–
ينصرف الذهن عند الحديث عن الهُويّة إلى أسئلة من نوع: مَن أنا؟ ومَن الآخر، ولا ينحصر”الآخر” هنا بمن هو خارج سياقنا الثقافي والتاريخي القومي أو الوطني – المحلي، وإنما يشمل أيضاً الآخر في الثقافة الواحدة ذاتها، وفي الحيّز الجغرافي والتاريخي الواحد، الذي حتى وإن شكلَّ نسيجاً وطنياً واحداً، على درجة كافية من التماسك، لكنّه ينطوي على عناصر متعددة، آتية من جذور مختلفة، أومن ملابسات تطوّر تاريخي مختلفة، اندمجت واتحدت، دون أن تغادر بعض أوجه خصوصياتها التي لا يمكن اختبارها إلا في العلاقة مع الآخر، حتى لو كان قريباً، ولا يكاد يخلو مجتمع من المجتمعات، مهما بلغت درجة تجانسه، من أسئلة تطرحها “الأنا” على ذاتها وعلى الآخر في إطار ثنائية التعايش والاختلاف.
يقول فيلسوفنا العربي ابن رشد إن”الهُويّة تُقال بالترادف للمعنى الذي يطلق على اسم الموجود، وهي مشتقّة من الهُوّ كما تُشتق الإنسانية من الإنسان”، أما بيار بورديو فيرى أنّ “الأفراد والجماعات يستثمرون كينونتهم الاجتماعية كلّها في صراعات التصنيف، وكل ما يحدد الهُويّة التي يكونونها عن أنفسهم، وكل ما لا يمكن التفكير فيه والذي من خلاله يتشكلون كـ”نحن” في مقابل “هم” و”الآخرون” ويتمسكون بهذا الذي لا يمكن التفكير فيه عن طريق التحام شبه جسدي، وهو ما يفسر القوة التعبوية الاستثنائية لكل ما يمس الهُويّة”.
وهناك مفاصل تُسعف في الإمساك ببعض مُكونات الهويّة، على شكل سمات مشتركة تربط بين أفراد أمة من الأمم أو جماعة بشرية من الجماعات، كاللغة، مثلاً، حين يدور الحديث عن هويّة لغوية – ثقافية لشعبٍ من الشعوب أو أمةٍ من الأمم.
ويُعدّ الدين أهم عناصر الهُويّة، لأنّه يشكّل لمعتقديه عامل طمأنينة وسكينة، تُوحدهم. ويمكن أن يكون الجنس، بمعنى التقسيم الجندري بين الرجال والنساء، مُحدّداً آخر للهوية حين يدور الحديث عن اتحادات أو تجمعات النساء مثلاً بالنظر لما للقضية النسوية من خصوصية، بوصفها تعبيراً عن كفاح النساء من أجل حقوقهن. ويصبح لون البشرة، في حالٍ أخرى محدّداً لهُويّة تجمع بين الأقليات في مجتمع من المجتمعات، أو حتى هويّة جماعية لشعوب قارة بكاملها، كما هي الحال بالنسبة لأفريقيا مثلاً، على النحو الذي شرحه فرانز فانون في: “بشرة سوداء .. أقنعة بيضاء”، وما يصحّ على السود والملوّنين يصحّ على البيض في حالات أخرى.
الهُويّات العامة، الجامعة، عادة ما تتشكّل من مجموعة هويّات فرعية، ويمكن لهذه المكوّنات الفرعية للهويّة أن تشكّل عامل إغناءٍ وإثراءٍ للهويّة الجمعية، فالتعدد الثقافي والحضاري في أي مجتمع هو أمرٌ صحيّ ومقبول، ذلك أن الشعور بالانتماء لهويّة فرعية، في إطار هويّة وطنية أو قومية أو إنسانية، لا يشّكل في حدّ ذاته إشكالية، غير أن تغذية الهُويّات الفرعية بمشاعر رفض الآخر، هو الذي أدى إلى ما يشهده عالم اليوم من انفجارٍ في الهُويّات الفرعية، حين يؤدي التضخيم المفتعل لهذه الهُويّات – الفرعية – إلى الانقسامات الحادة وحتى الحروب الأهلية، فتصنع الخلافات “هُويّات قاتلة” بتعبير أمين معلوف في كتابه الذي يحمل العنوان نفسه.
وفق هذا الفهم، يمكن لتعدّد الهُويات أن يصبح قاتلاً عنه تنجم ضحايا، حين نقف أمام حديث معلوف أيضاً عن “الهويّات الجريحة”، إذا لم يحسن أبناء المجتمعات المعنيّة صوغ العلاقة بين التكوينات المتعدّدة فيها، وتكريس مبدأ المواطنة المتكافئة والمتساوية في الحقوق والواجبات، ونبذ صور التمييز والإقصاء التي استمرأتها الكثير من الأنظمة، فدفعت بشعوبها نحو التطاحن عند اللحظة التي تتراخى فيها القبضة المركزية للسلطة، وقد يجد أصحاب “الهويّات الجريحة” أنفسهم مندفعين في ما يشبه الثارات لأنفسهم من ظلم أو إجحاف أو تمييز لحق بهم، في ردود فعلٍ قد تبلغ حدّ العنف، والتجربة الإنسانية المديدة تدلّ على أن أية هويّة يتعرض أصحابها للاضطهاد، تستنفر في داخلها آليات مقاومة عنيدة، تحت ضغط غريزة البقاء والتشبث بالحياة.
وإن بدا ظاهرياً، وتحت تأثير القمع، أن هذه الهويّات قد انكمشت على نفسها وربما تعرضت للذوبان، فإن ذلك لا يعدو كونه وهماً. كلّ ما في الأمر أنها تتحيّن أقرب فرصة للتعبير عن نفسها مجدّداً فتعود بقوة أكبر وأعنف، والأمثلة على ذلك في واقعنا العربي الراهن أكثر من أن تحصى.
google newsتابع آخر أخبار العربي الجديد عبر Google News