريقية، وهذا محركه النزعة العميقة للتحرر من إرث الاستعمار وأدواته القهرية ضد الوعي، فضلاً عن كون جهود نغوغي تندرج في إطار النقد الثقافي لإرث الكولونيالية الذي نظر إليه إدوارد سعيد، وفرانز فانون. وخص سعيد المفكر الكيني بانتباهات عميقة في كتابه “الثقافة والإمبريالية”، لا سيما ما يتعلق بالدراسات المناهضة للهيمنة عبر دراسة مستعمرات أوروبا السابقة، وكيف استجابت لإرث الكولونيالية الثقافي، وهو ما كافح من أجله نغوغي، دفاعاً عن الثقافة الأفريقية في وجه المركزية الأوروبية الساحقة للهويات والعابرة للحدود والتاريخ الخاص للجماعات والقوميات المتعددة.
خفايا فوز الأميركي الأول بجائزة نوبل للأدب عام 1930
الأكاديمية السويدية تتجاهل أخطاء بيتر هاندكه وتمنحه نوبل للأدب… والفائزة الثانية البولندية اولغا توكارتشوك
زعازع ديمقراطية كينيا “الاستثنائية”
كان نغوغي ماركسياً، وهذا أثر في صلابة مقاومته الثقافية، ومكنه من تحليل ديناميات الاستلاب، لكن الانتساب الفكري والأيديولوجي للكاتب الأفريقي الأكثر شهرة في مواجهة الهيمنة “البيضاء”، لم يوقعه في شراك اللغة الاحتجاجية المباشرة، وظل أدبه ممسكاً بناصية التعبير الجمالي، وفي الوقت نفسه التعبير عن أشواق المعذبين المقهورين في القارة السمراء، وفي عالم الجنوب عموماً، في سائر أشكال التعبير التي سلكها من القصة والرواية والمسرح والكتابة للأطفال، إلى المقالات والدراسات النقدية والفكرية.
حضور نغوغي في الثقافة العربية
تعرف قارئ العربية على أعمال نغوغي، إذ ترجمت غالبيتها إلى العربية. ومن كتبه المترجمة إلى العربية، “تصفية استعمار العقل” الذي صدر عام 2011 عن دار التكوين في سوريا بترجمة سعدي يوسف، الذي ترجم له أيضاً رواية “تويجات الدم” التي صدرت عن الدار نفسها عام 2012.
ومن الكتب الأخرى، “جدل العولمة: نظرية المعرفة وسياساتها” الذي صدر عن مؤسسة كلمة في أبوظبي بترجمة سعد البازعي، عام 2014. كما صدر لنغوغي رواية “النهر الفاصل” عن دار المدى عام 2019، بترجمة عبدالله صخي، وصدر له عن الدار نفسها رواية “حبة قمح” 2020، بترجمة عبدالكريم محفوظ. وصدرت للكاتب الكيني رواية “لا تبك أيها الطفل” عن دار روايات بالشارقة عام 2021، بترجمة أمينة الحسن. كذلك أصدرت الدار نفسها عام 2022 رواية “شيطان على الصليب” بترجمة فجر خالد، وكذلك كتاب “أحلام في حقبة حرب: سيرة طفولة”، عام 2023 بترجمة ريوف خالد.
وضمن سلسلة “عالم المعرفة” بالكويت، عام 2024 صدر كتاب “نهضة الرواية الأفريقية: طرائق اللغة والهوية والنفوذ”، الذي ترجمه صديق محمد جوهر.