في وقت كانت فيه عيون الصحافيين تتابع بتوجس الإشارات المتبادلة بين دمشق وتل أبيب، جاءت الغارة الجوية الإسرائيلية مساء أول من أمس الجمعة على أطراف مدينة اللاذقية لتحمل إيقاعاً مختلفاً، خرق الصمت الذي سبق الخطوة الأميركية المنتظرة، وطرح أسئلة جدية بشأن جدوى أي حوار، ولو كان غير مباشر مع إسرائيل.
قالت الحكومة السورية، على لسان وزير الإعلام، حمزة المصطفى، إن المحادثات التي جرت مع إسرائيل لم تكن مباشرة، واقتصرت على البحث في آليات العودة إلى اتفاق فك الاشتباك لعام 1974. ومع أن التصريحات جاءت حازمة في نفيها تقارير إسرائيلية وأخرى من وكالة رويترز عن محادثات أمنية مباشرة، فإن التوقيت، كالعادة، قال أشياء أكثر مما قيل رسميّاً. إذ تزامن المؤتمر الصحافي مع سقوط صواريخ إسرائيلية على منشآتٍ قالت تل أبيب إنها “تشكّل تهديداً أمنيّاً” في الساحل السوري، وبالتحديد مخازن يُزعم إنها تحوي صواريخ أرض– بحر.
لم تكن هذه المرّة الأولى، وقد لا تكون الأخيرة. فالذاكرة السورية الجديدة مثقلة بسلسلة من الغارات الإسرائيلية التي باتت جزءاً من إيقاع الحرب الباردة الدافئة في المنطقة. ومع أن الشهر الماضي (مايو/ أيار) شهد خفوتاً نسبيّاً في هذه الاعتداءات، خصوصاً بعد اللقاء الذي جمع الرئيس السوري أحمد الشرع بالرئيس الأميركي دونالد ترامب في الرياض، إلا أن هذا الهدوء يبدو حالياً أشبه باستراحة في سرديةٍ لم تُكتب نهايتها بعد.
في عمق الصورة، تتحرّك واشنطن بحذر، عبر المبعوث الأميركي الجديد إلى سورية، السفير توماس باراك، المقرّر أن يزور دولة الاحتلال الأسبوع الحالي، برفقة نائب مبعوث ترامب لشؤون الشرق الأوسط، موغان أورتاغوس، بهدف، كما تتداول الأوساط الدبلوماسية، تهيئة الأرضية لمفاوضات غير رسمية بين الطرفين السوري والإسرائيلي، قد تفضي لاحقاً إلى اتفاق “عدم اعتداء” يشكّل مدخلاً لحوار أوسع.
وقد قال باراك نفسه لصحافيين أميركيين إن “مشكلة سورية وإسرائيل قابلة للحل”، في تصريح يبدو كأنه خرج من زمن مختلف، فبينما تعبّر دمشق عن استعدادها لاستكشاف الحلول، تواجه مقاربتها واقعاً سياسياً إسرائيلياً يقوده يمين متطرّف يجد في القوة العسكرية منطقاً دائماً، لا تهزّه خطابات التهدئة، ولا تغيّره المبادرات الدبلوماسية.
المفارقة في المشهد أن تل أبيب، وبالرغم من هذا الانفتاح الأميركي، تواصل فرض شروطها عبر الجو، فلم تكن الغارة أول من أمس فقط رسالة إلى دمشق، بل كانت إشارة واضحة إلى واشنطن: نحن لا نتلقّى التعليمات بسهولة. … وهذا ما أكّده وزير الأمن الإسرائيلي، يسرائيل كاتس، حين أعلن أن الضربة استهدفت تجهيزاتٍ تهدّد أمن إسرائيل، في لهجةٍ لا تختلف كثيراً عن التي رافقت أضخم عملية نفّذها سلاح الجو الإسرائيلي في تاريخه كله، وطاولت مطاراتٍ ومنشآتٍ استراتيجية بعيد سقوط نظام الأسد.
تشهد الحدود الجنوبية لسورية، على وجه الخصوص، حركة تفاوضية موازية، بعضُها سرّي وبعضُها مكشوف، فالتسريبات عن مباحثات في أذربيجان بين تركيا وإسرائيل حول إنشاء “خط ساخن” لتفادي الاشتباك جنوب سورية، تعيد صياغة فهمنا لمفهوم “المنطقة العازلة”، خصوصاً مع إصرار تل أبيب على نزع السلاح من محافظات درعا، القنيطرة، والسويداء.
في خلفية المشهد، تقف دمشق عند تقاطعٍ صعب: رغبة في التهدئة من جهة، وشكوك عميقة في نيات الطرف الآخر من جهة ثانية. ومع كل صاروخٍ يسقط، تتراجع إمكانية الوصول إلى حل، حتى وإن بدت واشنطن متحمسة لفتح فصلٍ جديد.
ليس التصعيد أخيراً حدثاً معزولاً. إنه عودة الصوت إلى مشهد لم يغادره التوتر. وحين يهبط السفير الأميركي في تل أبيب خلال أيام، سيكون أمام أول اختبار فعلي لجدّية مقاربة ترامب الجديدة للشرق الأوسط. فالتهدئة، حتى إن بدت فكرة قابلة للنقاش، لا يمكنها أن تولد أيضاً في ظل قصفٍ مستمر، ولا أن تعيش طويلاً في غياب الاعتراف الواضح بسيادة سورية على أراضيها، ولا بمعزل عن مآلات القضية الفلسطينية.
ولكن هل يستطيع توماس باراك، الدبلوماسي الطَموح المليء بالوعود، أن يرسم حدود تهدئة حقيقية بين دمشق وتل أبيب؟ سؤال تصعب الإجابة عنه، خصوصاً أن الطائرات الإسرائيلية ومع كل طلعةٍ تنفذها فوق الأراضي السورية تزيد مهمته صعوبة وتزيد ملامح المشهد تعقيداً.